نهج البلاغة محراب الحداثة والأصالة :

- 1 -

 

 

قال الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) :

لا صواب مع ترك المشورة

أقول :

الصواب الإصابة في الأمور التي تفعل ، والمشورة طلب الرأي المحمود من الأوداء والنصحاء وغيرهم في ترجيح أحد الأمور المحتملة في ذهن المستشير أو تأكيدها وبيان ان المصلحة في أيها تكون ؟

واما علة هذا السبب الكلي فمن وجهين :

 الأول - ان الانسان لما كان بحيث لا يمكن استقلاله وحده بأمور معاشه ومعاده لحاجته الضرورية إلى ما لابد منه من غذاء ولباس ومسكن وغير ذلك وكانت هذه الأمور كلها أمورا صناعية لا يمكن ان يقوم بها صانع واحد الا في مدة لا يمكن ان يبقى بدونها أو يتعسر ان أمكن بل لابد من جماعة يتشاركون ويتعاونون على تحصيل تلك المنافع ويتعارضون ويتعاوضون وكان هذا التعاون لا يتم الا ان بان يكون بينهم انس طبيعي قضاء للعناية الإلهية بهذا العالم ومنه اشتق اسم الانسان في اللغة فواجب على الانسان إذا ان يكتسبه مع أبناء الجنس ويحرص عليه بالجهد والطاقة ولأنه أيضا مبدأ المحبة الواجبة التي هي سبب السعادتين إذ كان كل شخص يرى كماله عند الاخر فلولا ذلك لم يتم السعادة بينهم فيكون كل انسان بمنزلة عضو من أعضاء البدن وقوام الانسان بتمام بدنه ، وإنما وضعت الشريعة والعادة الجميلة اتخاذ ( 1 ) الدعوات والاجتماع في المأدبات ( 2 ) لتحصيل هذا الانس بل لعل الشريعة إنما حثت الناس على الاجتماع في المساجد وفضلت صلاة الجماعة على الصلاة المنفردة ليحصل لهم هذا الانس بالفعل إذ كان حاصلا فيهم بالقوة ، ثم يتأكد فيهم بالاعتقادات الصحيحة الجامعة لهم وينبهك على أن مطلوب صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله ذلك أنه أوجب على أهل المدينة كلهم ان يجتمعوا في كل أسبوع يوما معينا في مسجد يسعهم ليجتمع أيضا شمل المحال والسكك كما اجتمع أهل الدور والمنازل في كل يوم ، ثم أوجب ان يجتمعوا في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليجمعهم المكان ويتزاوروا ويتجدد الانس بين كافتهم ويشملهم المحبة الناظمة لهم . ثم أوجب بعد ذلك أن يجتمعوا من البلدان في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم يعين من العمر وقتا مخصوصا ليتسع لهم الزمان فيجتمع أهل المدن البعيدة كما اجتمع أهل المدينة والواحدة ويصير ( 3 ) حالهم في الانس والمحبة وشمول الخير وإفاضة الرحمة والسعادة بحسب انفعالات نفوسهم واستعدادها الصادرة عن ذلك الاجتماع على غاية من الكمال لا يحصل لهم بدونه وكان هذا الانس لا يتم الا بالحديث المستطاب بالمشاورة في الأمور والاطلاع على بعض الاسرار التي لا تضر إذاعتها ليتم بذلك أنس المستشار وتسكن نفسه ان لو كان لها نفار وتنبسط ولا تنقبض قال عز من قائل تأديبا لنبيه بالأدب الجميل :

