هل نحن بحاجة إلــى قانــون للبـث الـعـام ؟

 

المحامي طارق حرب

 

لم يجانب الصواب القاضي (اوليفر هولمز) رئيس المحكمة العليا الاميركية 1919 Supereme Court عندما قال: (الخير كل الخير يتحقق بأسمى وجوهه من خلال تجارة الافكار الحرة) ويقصد بذلك الصحافة ويقول (جيفرسون) ثاني رئيس اميركي قبل اكثر من مائتي سنة: (اذا ترك لي حرية تقرير ما اذا كان يجب ان تكون لنا حكومة دون صحف او صحف دون حكومة فانني سوف لن اتردد لحظة في ان اختار الثانية وأهجر الاولى) ويقول شريوان الصحفي الانكليزي قبل عشرات السنين: (نحن معشر الانكليز الافضل لنا ان نكون بدون برلمان من ان نكون بدون صحافة وان نحرم من جميع الحريات ولا نحرم من حرية الصحافة واذ لم تكن هنالك صحافة واعلام) وقبل مئات السنين قال الامام علي (عليه السلام) في حرية الرأي والتعبير والفكر عندما تمرد عليه الخوارج وظاهروه وقالوا ما قالوا في الامام: (دعوهم برأيهم ما لم يسفكوا دما او يغصبوا مالا) وفعلا لم يقاتلهم حتى ارتكبوا جناية القتل ولقد صدرت احكام عدة من المحكمة العليا الاميركية بشأن حرية الصحافة ففي عام 1939 حكمت لصالح شركة الصحافة الاميركية وقررت بان الحكومة لا يمكن ان تفرض ضرائب على توزيع الصحف وفي 1964 حكمت المحكمة العليا لصالح نيويورك تايمز واكدت بان المسؤول لا يمكن ان يحصل على تعويض عن نشر تشهير به يتعلق بسلوكه الرسمي الا اذا استطاع ان يثبت ان النشر كان بسوء نية لالحاق الاذى به بالفعل وفي 1971 سمحت المحكمة بنشر ما يعرف باسم اوراق البنتاغون عن حرب فيتنام رغم ان الحكومة حاولت الدفع بان ذلك قد يعرض الامن القومي للخطر وفي 1988 حكمت بان الصحافة يحق لها السخرية من الشخصيات العامة حتى ولو كانت السخرية مثيرة للغضب وذهبت الى ابعد من ذلك سنة 2001 عندما حكمت بان الدستور يحمي وسائل الاعلام عندما تذيع حوارا على الهاتف المحمول تم التنصت عليه بدون اذن قانون طالما ان الموضوع يحظى في اهتمام الرأي العام، وفي القضاء العراقي حكمت رئاسة استئناف (  ) برد دعوى المدعي التي اقامها للمطالبة بالتعويض بعد ان اعتبر ما ورد في صحيفة (  ) تشهرا ومعلومات غير صحيحة وكنت احد الخبراء في هذه الدعوى التي تم حسمها سنة 2006.

