هوامش التعبير وحرية الكلمة

 

 

خالص جلبي

 

كان كهنة سومر يكتبون على الطين المجفف، ونحن اليوم ننقش كلماتنا على الهواء. وكان صلاح الدين الأيوبي يعتمد الحمام الزاجل للمراسلات المهمة، واليوم ألغيت صناديق البريد، وانتقلنا إلى عصر الفاكس، ثم خلفناه وراء ظهورنا، ودخلنا عصر الانترنت و"السكايب".

وكان أحدنا يتفقد بريده كل عدة أيام، عسى أن يحظى برسالة، وهو أمر عاصره جيلنا ويعرفه تماماً، ونحن اليوم نتلقى فيضاً من الرسائل على الساعة، ممن عرفنا، وممن لم نعرف. والمشكلة حالياً ليست في شح المعلومات بل فيضانها، وانتخاب النافع، وهي مشكلة مزدوجة مع المعرفة.

وفي يوم كان نسَّاخ بغداد يحتاجون شهراً لنقل كتاب، واليوم يمكن طيران كتاب بلمح البصر أو هو أقرب، من جزيرة ساخالين إلى بتاجونيا، فأين أعين النساخ أيام الجاحظ لترى؟ وكانت بيوتنا حرماً لنا، لا يقتحمها أحد، ولكن قد يقتحم عليك أحد الكمبيوتر فيقذف في وجهك كلاماً لا يعجبك، بل قد ينسف كل جهازك بفيروس قاتل، وما هو بفيروس، فيما يشبه عمل الجان. وكان المسؤول يصرح بالشيء، فلا تنطق الصحافة بغير عصمته، واليوم يرد عليه من كل أرجاء المعمورة فصائل من الناس. وما زالت بعض الجيوب الستالينية هي آخر من تبقى من سجون الضمير والإنسان من بورما وكوريا الشمالية حتى كاسترو وبعض العربان.

وفي يوم كتب "هـ . ج. ويلز" المؤرخ البريطاني في كتابه "معالم تاريخ الإنسانية" وهو كتاب جدير بالقراءة والاقتناء لكل ذي لب، أن الورق حرر عقل الإنسان. واليوم لم يبق ورق، وارتاحت أشجار الغابة، من القتل الجماعي، ويتراسل البشر على أمواج ثبج البحر الأخضر الإلكتروني. وكانت الصحافة حتى عصر قريب لا تنطق إلا ما تريد السُّلطة، واليوم لم يعد بد من فتح هامش، يزداد اتساعاً وسرعة، ونحن نكتب حالياً ما كنا سنسجن عليه لو كتبناه قبل عشر سنين، ولم يكن أصلاً لينشر.

هكذا يتسارع العالم، وأهم ما فيه أنه أنطق الخرس، ونقل الكلمة إلى جنبات المعمورة الأربع، وتحطمت الجغرافيا على يد العلم، وانتهى عصر المراقبة؛ فرجال المخابرات يقلبون أكفهم على ما أنفقوا فيها يتحسرون، وبرز دماغ بشري جمعي عملاق، يضم الكون وما حوى من الأنام. ولم يعد المعتقل السياسي يترك لمصيره، بل أصبح بطلاً تسعى بأخباره جمعيات من غير لسانه ووطنه. وليس أمام الصحافة إلا أن ترجع إلى وظيفتها الأساسية؛ فتحررها من الكذب والتلاعب، وتزوير الحقائق، وأن تشترى بدراهم معدودة.

وأنا أعترف أن هذا الأمر ليس بهذه السهولة، ولكن التاريخ تقدمي، وما ينفع الناس يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء كذلك يضرب الله الأمثال. وهذا التطور في عمومه إيجابي وفق المبدأ القرآني، وليس أمام الصحافة إلا أن تدخل هذا السبق، بالصدق، والكلمة الواعية المسؤولة، لرفع مستوى الإنسان، وإلا كتبت على نفسها الانقراض، كما حصل مع الديناصورات حينما اختفت وأفسحت المجال لكائنات صغيرة أكثر رشاقة وتكيفاً. ولكن لماذا لا يجد الرأي طريقه إلى الحرية؟ ولماذا تنحبس بعض الآراء في طريقها إلى التعبير؟ هل لأنها تلجم بفعل خارجي؟ أم لأنها تمارس الانتحار الداخلي، وتحمل مقتلها الذاتي، فلا تخرج إلى التعبير، لأنه ليس هناك ما يستحق التعبير عنه؟

ويتذمر الكثيرون أن الرأي لا يجد طريقه إلى حرية التعبير، وهو قول يصدق فيه بعض الحقيقة، ولا يحمل كل الحقيقة؛ فليس كل تعبير تنقصه الحرية، فأن تقول: أريد أن اشتري خبزاً، أو أنجز عملاً بجدية ودقة وأمانة لا يحتاج لتأشيرة خروج.

ولكن الكلام الممزوج بالسباب يغتال الكلمة قبل خروجها، والعنف هو الشجرة الخبيثة، فيبدأ من الفكرة الحاقدة، والكلمة السامة، فتموت الكلمة من حيث أراد صاحبها لها الظهور؛ فهذه هي فلسفة التفكير والتعبير. وجرت العادة أن حرفة الكتابة خطيرة، ومليئة بالتحدي، وعامرة بالألغاز، وغير مربحة عموماً؛ فالمفكرون في العادة فقراء مفلسون. والكاتب يتعامل مع أخطر الكائنات: الكلمة التي اخترعها البشر.

والكلمة بالأصل بريئة نحن الذين نشحنها بالمعنى، وقد تتحول الكلمات أحياناً إلى مشانق، ولكن ما يحرر العقل، أو يعتقل الضمير، أو يقتل الإنسان هي الكلمة، ولذا بدأ الإنجيل بعبارة: في البدء كانت الكلمة.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-28-6-2006