وشاورهم في الامر ( 4 ) ولتوسع ( 5 ) المفاكهة ( 6 ) المحبوبة والمزاح المستعذب الذي يقدره العقل حتى لا يتجاوز إلى الاسراف فيها فيسمى ذلك الاسراف مجونا وفسقا وخلاعة وشبهها من أسماء الذم ، ولا يقصر فيه فيسمى ذلك القصور فدامة ( 7 ) وعبوسا وشكاسة وما أشبهها من طرف التفريط المذموم بل يتوسط بينهما فيسمى ذلك المتوسط ظريفا معاشرا هشا بشا ، وإذا عرفت ان المشورة من اجل أسباب تحصيل الانس المطلوب من الخلق عرفت انها مطلوبة . ثم إنه عليه السلام نبه على وجوب اتخاذها والمواظبة عليها بأنه لا صواب في فعل يفعل بدونها لما ان تصرفات الخلق اما أقوال أو أفعال ، وإذا كان الجميع موقوفا على المشورة بأمره وإشارته فلابد وان يستجيبوا عند دعائه لهم إليها فتارك المشورة إذا مخطئ إذ ضيع سببا عظيما من أسباب الفضائل التي يجب طلبها ، والمخطئ غير مصيب فتارك المشورة غير مصيب وان تصور بصورة المصيب .

الثاني - ان تارك المشورة في أموره غير مصيب في أغلب أفعاله ومقاصده فهو إذا أخطأ كان ملوما ولعله يكون مأثوما ، إذ كان المستشار العاقل كثيرا ما يكون مطلعا على وجوه من مصالح ذلك الفعل المستشار فيه اما بحسب تجربته أو بحسب قوة عقله وجودة حدسه بحيث لا يكون مثل ذلك الاطلاع حاصلا للمستشير والسبب الأكثري في الغلط ان الوهم الانساني في غالب الأحوال وأكثرها لابد وان يحكم بترجيح أحد طرفي الامر المتردد فيه المطلوب فيه الاستشارة بغتة ( 8 ) قبل مراجعة العقل وإنما كان الصواب في الطرف الآخر عند الفكر والتحديق فإذا ( 9 ) فعل بين ( 10 ) له بعد ذلك عن قريب أو بعيد خطاؤه وانه قد ضيع حزما واتبع هواه ، ولو فرض ان مطلوبه حصل لم يعد أيضا في عرف العقلاء مصيبا ، إذ كان كالسالك لطريق كثيرة المخاوف غير عالم بمراحلها ومنازلها وغير مطلع على آفاتها ومخاوفها فهو لا يدرى على ما يقدم فإذا وصل إلى غايته من ذلك السلوك سالما فان أحدا من العقلاء لا يقول : انه مصيب بل يطبقون على ذمه وتوبيخه ويعدونه متهورا مغرورا بنفسه ( 11 ) مضيعا لها ، وذلك بخلاف حال المواظب على المشورة فإنه يعد في عرف العقلاء مصيبا وان لم يحصل مطلوبه ، إذ كان كالسالك لسبيل يعلم أحوالها وانها آمنه فيتفق له عند سلوكه لها لص اتفاقا فان أحدا من العقلاء لا يقول : انه مخطئ ( 12 ) في سلوكه لها . وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب الاستشارة فان كلمة العقلاء قد تطابقت على ذم تاركها ومدح طالبها ، وان الأول مخطئ وان أصاب ، وان الثاني مصيب وان خاب ، واتفقوا على أنه يجب على كل ذي حزم ( 13 ) مراجعة من هو فوقه أو دونه في المنزلة فان الفضل لن يكمل ( 14 ) لاحد ولن يختص به أحد وان الرأي الفرد لا يكتفى به في الأمور الخاصة ولا ينتفع به في الأمور العامة ، واتفقوا على مدح الرأي الصائب وتفضيل صاحبه ووجوب الاستعانة به في الأمور وذلك لشدة عقليته ( 15 ) لها وحسن استنباطه للرأي فيما ينبغي ان يفعل من الأمور المصلحية وفى هذا المعنى يقول أبو الطيب المتنبي ، شعر :

 الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * بلغت من العياء كل مكان ومن أمثال العرب في مدح الرأي قوله عليه السلام : رأى الشيخ خير من مشهد الغلام ( 16 ) وفى مدح ذي الحزم والتجربة والآراء الصائبة قولهم : قد حلب فلان الدهر أشطره ( 17 ) اي قد اختبر الدهر شطرين من خير وشر ، ومنها قولهم في نعت الحازم أيضا : إذا تولى عقدا أحكمه ( 18 ) قال الشاعر : وما عليك ان أكون أزرقا * إذا تولى عقد شئ أوثقا والأمثال والشعر في هذا المعنى كثير ، والله ولى التوفيق .*

 

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

 

* المصدر : شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين - ابن ميثم البحراني (679 )- ص 202 – 206- الكلمة الحادية والأربعون - مكتبة أهل البيت (ع) - الإصدار الأول -  تصحيح وتعليق : مير جلال الدين الحسيني الأرموي المحدث - منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة .

 ( 1 ) - ب : " اتحاد " ( بالحاء والدال المهملتين ) ج د : " ايجاد " ( بالجيم والدال " ولعله : " الإجابة " .

( 2 ) - ا : " الماديات " ج د : " المناديات " لكن المأدبة جمعها المعروف " المآدب " .

( 3 ) - ا : " تصير " . ‹ هامش ص 204 ›

( 4 ) - من آية 159 سورة آل عمران .

( 5 ) - ب ج د : " ولتوضح " .

( 6 ) - ا : " المكافهة "

( 7 ) - يقال : " فدم الرجل فدامة وفدومة كان فدما وهو العيى عن الكلام في ثقل ورخاوة وقلة فهم وفطنة " .

( 8 ) - ا : " بعثه " ج د : " بعينه " .

( 9 ) - ج د : " وإذا " .

( 10 ) - ب ج د : " تبين " . ‹ هامش ص 205 ›

( 11 ) - يقال : " غرر بنفسه = عرضها للهلكة .

( 12 ) - ا : " محظ " .

( 13 ) - ب ج د : " على ذي الحزم " .

( 14 ) ج : " لم يكمل " د : " لا يكمل " .

( 15 ) - ج د : " عقليه " . ‹ هامش ص 206 ›

( 16 ) - قال الميداني في مجمع الأمثال ( ص 254 من طبعة إيران ) : " رأى الشيخ خير من مشهد الغلام ، قاله أمير المؤمنين علي عليه السلام في بعض حروبه " . قال الرضى ( ره ) في باب الحكم من نهج البلاغة " وقال عليه السلام : رأى الشيخ أحب إلى من جلد الغلام ، ويروى من مشهد الغلام " وقال شارح الكلمات ( ابن ميثم ) رحمه الله في شرحه ( ص 590 من الطبعة الأولى من شرح نهج البلاغة ) : " جلده قوته وقد مر ان الرأي مقدم على القوة والشجاعة لأصالة منفعته ، وإنما خص الرأي بالشيخ والجلد لان كلا منهما مظنة ما خصه به فان الشيخوخة مظنة الرأي الصحيح لكثرة تجارب الشيخ وممارساته للأمور ، والغلام مظنة القوة والجلد ، وعلى الرواية الأخرى فمشهد حضوره والمعنى ظاهر " . وقال ابن أبي الحديد في شرحه ( ج 4 ، ص 280 من طبعة مصر ) : إنما قال كذلك الان الشيخ كثير التجربة فيبلغ من العدو برأيه ما لا يبلغ بشجاعته الغلام الحدث غير المجرب لأنه يغرر بنفسه فيهلك ويهلك أصحابه ، ولا ريب ان الرأي مقدم على الشجاعة ولذلك قال أبو الطيب : الرأي ( فذكر البيتين الذين ذكرهما الشارح مع ثلاثة أبيات اخر من القصيدة وخاض في نقل غير ذلك أيضا فمن اراده فليطلبه من هناك ) .

( 17 ) - قال الميداني في مجمع الأمثال ( ص 178 من طبعة إيران ) : " حلب الدهر أشطره ، هذا مستعار من حلب أشطر الناقة ، وذلك إذا حلب خلفين من أخلافهما ثم يحلبها الثانية خلفين أيضا ، ونصب أشطره على البدل ( اي ) أشطر الدهر والمعنى انه اختبر الدهر شطرى خيره وشره فعرف ما فيه ، يضرب فيمن جرب الدهر " .

( 18 ) - قال الميداني في مجمع الأمثال ( ص 26 من طبعة إيران ) : " يضرب لمن يوصف بالحزم والجد في الأمور " .