وفي القوانين التي صدرت في العراق حول الاعلام والصحافة نجد انها على كثرتها لا تفي بالمقصود ولا تحقق الهدف في اعلاء شأن حرية الاعلام والصحافة بدءاً من قانون المطبوعات 206 لسنة 1969 وهو الذي يتم الاستناد اليه في رفع الدعاوى الخاصة بالتعويض عما يرد بالصحف والذي حدد الكثير من الممنوعات والمحظورات على الصحف وبين العقوبات التي يحكم بها في حالة مخالفة احكامه وجعل رئيس التحرير وكاتب المقال مسؤولين بالتضامن مرورا بقانون نقابة الصحفيين 178 لسنة 1969 الذي فرض التزامات على الصحافة بعدم الاساءة الى سمعة المهنة وزعزعة الثقة واثارة الغرائز وسواها مرورا بقانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969 الذي نظم احكام المسؤولية في جرائم النشر في المواد (81-84) واعتبر النشر في الصحيفة ظرفا مشددا لعقوبة جرائم القذف والسباب (السب) في المواد (433-434) وانتهاء بأمر سلطة الائتلاف 65 لسنة 2004 الخاص بالمفوضية العراقية للاتصالات والاعلام والامر 66 للسنة ذاتها الخاص بالهيئة العراقية العامة لخدمات البث والارسال الذي يتولى تنظيم شبكة الاعلام العراقية. (IMN) حيث اوجد مجلس امناء يتكون من تسعة ومدير عام ولجنة مالية وحدد شروط العاملين فيها وحدد مسألة تعارض المصالح وتضاربها ومهمة الشبكة وتمويلها واذا كان هذا الامر يعتبر خطوة متقدمة في طرائق الاعلام الرسمي الحكومي المملوك للدولة بحيث جاء باحكام جديدة خلافا للاحكام التي كانت سائدة سابقا بادخاله مبادئ الاعلام الحر المستقل فان الحاجة تعن الى اصدار قانون جديد يتولى تنظيم الاعلام الرسمي والحكومي لاسباب عدة منها ان هذا الامر يعتبر بمثابة قانون صادر من جهة غير عراقية وانه تولى تنظيم الاذاعة والتلفزيون فقط دون الصحف والمجلات الرسمية الاخرى، كما ان نفاذ الدستور الجديد بما جاء به من احكام جديدة حول الموضوع وقيام حكومة منتخبة تلزم ايراد احكام توافق الدستور وقانون يصدره مجلس النواب العراقي الذي يتم انتخابه لاحلاله محل القانون السالف، ذلك ان الدستور اورد مبادئ جديدة لم تتضمنها الوثائق القانونية الموجودة في العراق سابقا منها سيادة القانون والشعب مصدر السلطات وتداول السلطة سلميا ورفض اي نهج يتبنى الارهاب وحث الجوار واحترام الالتزامات الدولية وفي مقدمتها ميثاق الامم المتحدة ومساواة العراقيين دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الامن او الدين او المذهب او المعتقد والحث في الحياة والامن والحرية والحث في الخصوصية الشخصية واستغلال القضاء وفق الرجال والنساء في المشاركة في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية ومنع كل اشكال العنف والتعسف وكفالة حق التعليم وكفالة الدولة لحرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل وحرية الصحافة والطباعة والاعلان والاعلام والنشر وحرية الاجتماع والاتصالات وحرية الفكر والضمير والعقيدة وسواها كثير من الحقوق والحريات الواردة في الدستور الجديد.

ان اول ما يواجهنا في اعداد قانون جديد للاعلام الرسمي الحكومي هو هل ان دولتنا الجديدة ستتبع رأي بعض الدول في ان من المحظور والممنوع على الدولة والحكومة في انشاء اية وسيلة اعلامية كما يقول المذهب الفردي وكما يذهب اصحابه الى ان انشاء اعلام تابع للحكومة هو هدر للمال العام اولا وان الدولة لا تحتاج الى وسيلة اعلامية خاصة بها لان تلك الوسيلة اما ان تكون مادحة شاكرة ذاكرة بايجابيات الدولة دون سلبياتها مع ما يقود ذلك الى ان نظام الحكم الديمقراطي لا يحتاج الى هذه الوسيلة ثم ان ذلك قد يترتب عليه سخط وعدم رضى المعارضة وهذا ما لا يمكن قبوله في دول الديمقراطية واوطان الحرية ام ان تكون تلك الوسيلة الاعلامية الحكومية قادحة هاجية ذامة في الحكومة والسلطة ومن غير المقبول ان تتولى الحكومة انشاء وسيلة والانفاق عليها لأجل الذم والهجاء والقدح فعدم وجودها خير من وجودها او على حد قول البعض يكفي الحكومة ذم وسائل الاعلام الخاصة غير الحكومية واذا كانت تتحمل الدولة الطعن من الاعلام الخاص فانها لا تتحمل هجاء الاعلام التابع لها.

لقد قبلت بعض الدول الديمقراطية انشاء وسائل اعلام حكومية في دول لبريطانيا والمانيا والنمسا واتحاد جنوب افريقيا واليابان وتعتبر تجربة B. B. C في بريطانيا الرائدة في هذا المجال اذ تم انشاؤها قبل الدول الاخرى واثبتت قدرتها وفاعليتها في الالتزام بقواعد حرية الاعلام نحو ما استقرت في تلك وما وردت في الصكوك والمواثيق الدولية بشأن حرية الاعلام.

