لقاء بين علمين حول عبقرية الإمام علي عليه السلام

 

 

في حديث لشيخنا الوالد *- طاب ثراه - قال :

وقفت في ( جريدة الساعة ) البغدادية الصادرة في شهر محرم عام ( 1 ) على قصيدة عصماء للأستاذ حسين علي الأعظمي وكيل عميد كلية الحقوق ببغداد في رثاء الحسين (عليه السلام ) وأشار في التعليق على بعض أبياتها إلى أن له مؤلفا في حياة الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأحببت أن اقف عن كثب على تأليفه وأسبر طريقته في ذلك . وإن وجدت لديه نظما في واقعة ( الغدير ) جعلته ضمن شعراء القرن الرابع عشر الهجري . فقصدت داره وكانت على مقربة من إحدى سفارات الدول الغربية ، فطرقت الباب فخرج إلي خادمه فسألته عن الأستاذ فأجاب نعم هو موجود في الدار ، فطلبت مواجهته فخرج إلي الأستاذ وما أن رآني اخذ يفكر في السر الذي دعاني إلى زيارته ، لم قصد هذا العالم الشيعي زيارتي ؟

 أهو بحاجة للتوسط في قبول أبنائه في الجامعة ؟

 أم للتوسط في توظيف أحد منسوبيه في إحدى الدوائر ؟

 فبدأته بالسلام وقلت : أنا أخ لك في الدين ، فان كنت في شك من اسلامك فأنا قبل كل شئ اعترف باسلامك وايمانك لما سبرته في قصيدتك العصماء في رثاء سيدنا السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) من نزعة دينية . وإنْ كنت في شك من إسلامي :

فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق . فخرج الأستاذ إلى خارج الدار ومد يده للمصافحة ، عند ذلك بسطت له ذراعي واحتضنته فتبادلنا القبلات وسار بي إلى الغرفة الخاصة باستقبال زائريه .

عند ذلك افتتحت الحديث بالكلام حول قصيدته ، وتطرقت إلى ما أشار إليه في التعليق على بعض أبياتها وأن له مؤلفا حول الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأنني قصدته من النجف الأشرف لأشكره على قصيدته ورؤية مؤلفه .

خلال بحثنا فيما عرضته عليه دخل الغرفة بكل أدب أشباله الثلاثة ، وكانوا من ذوي الثقافة العالية عليهم سيماء العلم والأدب . وبعد المصافحة وتبادل عبارات الترحيب ، اغتنم الأستاذ الأعظمي الفرصة وأراد أن يستخبر ميزان ثقافتي وعلمي ، وما أتحلى به من العلوم الاسلامية فقال :

شيخنا ما رأيكم حول كتاب ( عبقرية الإمام ) تأليف الأستاذ المصري عباس محمود العقاد ؟

ولم يكن مضى على عرض كتابه في الأسواق التجارية سوى أشهر عديدة ، وقد لاقى اقبالا كبيرا بين الشباب العربي والإسلامي .

قلت : لا أخال أن الأستاذ العقاد كتب ما يشفي الغليل ، إذ ليس بوسعه ولا بوسع أمة من أمثاله عرفان شخصية الامام علي حقيقتها مهما جدوا واجتهدوا في ذلك .

وبهذا طرأ على الأستاذ وأبنائه استغراب وتفكير ، واستغرق ذلك شيئا من الوقت في جو يسوده الهدوء . فتقدمت بالكلام وقلت :

 تسمحون لي ، قد أكون انا في كلامي أوجدت نزاعا بينكم . إذ بعد أن اترك الدار ستقوم القائمة بينكم ، فتعترضون على والدكم قائلين :

يا بابا ! كيف يتسنى لشخص بهذه البزة وهذا الهيكل أن يقف على الغث والسمين ويتعرف على ما جاء في كتاب ( عبقرية الامام ) ؟

وستكون إجابة الأستاذ إليكم : كلا يا أبنائي ، ليس الأمر كما تزعمون ، بل إن الرجل عالم من علماء أمة من المسلمين ، وعلى علم بكل شئ ، الا أنه لا يروقه أن يثنى على كتاب أديب سني مخالف لنزعته الدينية ، وحتى لا أكون أضرمت نار الفتنة بينكم سأقوم بحسم النزاع بعد أن أعرض على الأستاذ شواهد كلامي ، وان كنت مخطئا فسيتولى مناقشتي برأيه الصائب ويقضي بالحق وهو أستاذ القضاء ومربي رجالاته .

