التغير المناخي... والتحذيرات
الأميركية القديمة
نعومي أوريسكيس
بعد صدور تقرير "الفريق الدولي حول تغير المناخ"، وهو
الرابع من نوعه منذ تأسيسه في 1988، يمكن القول إن الكثيرين سيركزون
على الجديد الذي أتى به التقرير: كيف تغيرت التقديرات بشأن ارتفاع
مستوى البحر؟ ومتى ستتضاعف معدلات ثاني أكسيد الكربون الحالية؟ والواقع
أنه إذا كان العلماء والصحافيون يركزون على الجديد، فذلك لأنهم يحرصون
على الاكتشاف؛ غير أن المهم من وجهة نظر سياسية لا يكمن فيما هو جديد،
وإنما في ما هو قديم. ذلك أن ما هو أهم من التفاصيل التي قد تكون تغيرت
منذ التقرير الأخير، أو التي قد تتغير مرة أخرى في التقرير المقبل، هو
حقيقة أن الإطار الكبير قد نشأ. والواقع أن هذا الإطار موجود منذ نصف
قرن تقريباً، وإنْ كان القليلون فقط من يدركون ذلك، حيث سعى العلماء
طيلة هذه الفترة إلى تحذيرنا ولفت انتباهنا إلى أهميته.
تعود البحوث العلمية الأولى حول ثاني أكسيد الكربون
والمناخ إلى القرن التاسع عشر، عندما صنف العالم الإيرلندي "جون تيندل"
ثاني أكسيد الكربون ضمن الغازات المسببة للاحتباس الحراري -بمعنى أنه
يحافظ على بقاء الحرارة في الغلاف الجوي المحيط بالأرض ويمنعها من
الانفلات إلى الفضاء الخارجي. وإذا كان العلماء قد توصلوا إلى هذا
الأمر في القرن التاسع عشر باعتباره حقيقة تميز كوكبنا وتجعله مؤهلاً
لاحتضان مظاهر الحياة، فإنه لم تكن له حينها أية تداعيات سياسية.
غير ذلك سرعان ما تغير مطلع
القرن العشرين، عندما خلص العالم السويدي "سفانتي أرينيوس"، بناء على
بحوث "تيندل"، إلى أن ثاني أكسيد الكربون الذي يُطرح في الجو جراء
احتراق الوقود الأحفوري يمكن أن يغير مناخ كوكب الأرض. وبحلول عقد
الثلاثينيات، جمع المهندس البريطاني "غاي كالاندار" دلائل تجريبية تفيد
بوجود هذا التأثير.
وقد تواصل قلق "كالاندار" في عقد الخمسينيات مع عدة
علماء أميركيين مثل عالم المحيطات "روجر ريفيل"، وزميله "تشارلو ديفيد
كيلينغ". إلا أن معظم العلماء لا يعلمون أنهم -وآخرين- كانوا يعبرون
بذلك عن مخاوفهم إزاء الاحترار الأرضي لرؤساء أميركيين من الحزبين منذ
عقد الستينيات.
فمن بين التحذيرات المبكرة ما صدر عن "مجلس التلوث
البيئي" التابع للجنة العلمية الاستشارية في البيت الأبيض عام 1965،
وجاء فيه "إننا سنحدث تغييراً على التوازن الحراري للمناخ إلى درجة
احتمال حدوث تغير فيه". وإذا كانت إدارة الرئيس بوش قد رفضت قبول هذا
الواقع، فإن إدارة أميركية سابقة اعترفت به باعتباره حقيقة علمية. ففي
رسالة خاصة إلى الكونجرس في فبراير 1965، قال الرئيس "ليندون جونسون":
"لقد غيَّر هذا الجيل تركيبة المناخ على نطاق عالمي عبر الارتفاع
المطرد لثاني أكسيد الكربون الناتج عن احتراق الوقود الأحفوري".
أما التحذير الثاني فقد صدر عام 1965 أيضاً عن "لجنة
تغير المناخ والجو" التابعة لـ"الأكاديمية القومية الأميركية" برئاسة
عالم الفيزياء الجيولوجية "جوردون ماكدونالد"، الذي عمل لاحقاً في
"مجلس جودة البيئة" في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. وخلصت اللجنة فيه
إلى أن من شأن ارتفاع في معدلات ثاني أكسيد الكربون أن يؤدي إلى "تغير
مناخي غير مقصود". وفي 1974، أي عقب الحصار النفطي العربي، أشار العالم
"إلفين وينبورغ" إلى أن التأثيرات المناخية قد تؤثر على إنتاج النفط
أكثر من العوامل الجيولوجية. وفي 1978، قال "روبرت وايت"، أول مدير
لـ"هيئة المحيطات والمناخ الوطنية"، ولاحقاً مدير "الأكاديمية القومية
للهندسة": "نعلم اليوم أن النفايات الصناعية مثل ثاني أكسيد الكربون
الذي يُطرح في الجو أثناء احتراق الوقود الأحفوري يمكن أن تكون لها
عواقب مناخية تشكل تهديداً للمستقبل".
وفي 1979، انكبت "لجنة جيسون"، وهي لجنة تضم علماء
لامعين يجتمعون سنوياً وتمثل هيئة استشارية بالنسبة للحكومة، على بحث
الموضوع؛ فتوقع علماء اللجنة احتمال تضاعف كمية ثاني أكسيد الكربون في
الجو بحلول 2035، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى زيادة طفيفة في حرارة
العالم تقدر بدرجتين إلى ثلاث درجات سيلسيوس، وارتفاع حرارة القطبين
بمستوى قد يصل إلى ما بين 10 درجات و12 درجة. وقد وصل التقرير إلى
البيت الأبيض في عهد الرئيس كارتر، ثم أحاله "فرانك بريس"، المستشار
العلمي للرئيس، إلى "الأكاديمية القومية للعلوم" التي طلب منها الإدلاء
برأيها في الموضوع. فأكدت لجنة تابعة للأكاديمية، يرأسها عالم المناخ
"جول تشارني"، خلاصات "لجنة جيسون" حيث قالت في تقريرها: "إذا واصل
ثاني أكسيد الكربون ارتفاعه، فلا يوجد ما يدفع إلى الاعتقاد بأن تغيراً
في المناخ لن يحدث، وبأن هذا التغير سيكون بسيطاً".
والواقع أن هذه المخاوف هي التي أفضت إلى إنشاء "الفريق
الدولي حول تغير المناخ" في 1988، وإلى "اتفاقية الأمم المتحدة الإطار
حول تغير المناخ" في 1992، والتي دعت إلى تحرك فوري من أجل وقف ارتفاع
انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وقد كان من بين الموقعين
الأوائل على هذه الاتفاقية الرئيس جورج بوش الأب، الذي دعا زعماء
العالم إلى ترجمة الوثيقة إلى "عمل ملموس لحماية الكوكب". وبعد ثلاثة
أشهر على ذلك، صادق الكونجرس بالإجماع على الوثيقة.
ومنذ ذلك الوقت، عمل العلماء بشكل حثيث عبر العالم على
إغناء تفاصيل هذه الصورة التي باتت مؤكدة. فتم تعديل الكثير من
تفاصيلها، غير أن ملامحها الأساسية لم تتغير. بل إن أمراً واحداً هو
الذي تغير: فإذا كان الخوف عام 1965 من أن تؤدي الغازات المسببة
للاحتباس الحراري إلى ارتفاع حرارة الأرض مجرد توقع، فهو اليوم حقيقة
علمية مؤكدة.
*أستاذ تاريخ العلوم بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو
و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون
تعليق.
المصدر: الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة
"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"-3-2-2007
|