ان اول مشكلة تواجه الاعلام الرسمي الحكومي هو كيفية تحقيق التلاؤم والانسجام بين حرية الاعلام وما توجبه على العامل في هذا الاعلام وبين صفته كموظف حكومي يلتزم بما يلتزم به اي موظف حكومي اخر الواردة في القوانين الخاصة بالوظيفة العامة وخاصة قانون انضباط موظفي الدولة الذي يفرض التزامات وواجبات على جميع موظفي الدولة سواء أكان عاملا في وسيلة اعلامية حكومية او عاملا في اية دائرة اخرى والمشكلة الثانية هي ما استقر عليه العمل في دول الديمقراطية من قوانين تمنع الموظف الحكومي من العمل السياسي فمثلا ان قانون (هاتش) Hatch Act الصادر في الولايات المتحدة سنة 1939 يحظر على الموظفين الفدراليين الانخراط في الانشطة السياسية الحزبية حتى يتسنى لهم تقديم خدمة محايدة في حين اننا نجد بعض العاملين في شبكة الاعلام العراقي ينتسبون الى احزاب سياسية سواء بالشكل الخفي او بالشكل الظاهر عندما رشحوا انفسهم في الانتخابات السابقة في كيانات سياسية لا بل وجدنا بعضهم وصلوا الى مستوى القيادة في بعض تلك الكيانات، كما اننا لاحظنا مشكلة اخرى هي ان الامر 66 لسنة 2004 الذي اصدرته سلطة الائتلاف يقرر ثلثي اصوات مجلس النواب لاقالة عضو مجلس المفوضية في حين ان الدستور يقرر اقالة مجلس الوزراء بما فيه رئيس الوزراء بالاغلبية المطلقة (50% +1) ولا يمكن ان تكون حصانة عضو المجلس العامل في الاعلام الرسمي يتمتع بحصانة تفوق حصانة مجلس الوزراء دستوريا والمشكلة الكبيرة هي ان بلدنا حديث العهد في الديمقراطية، ذلك ان ما استقر في دول الديمقراطية ان يتكلم كل موظف لوسائل الاعلام في واجبه ومهماته فقط ولا يتكلم عن امور اخرى لا تدخل في اختصاصه في حين اننا نجد في واقعنا ان المحرر في وسيلة اعلامية حكومية وهو موظف يبدي رأيه في مسائل تخرج عن اختصاصه وواجبه فهو يتكلم في امور الدستور ومجلس النواب والوزراء وسوى ذلك من المواضيع مما يخرج عن مهماته ومشكلة اخرى تتمثل في ان الموظف في الاعلام الرسمي يعمل في وسائل اعلام اخرى في حين ان قوانين الخدمة والانضباط في جميع دول العالم بما فيها العراق تمنع الموظف العمومي من العمل في وسائل اعلام اخرى لا بل تمنعه من بيان الرأي لها اذ ان ذلك يعتبر خروجا عن هذه القوانين، ومن المشاكل الكبرى هي ما يصدره بعض العاملين في وسائل الاعلام من انتقاد يصل الى حد الطعن والتجريح بالحكومة في حين ان ما استقر عليه في دول الديمقراطية هو عدم اعطاء الحق للموظف الحكومي في الطعن بالحكومة وان اراد ذلك عليه ان يستقيل من الوظيفة وبامكانه بعد الاستقالة ان يقول ما يقول، اما انه ما زال بالوظيفة فليس له الطعن بالحكومة وان يورد ذلك في الاعلام الحكومي ولكن يحظر عليه ان يقول رأيا في ذلك ما لم يترك الوظيفة ويغادرها لا يمكن ان يقال ان ذلك يكمن في مبدأ حرية الرأي والقول والتفكير التي كفلها الدستور لان ذلك مقرر للاخرين وليس للموظف العمومي تجاه حكومته التي يعمل بها اذ بامكانه انهاء علاقته الوظيفية بالحكومة وله ان يقول ما يشاء ويطعن بما يشاء بما فيه الحكومة التي كان موظفا فيها، فحرية القول والتعبير للموظف الحكومي بما فيه الموظف العامل في وسائل الاعلام الحكومية محدودة مقيدة طالما انه يحمل صفة الموظف العمومي وهنالك مشاكل كثيرة اخرى في الاعلام الحكومي وفي العاملين به، اذ يوجد المزيد لكل مستزيد.

