خواطري عن الشهيد المقدّس
الميرزا حامد النواب الأصفهاني
ولد
الشهيد المقدّس السيد محمّد رضا الشيرازي رحمه الله في مدينة كربلاء
المقدسة سنة ألف وثلاثمائة وتسعة وسبعين للهجرة النبوية الشريفة، وهو
أوّل أولاد المرحوم آية الله العظمى الحاج السيد محمد الشيرازي رحمه
الله وأول حفيد من الذكور للمرحوم آية الله العظمى الميرزا مهدي
الشيرازي رحمه الله، لذا كانت له مكانة خاصة لديه، وقد نُقل أن المرحوم
آية الله الميرزا مهدي الشيرازي كان متعلقاً به شديداً وكان السيد محمد
رضا رحمه الله يرفل بمحبّته واحتفاءه الخاصين، إلاّ أن ذلك لم يدم سوى
شهوراً قليلة، حيث رحل جدّه إلى الرفيق الأعلى.
حياته العلمية :
التحق
المرحوم السيد محمد رضا رحمه الله بمدرسة الحفّاظ في كربلاء المقدسة،
واشتغل بتحصيل العلوم الدينية فيها منذ نعومة أظفاره، ولما بلغ سن
العاشرة من عمره الشريف عمّمه والده المعظّم السيد محمد الشيرازي رحمه
الله.
... ترعرع
الفقيه المقدّس وتربى في جوار أبي عبد الله الحسين عليه السلام سنين
عديدة، إلى أن هاجر برفقة والده إلى خارج العراق ـ على أثر ضغوط
الحكومة البعثية آنذاك على أسرته الكريمة ـ وكانت هجرته ابتداءً إلى
سورية ومنها إلى دولة الكويت.
واصل
السيد رحمه الله دروسه الحوزوية في دولة الكويت، حيث تتلمذ فيها على يد
عمّه الجليل آية الله العظمى الحاج السيد صادق الشيرازي دام ظله في سنة
ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعين للهجرة.
... في
العشرين من عمره الشريف وصل إلى إيران برفقة والده رحمه الله الذي
اختار مدينة قم المقدسة مستقراً له، وفيها واصل تحصيله العلمي للبحوث
الحوزوية العالية، ودروس البحث الخارج، مستفيداً من وجود الأعاظم من
العلماء كوالده المعظّم وعمّه الجليل وآية الله العظمى الوحيد
الخراساني دام ظله وغيرهم من العلماء.
... لازم
السيد محمد رضا رحمه الله الدرس والتدريس، فشرع بتدريس السطوح العالية
في مدينة قم المقدسة، وفي سنة ألف وأربعمائة وسبعة هجرية نال إجازات
الاجتهاد من بعض العلماء الأعاظم، وذلك على أثر كتاب ألّفه بعنوان
(الترتّب).