عند ذلك سألت الأستاذ الأعظمي قائلا :

هل يسعنا أن نقيس الأستاذ العقاد في الفكر والنظر بواحد من العلماء أمثال : أبي نعيم الأصفهاني ، الفخر الرازي ، ابن عساكر ، الكنجي الشافعي ، أو أخطب خوارزم وأضرابهم

ممن كتبوا حول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مؤلفا خاصا ، أو تطرقوا إلى ناحية من حياته في تآليفهم ؟

أجاب الأستاذ قائلا : شيخنا ، من الجفاء بحق العلم والعلماء ان نقيس مائة من أمثال العقاد بواحد ممن ذكرتم ، إذ ان أولئك أساطين العلم وجهابذة الفكر الاسلامي ، ولا يتسنى لانسان أن يسبر ما كانوا عليه من مكانة سامية في الحديث والتفسير والحكمة والفلسفة وسائر العلوم الاسلامية .

 قلت : إذن ما السر في أن أولئك حينما يتطرقون إلى ذكر الإمام ( عليه السلام ) لم يتفوهوا في وصفه ببنت شفة بآرائهم الخاصة ، بل يذكرونه بما وصفه الوحي الإلهي وما روي عن النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حقه ؟

قال الأستاذ الأعظمي : هذه نظرية مبتكرة نرجو توضيحها كي نستفيد منها ونقف على السر الكامن فيها .

قلت : ألم نكن في دراستنا للمنطق قرأنا قول علمائه :

يشترط في المعرِّف أن يكون أجلى من المعرَّف ؟

فالصحابة وأئمة الحديث حيث وقفوا على قول النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

 " علي ممسوس بذات الله " ( 2 ) .

وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

" يا علي ما عرف الله الا انا وأنت ، وما عرفني الا الله وأنت ، وما عرفك الا الله وأنا " ( 3 ) .

اهتدوا إلى أن وجودا ، هذا جزء يسير من خصائصه وصفاته ، من العسير على الأمة عرفان حقيقته الا بما وصفه المولى عز وجل به . فاعلنوا إلى الملأ أن عليا من المعنيين بقوله تعالى :

 ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ( 4) .

وقوله تعالى :  ( قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى )  ( 5 ) .

وقوله تعالى : ( انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) ( 6) .

وقوله تعالى : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون )  ( 7 ) .

وان خير معرِّف للإمام ( عليه السلام ) وخصائصه الذاتية هو ما أصحر به النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قوله :

" من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله " ( 8 ) .

وقوله : " علي مع الحق والحق مع علي يدور الحق مع علي حيثما دار " ( 9 )

وقوله : " علي خير البشر من أبى فقد كفر " ( 10 ) .

وقوله : " علي مع القرآن والقرآن معه ، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض " ( 11 ) .

ونرى الأستاذ العقاد قبل أشهر عديدة نشر كتابا حول الشاعر ابن الرومي وهو من رجال القرن الثالث الهجري ، وله تراجم مسهبة في كتاب التاريخ والسير ، ولم يتحل بشئ من الخصائص فوق خصائص الإنسان في حين أخذ العلماء والأساتذة عليه شطحات كثيرة ، ونشروا حولها مقالات مسهبة لعدم عرفانه بسيرة الرجل وسلوكه ، أو أخطائه في تحليل تاريخ حياته ، أو بعده عن دراسة نفسيته ، أو سوء تفهمه لفلسفة الرجل وشعره . فمؤلف هذا مبلغه من العلم في الكتابة عن انسان في شاكلته ، وهذه سعة اطلاعه عمن انبرى مئات من الكتاب في الكتابة عنه :

 كيف يتسنى له أن يعرف بفكره ونظره شخصية ممسوسة بذات الله ، وان يكتب عن قطب رحى الحق الذي يدور الحق معه حيثما دار ؟

وانْ كنت أنت أيها الأستاذ قد اتبعت في تآليفك طريقة العقاد فأراني في غنى  عن مطالعته ، وانْ اتبعت في كتابك سيرة السلف واعتمدت في بحثك على كتاب الله وسنة نبيه فسأكون شاكرا لك لو سمحت لي بمطالعته .

أجاب الأستاذ الأعظمي قائلا : كلا يا شيخ ، انا سرت في كتابي على كتاب الله وسنة نبيه ، وسأكون شاكرا لك مدى الحياة لو سبرت كتابي بدقة وأخذت علي ما فاتني مع ما أفضته علي من حديثك العلمي .