سألني احدهم في بداية سنة (2004) عن القوانين المنظمة للاعلام الحكومي وليس الاعلام الخاص وكان كما عرفت من لهجته انه مصري الجنسية ورجل قانون واعلام  عما اذا توجد قوانين تنظيم الاعلام الحكومي دون الاعلام الخاص؟ فاجبته: وهل يوجد اعلام خاص قبل 2003/4/9 اذ ان الاعلام باجمعه حكومي فال: ان اتجاه سلطة الائتلاف المؤقتة هو التأثر بالاتجاه الاميركي وهو عدم وجود اعلام حكومي وترك الاعلام للقطاع الخاص فقط، ولكن مدير سلطة الائتلاف وجد امامه تلفزيون حكومي تم انشاؤه سنة 2003 ممول من منح الحكومة الاميركية والدول الاخرى وان هنالك جريدة ”الصباح“ وضعت يدها على ممتلكات الجرائد الحكومية السابقة وهي تمول من نفس المصادر السابقة ونحن نستهدف لانشاء اعلام حكومي مماثل لما هو موجود في الدول التي خرجت من نظام الحكم الشمولي والمطلق كالمانيا واليابان ويوغسلافيا قلت: الحسن والمحمود في ترك الاعلام للقطاع الخاص فقط دون الاعلام الحكومي لذلك نجد ان الامر 66 لسنة 2004 الخاص بشبكة الاعلام العراقي لم يصدر الا سنة 2003،  في حين ان جريدة ”الصباح“ والعراقية مارستا عملها منذ سنة 2003 وقد تذكرت ذلك وهو عدم اتجاه نية المدير الاداري لسلطة الائتلاف في انشاء اعلام حكومي وانا اقرأ كتاب (عام قرأته في العراق) بقلم (بريمر) اذ لم يذكر الاعلام الحكومي في حين انه ذكر كل شاردة وواردة تتعلق بفترة ادارته العراق اذ لابد ان نخرج بنتيجة هي ان الاتجاه هو الاعلام الخاص فقط اما الاعلام الحكومي فقد فرض عليه فرضا بسبب الحالة الواقعية.واذا قصدنا اعداد مشروع لقانون ينظم الاعلام الرسمي على وفق المواثيق الدولية الخاصة بالاعلام والدستور العراقي وطبيعة المجتمع العراقي ومكوناته المختلفة فاننا نقترح مشروع (مسودة) القانون التالي طالما ان المادة (108) من الدستور اجازت تأسيس كيانات مستقلة جديدة من غير الكيانات المستقلة التي ورد ذكرها في الدستور مع الاخذ بأسس البث العام وهي انه مخصص للعامة (الجمهور) وممول من العامة ومسيطر عليه من العامة بحيث تكون شبكة الاعلام العراقي والصحف والمجلات المرتبطة بها تعتمد تلك الاسس والمبادئ وتلتزم بهذه القواعد والاحكام التي عملت بموجبها وسائل الاعلام الحكومية في دول الديمقراطية واوطان الحرية، اذ يجب التأكيد في القانون على الاستقلالية من التأثيرات جميعا سواء صدرت من الحكومة او من الاحزاب السياسية او من العشائر او من منظمات المجتمع المدني او من اي تأثير اخر وكونها مؤسسة عامة مستقلة وان لها شخصية معنوية مقرها في بغداد وعليها انشاء وسائل اعلامية في مناطق العراق الاخرى وان يكون من مقاصدها ان تكون موجهة للشعب جميعا وتقديم برامج بجميع اللغات العراقية واعلام الشعب بكل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتشجيع تقبل الرأي الاخر ودعم مبادئ الديمقراطية من حقوق وحريات وان تفي بالمقاييس المهنية العالية وتقديم برامج للمعلومات والثقافة والترفيه وتقديم البرامج باسلوب متنوع وتطوير الاراء الحرة ومشاركة المواطنين في العملية الديمقراطية وتوفير فهما لقضايا مثل الجنس والعمر والعجز والعرق والدين وعكس الاراء والاتجاهات الفكرية والفلسفية وتقديم برامج في الاخبار والاحداث وتقرير الثقافة الوطنية العراقية ورفع مستوى المعرفة بمفاهيم السلام والمحبة والحوار والعمل على وفق مبادئ البث العام والاستقلالية والحيادية والنزاهة والمصداقية والتنوع واحترام حقوق الانسان بما فيها حرية الرأي والتعبير والقول وتعزيز قيم وتقاليد المجتمع العراقي عن طريق فسح المجال امام جميع القوميات والاديان والمذاهب واللغات والمعتقدات الموجودة في الشعب العراقي وتحديد مسالك تمويل الدار سواء أكانت من موازنة الدولة أم من رعاية البرامج أم انتاج وبيع الاعمال الاعلامية أم التبرعات أم الهبات التي لا تؤثر في الاستقلالية وتشكيل مجلس ادارة ولجنة مالية ومدير عام على ان يمثل مجلس الادارة المجتمع العراقي ممن يحترم الدستور والمبادئ الديمقراطية وان يكون انتخاب مجلس الادارة من السلطة التشريعية (مجلس النواب) وليس السلطة التنفيذية بضمانات في الاختيار والمنافسة وان يشترط في عقد مجلس الادارة شروطا توجب الدقة في الاختيار بما فيها التأهيل العلمي والاستقلال وعدم وجود تعارض مصالح في العمل في مجلس الادارة والعمل في وسائل الاعلام الاخرى او تحقق مصلحة مادية والاستقلال الحزبي وان يناط بهذا المجلس جميع السلطات باستثناء ما يخول للمدير العام وتحديد صلاحيات المدير باعتباره الجهة التنفيذية وسوى ذلك كثير من الاحكام التي يجب ان يتضمنها القانون الجديد.

رئيس جمعية الثقافة القانونية العراقية

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: جريدة الصباح-11-6-2006