لم يقتصر
الفقيه المقدس رحمه الله على تدريس الفقه والأصول، بل درّس التفسير
والرجال لعدة سنين حتى اضطر للعودة إلى الكويت مرة أخرى على أثر بعض
المشاكل، وكما يقال: رُبّ ضارة نافعة، فقد أحدث وصوله رحمه الله للكويت
والسنوات التي أقام فيها تطوراً عظيماً في النمو الفكري والديني
للمجتمع الشيعي تعدّى إلى بلدان الخليج الأخرى.... في
عام ألف وأربعمائة واثنين وعشرين، عاد قدّس سرّه إلى إيران واستقرّ
فيها، وشرع في تدريس (خارج الأصول) حتى نهاية عمره الشريف، وكان ذلك
إلى جنب تدريسه المباحث الفقهية والرجالية والتفسيرية والأخلاقية.... لم
يكن عطاءه العلمي مختصّاً بأوقات الدرس فقط، بل كان يؤدّي دوره العلمي
والتربوي بأسلوب طبيعي ومؤثر في جميع الأوقات من دون ملل مما جعل
الآخرون يتأثرون به، فلم يلتق به أحد ولو لمدّة قصيرة إلاّ وتأثّر
بشخصيته وأخلاقه؛ وهنا أستطيع القول بجرأة: إنه رحمه الله لم تكن له
رغبة بالدنيا والماديات، بل كان مخالفاً لهوى النفس.... كان
رحمه الله لا يضيع أوقاته أبداً، حيث كان يستفيد من اللحظات القصيرة
وينتهز الفرص. ففي السنوات القليلة التي صحبته فيها في دروسه وجلساته
العلمية، لم أسمع منه سوى طرح المسائل العلمية المفيدة، وعندما كنت
أذهب معه في لقاءاته، كان يطرح بعض الفروع الفقهية حتى في الطريق، ولم
تكن أبداً مجالسته من دون فائدة. وفي أي وقت كنا نجلس معه كان يطرح
المباحث الروائية أو الفروع الفقهية أو يشير إلى مشاكل الناس ويطلب
منّا البحث عن حلّها، وكان رحمه الله يتعامل بهذا الاسلوب التربوي مع
جلسائه.
خصائص بحوثه العلمية:
-
النظم في الدرس
-
عذوبة البيان
-
ترتيب البحث
-
التعرّض لأقوال وآراء العلماء المتأخرين منهم والمعاصرين.
-
تطعيم مباحثه بقدر الإمكان بالروايات الشريفة.
-
فسح المجال لتلامذته والاعتناء بتربيتهم.
-
عدم الغضب في البحث.
-
احترام شخصيات الأعلام حين مناقشته لآرائهم.
-
التسلّط على الفروع الفقهية.
سجاياه الحميدة:
... حمل
الفقيه صفاتاً ملكوتية كثيرة، سمت بها نفسه المقدّسة، كان منها: كثرة
التواضع، حتى أن البعض تعاملوا معه كصديق حميم وكانوا أقل منه شأناً.
ومنها: حرصه الشديد على الذكر والدعاء والتهجّد، بحيث انه لم يترك في
حياته صلاة الليل أبداً، وكان يفعل ذلك في خفاء، ولم يسمع عنه أنه
تظاهر بذلك يوماً ما أبداًً.
...
ألتقيت أول مرة به رحمه الله في سفري إلى سوريا، في زيارتي لعقيلة بني
هاشم زينب الكبرى عليها السلام، وما زلت أذكر ذلك اليوم جيداً، حيث كنت
ذاهباً لزيارة حجر بن عدي رضوان الله عليه مع ثلة من العلماء الأفاضل
وجاء هو رحمه الله لزيارته، وحان وقت صلاة الظهر فهممنا أن نصلّيها
جماعة بإمامته، فقبلها بعد إلحاح شديد، وأقيمت الصلاة آنذاك بإمامته،
وقد شاهدت من حالاته المعنوية في الصلاة ما ترك الأثر الإيجابي في قلبي
وروحي إلى الآن، وقد مضى على ذلك ما يقارب ثلاثة عشر سنة، ولا زال
أثرها باقٍ في قلبي.
... كان
بعض الناس أحياناً ولأجل بعض أغراضهم الخاصة، حينما كانوا يقابلونه
يظهرون عدم احترامهم له، ولكنه كان يظهر لهم الاحترام، فيقعون تحت
تأثير أخلاقه ويعجبون بها، ولا عجب إذ كان قدّس سرّه شخصاً أذعن
لأخلاقه الكريمة الصديق والعدو والموافق والمخالف..
وهذه
الآداب والأخلاق التي تعامل بها مع الناس كانت تسود في بيته المكرّم،
إذ كان يتعامل مع أولاده بالأخلاق الحسنة والوقار، حيث لم يعاملهم
بخشونة ولو لمرة واحدة طوال حياته، وكان لا يشكو ولو شكوى مختصرة ولا
يتوقع من أحد ولا يظلم أحد، ولذا أضحى مصداقاً لقول الإمام أمير
المؤمنين صلوات الله عليه: «نفسه منه في تعب والناس منه في راحة».