قلت له : هات بحثك وأظهر رؤوس عناوينه .

فأوعز إلى أحد أنجاله بذلك فأحضر ملفا ضخما كبيرا وقال :

أنا قمت بتحليل شخصية الامام شرحا وبيانا في الكلام حول أربعة أحاديث . الأول :

 قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

 " علي مع الحق والحق مع علي يدور الحق معه حيثما دار " .

قلت له : أترى هذه فضيلة تخص عليا سلام الله عليه ؟

 قال : بلى ، ولم يشاركه فيه أي ابن أنثى .

قلت : فما تقول في قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

 " عمار مع الحق والحق مع عمار يدور عمار مع الحق حيثما دار " ؟

وأوعزت إلى مصادر الحديث . وجم الأستاذ حينما سمع ذلك ، وطأطأ برأسه وطرأ على الحفل هدوء مشفوع بتأثر مزعج ، وبعد دقائق رفع الأستاذ رأسه وقال :

شيخنا نسفت ربع البحث بحديثك وقضيت على الحول الذي بذلته دونه .

قلت له : بل أحييت لك كتابك وأظهرت لك بالحديث الذي ذكرته ما خفي عنك وعن الصحابة قبلك السر الكامن فيه .

قال : وما ذلك ؟

قلت : عندما أصحر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحديثه حول علي سلام الله عليه ، لم يدرك المجتمع الاسلامي الناحية الهامة الكامنة في الحديث ، لذلك أصحر بحديثه حول عمار ليدرك المجتمع مكانة علي سلام الله عليه الإلهية بذلك .

 ففي حديث علي ( عليه السلام ) جعل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليا محورا للحق وقطب رحاه ، قال :

 " علي مع الحق والحق مع علي يدور الحق مع علي حيثما دار علي " . وفي حديث عمار قال :

 " عمار مع الحق والحق مع عمار يدورعمار مع الحق حيثما دار الحق " . وبهذا أراد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :

أن يبين للعالم أن عليا ( عليه السلام ) هو قطب رحى الحق ، والحق يدور معه حيثما دار هو سلام الله عليه ، وكل طالب للحق عليه أن يكون على صلة في علي ( عليه السلام ) كي يتسنى له أن يعرف الحق ويتصل به ويسير على نهجه .

هنا طرأ على الأستاذ وأنجاله فرحة وسرور فقالوا بصوت عال :

 الله أكبر ، الله أكبر ، ما أحلاه من شرح وتوضيح يقام له ويقعد .

..........................................

المصادر :

* أي والد الحاج حسين الشاكري - ر - راجعْ كتاب : ربع قرن مع العلامة الأميني - الحاج حسين الشاكري - ص 64 - 69.

 ( 1 ) لم يحضرني التاريخ بصورة دقيقة وأكثر ظني أنه كان بين أعوام 65 - 1367 هجرية .

( 2 ) : حلية الأولياء ج 1 : 68 .

( 3 ) مناقب ابن شهرآشوب ج 1 باب مناقب علي ( عليه السلام ) .

( 4 ) سورة الأحزاب : الآية 33 . سنن البيهقي ج 22 : 5 ، صحيح الترمذي ج 2 : 209 ، مستدرك الحاكم ج 2 : 416 .

( 5 ) سورة الشورى : الآية 23 . تفسير الطبري ج 25 : 16 ، حلية الأولياء ج 3 : 20 ، مستدرك الحاكم ج 3 : 172 ، أسد الغابة ج 5 : 367 .

( 6 ) سورة المائدة : الآية 55 . تفسير الطبري ج 6 : 186 ، أسباب النزول ص 148 ، كنز العمال ج 6 : 319 ، تهذيب التهذيب ج 11 : 439 .

( 7 ) سورة السجدة : الآية 17 . تفسير الطبري ج 21 : 68 ، أسباب النزول ص 263 ، الرياض النضرة ج 2 : 206 .

( 8 ) الغدير ج 1 : 14 - 16 .

( 9 ) صحيح الترمذي ج 3 : 166 ، تاريخ بغداد ج 14 : 321 .

( 10 ) تاريخ بغداد ج 7 : 421 ، تهذيب التهذيب ج 9 : 419 ، كنوز الحقايق ص 98 .

( 11 ) المعجم الصغير للطبراني ج 1 : 255 .