الثقافة والتنمية الاقتصادية

 

لورانس إي . هاريسون

 

 

منذ أن كنت، بداية، منهمكا في المساعدات الإنمائية الدولية مما يقارب النصف قرن، ظهرت وولّت نماذج سائدة للتنمية، من بينها مراحل روستو عن النمو الاقتصادي، والتخطيط القومي، والتركيز على أفقر الفقراء، والتكنولوجيا الملائمة، والاعتماد، والتركيز على القطاع الخاص، و"إجماع واشنطن"، والتطوير المؤسسي. ولقد شهدنا خلال السنوات الخمسين الماضية بعض النجاحات بشكل كبير في شرق وجنوب آسيا. لكن أبرز ما يجذب الانتباه في هذه السنوات هو الشعور بخيبة الأمل والإحباط من "الإعياء في التنمية" التي يقودها فشل الغالبية العظمى من الدول في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي في تحقيق معدلات تحوّل للنمو الاقتصادي.

لم يتم مواجهة القيم الثقافية والاتجاهات في اي نقطة في ملحمة النماذج الطويلة هذه. من الصحيح أن المختصين في الأنثروبولوجيا الثقافية قد شاركوا منذ السبعينات في تصميم المشاريع، لكن هذه المشاركة كانت تقتصر في العادة على التأكيد على أن الحقائق الثقافية ظاهرة بشكل كاف في التصميم، ونادرا ما كانت لتشجيع التغيير الثقافي. يُقر العديد من علماء الأنثروبولوجيا، وعلماء الإجتماع بالتأكيد، بالنسبية الثقافية، وهي النظرية التي تنص على أنه يتوجب على كل مجتمع أو ثقافة أن تُحدد قيمها وأن لا يوجد بين الثقافات ما هو أفضل أو أسوأ، بل هناك اختلاف فيما بينها. ويمكن للمرء أن يتصور رد الفعل المريع على تعليق أدلى به ديفيد لاندس، كاتب ثروة وفقر الأمم، في مؤتمر للبنك الدولي في عام 2000: "... هناك ثقافات أسميها "سامة"... تُعيق الذين يتمسكون بها."

تتفق النسبية الثقافية بشكل رائع جدا مع ميل العديد من الاقتصاديين إلى افتراض أن الناس سواسية في كل انحاء العالم. وكما كتب وليم إيسترلي، عالم الاقتصاد في البنك الدولي سابقا ومؤلف كتاب: عبء الرجل الأبيض، في مراجعته لكتابِي: من يزدهر؟ ربما هناك الكثير مما يمكن قوله حول وجهة نظر الإقتصادي قديمة النمط على أن الناس سواسية في كل مكان وأنهم سيستجيبون للفرص الاقتصادية والحوافز الصحيحتين." فكيف إذن يمكن أن يُفسر إيسترلي سبب الأداء الأفضل لبعض الأقليات العرقية أو الدينية مقارنة بالأغلبية العظمى للسكان في البلدان متعددة الثقافات حيث تكون الفرص الاقتصادية والحوافز متاحة للجميع، كما هو الحال عند الأقليات الصينية في إندونيسيا والفليبين وتايلندا وغيرها من الأماكن التي هاجر إليها الصينيون، بما فيها الولايات المتحدة؟ لماذا نجح "إجماع واشنطن" بشكل جيد في الهند وضعف في أمريكا اللاتينية (ما عدا تشيلي)، حيث بدت الإشتراكية، بل وحتى الإشتراكية الإستبدادية في حالة كوبا وفنزويللا، حية ونشطة؟ من المحتمل أن لا تقدم العوامل الثقافية تفسيرا كاملا، ولكن من المؤكد أنها ذات صلة بالموضوع.

كان ألن غرينسبان على صواب عندما قال في أعقاب انهيار الإقتصاد الروسي في أواخر التسعينات: "كنت أعتقد أن الرأسمالية هي طبيعة البشر. ولكنها ليست على الإطلاق. إنها الثقافة."