... كانت
له رحمه الله طريقة خاصة في العيش وسلوك مؤثر مع الناس تكتشف منه أنه
المصداق لمفهوم الإنسان المؤمن في كلمات أهل البيت عليهم السلام، إذ
حمل صفات المتقين ومزايا المؤمنين وكان يحن له كل قريب وبعيد كما شهدنا
ذلك ولمسناه من خلال سلوك من كان يقصده من بعيد في حياته ومن قصد
جنازته بعد مماته لاطمين الوجوه والرؤوس ويجذبون الحسرات لفقده، لذا
أستطيع القول وبدون مبالغة: أنه أحد المصاديق الكاملة لرواية الإمام
أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «خالطو الناس مخالطة إن عشتم حنوا
إليكم وإن متم بكوا عليكم»، وقد رأيت الكثير يأتون من الطرق البعيدة
لرؤيته ولقاءه ثم يرجعون إلى مدنهم وديارهم، ولكنهم ما إن يصلوا إليها
حتى يهزّهم الشوق لرؤيته والحضور بين يديه مرة أخرى، وخير شاهد على ذلك
إقبال جمهور المشيّعين في توديع جثمانه.
اجتمعت
فيه رحمه الله صفات قلما اجتمعت في أقرانه، إذ قد يملك البعض صفة العلم
أو تظهر فيه صفة الزهد أو الأخلاق الحسنة أو النظم أوالنزاهة والفهم
الجيد والبيان الجيد، ولكن قلّما تجتمع مثل هذه الصفات كما اجتمعت فيه
رحمه الله.
...
تداولت أخلاقه على ألسن الخواص والعوام، كما كان زهده واضحاً للعيان في
الوقت الذي كانت فيه يده مطلقة التصرّف في الأمور الدنيوية وبنحو شرعي،
وكانت روحه نقية طاهرة، وكثيراً ما كان يعتني بجمال المظهر ونظافة
الملبس بالشكل الذي ما رآه أحد إلا وانجذب إليه وأصبح محبّاً لأهل
العلم، كما كان ملبسه ملبس الطلبة العاديين، ولم أره في طيلة معاشرتي
له لابساً عباءةً ذات نوعيةٍ ثمينة ولو لمرةٍ واحدة.
كان يأكل
قليلاً من الطعام، الأمر الذي دفع أحد تجّار الكويت بأن يأتي إلى والده
رحمه الله ويقول له: انصح ولدكم، فيقول المرحوم والده: ماذا حدث؟ فيقول
التاجر: نحن في الكويت ندعوا السيد محمد رضا ولكنه يأكل القليل، حتى
أنه لا يأكل بمقدار رجل طبيعي واحد، فقال والده رحمه الله: «ابني السيد
محمد رضا لم يخلق لهذه الدنيا».
... أتذكر
في بداية إحدى السنوات الدراسية عندما سمع أنهم بلّغوا عن درسه أمام
المدارس العلمية الحوزوية (بحسب العادة الجارية في قم، حيث كان الطلبة
يتعرفون على زمان ومكان الدرس واسم الأستاذ من خلال لوحة الإعلانات) لم
يدع تلك الليلة تمر حتى كلّف أحدهم بإزالة جميع الإعلانات.
... أما
نظمه في الوقت وفي مواعيده التي يجريها فقد كان منظماً جداً، وفي
زياراته ومواعيده للعلماء والشخصيات كان يقول دائماً: يجب أن نصل قبل
الوقت، فلم يكن يتأخّر أبداً وهي من خصاله الجيدة (الاحترام والالتزام
بالمواعيد). ومن خصاله أيضاً المواظبة على الحضور في مكان الدرس قبل
بدء ساعته، وكان يقول لتلامذته: إذا تأخّرت دقيقتين عن الدرس اعلموا أن
الدرس غير منعقد في ذلك اليوم؛ لأنه وبلا شك هناك ما يمنعني من الحضور.
ولاءه
لأهل البيت
... كان
من أهل البكاء والتوسّل بأهل البيت صلوات الله عليهم، حتى أنه في أصغر
مشكلة من مشاكل حياته كان لا ينسى التوسّل بهم، وفي أكثر من مرة عندما
كنت أذهب برفقته إلى مرقد الإمام الرضا سلام الله عليه أو مرقد السيدة
فاطمة المعصومة عليها السلام كنت أرى عيناه بعد إتمام الزيارة مملوءة
بالدمع.
... من
خصاله التي تميّز بها أيضاً أنه لم تشاهد فيه روح اليأس أبداً، لذا كان
يذكي روح الأمل في الناس عند حدوث المشاكل.
... ومن
خصاله أيضاً كثرة الاحترام للكبار في جميع الأحوال حتى في المناقشات
العلمية، إذ كان يناقشهم في بحثه باحترام كامل، فمثلاً كان في درسه لا
يقول: أنا أشكل على كلام فلان، بل كان يقول بأدب: كلام فلان محل تأمّل
أو كلام فلان بحاجة إلى دقّة أكثر، على الرغم من أن المسألة كانت
مسلّمة لديه .
... كان
رحمه الله ملتزماً بالحضور في مجالس أهل البيت صلوات الله عليهم، ففي
في بعض السنوات صحبته في الحضور في مجالس شهر محرم الحرام، حيث حضرت
معه في أكثر من مائة مجلس. وكذلك الحال في الأيام الفاطمية كان يشترك
في كل المجالس المقامة في بيوت العلماء والشخصيات. وفي السنوات القليلة
الماضية، إذ كانت مجالس الفاطمية في مدينة أصفهان تحظى بأهمية كبرى،
كان رحمه الله يخصّص لها يوماً خاصاً يذهب فيه إلى أصفهان ليشترك في
تلك المجالس المقدسة، ولم يكن حضوره لينتفع به شخصياً فقط، بل كان يبغي
تعليم الناس وتشجيعهم للتمسّك بسيدتنا الزهراء صلوات الله عليها. وفي
أيامه الأخيرة جاء إلى مدينة أصفهان وكان في منزلنا مجلساً لمصاب
سيدتنا الزهراء صلوات الله عليها، وعندما أكمل الخطيب حديث وأراد
الخروج من المجلس خرج رحمه الله خلفه يشايعه وهو حافي القدمين إلى قرب
الشارع العام القريب من المجلس، وعندما سألوه: لماذا تشقّون على أنفسكم
هكذا؟ قال قدّس سرّه: هذا داعية للدين، ومبلّغ المذهب، ووظيفتنا
احترامه؛ وبهذا الأسلوب كان يشجّع المبلغين والمحيين لأمر أهل البيت
صلوات الله عليهم وأخيراً أقول: بذهابه من هذه الدنيا قد وصل إلى راحته
الأبدية ودرجاته الأخروية، ولكننا نحن الذين فقدنا أستاذ العلم
والتقوى. فهو لم يكن مجرّد أستاذ أو مربي، بل كان الوالد البارّ
والصاحب المشفق، وإني اسأل الله تعالى أن يكون في الآخرة في جوار
أجداده الطاهرين، وأن لا ينسانا الفقيد من صالح دعاءه وهنيئاً له تلك
السعادة التي حباها بها جدّه الحسين صلوات الله عليه إذ ولد في جوار
مرقده وترعرع وعاش بمحبّته وخدمته وأخيراً صارت تربة الحسين صلوات الله
عليه مثواه الطاهر.( السلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً )
جمادى الثانية - 1429 للهجرة - قم
المقدسة
|