بعض الإقتصاديين الذين يراعون الثقافة

لقد واجه بعض الإقتصاديين الثقافة ووجدوها مفيدة في فهم التنمية الإقتصادية ربما تأتي معظم البيانات الواضحة والرئيسية بقلم ديفيد لاندس: "كان ماكس ويبر على صواب. فإذا تعلمنا شيئا من تاريخ التنمية الإقتصادية فهو أن الثقافة هي المعنية تقريبا وبالتوسع في فكرة لاندس الرئيسية حول الموضوع، كتب الإقتصادي الياباني يوشيهارا كيونيو "إن أحد أسباب تطور اليابان هو أنها تملك ثقافة مناسبة لذلك. فلقد علق اليابانيون أهمية على (1) المساعي المادية؛ (2) العمل الجاد؛ (3) الادخار للمستقبل؛ (4) الاستثمار في التعليم؛ و(5) قيم المجتمع."

وحتى جيفري ساكس، النزّاع إلى الشك في الثقافة، يعترف بتأثيرها. ففي جوهر فصل كتبه في: الثقافة مهمة، يقول إن الثقافة لا تهم. ورغم أن هذه الفكرة الرئيسية تتكرر في موضوع كتابه الأخير: نهاية الفقر، إلا أنه في مرحلة ما أضاف أيضا الآتي: "حتى عندما تحاول الحكومات إحراز التقدم لبلدانها، قد تُشكل البيئة الثقافية عقبة أمام التنمية. فعلى سبيل المثال، قد تمنع المعايير الثقافية أو الدينية دور المرأة، تاركة نصف السكان دون حقوق اقتصادية أو سياسية..."وقد أجرى عالم الاقتصاد الإيطالي غيدو تابيلليني مؤخرا دراسة حول مقارنة الأداء الإقتصادي في المناطق الأوروبية باستخدام بيانات من مسح القيم العالمية بشأن الثقة والتحكم في مصير الفرد واحترام الآخرين (ويبين أن ثلاثتها مرتبطة بشكل إيجابي مع التنمية الإقتصادية) والطاعة، التي ترتبط سلبيا معها. وكانت استنتاجاته:

"هذه السمات الثقافية ترتبط ارتباطا وثيقا ليس فقط بالتنمية الاقتصادية للمناطق الأوروبية فحسب، بل إنها ترتبط أيضا بالتنمية الاقتصادية والنتائج المؤسسية في عينة واسعة من الدول... وبذلك، يعني هذا التحليل أنه لا يوجد سيادة للمؤسسات الرسمية على الثقافة. بل على العكس، فمن المرجح أن يتفاعل كلاهما وأن يشكلا معا الوظيفة الفعلية لمؤسسات العالم الحقيقي، وأن يؤثرا على الحوافز وسلوك العوامل الإقتصادية والسياسية."

موينيهان ومشروع بحث "الثقافة مهمة"

لقد ترأست مشروع بحث "الثقافة مهمة" في معهد فليتشر فى تفتس منذ 2002 لغاية 2005، وهو متابعة لكتاب: الثقافة مهمة (بيسك بوكس، 2000)، شاركتُ في تحريره مع صمويل هنتنغتون. لقد شارك نحو 65 خبيرا من 25 دولة، كما تم عقد مؤتمرات رئيسية في فليتشر في عامي 2003 و2004. تم نشر ثلاثة كتب حول مشروع بحث "الثقافة مهمة" في عام 2006: كتاب استعراض بعنوان الحقيقة الليبرالية المركزية (أوكسفورد، 2006) والذي قمت بتأليفه؛ تطور الثقافات: مقالات في التغير الثقافي (روتلدج، 2006) شاركتُ في تحريره مع جيروم كاجان؛ وتطور الثقافات: دراسات حالة (روتلدج، 2006) شاركتُ في تحريره مع بيتر بيرغر.

كان الهدف من مشروع بحث "الثقافة مهمة" يتمثل في المبادئ التوجيهية للتغير الثقافي التقدمي الذي يظهر في الفصل الأخير من كتاب: الحقيقة الليبرالية المركزية. وللتمكن من الوصول إلى الهدف، تم التركيز على ثلاثة أسئلة:

- ما هو الشيء الموجود في الثقافة والذي يؤثر في السلوكيات التي تؤثر بدورها في الأداء السياسي والإجتماعي والإقتصادي؟

- ما هي مؤسسات وأدوات تحول وتغيّر الثقافة؟

- ماذا يمكننا أن نتعلم عن الثقافة والتغير الثقافي من دراسات حالات النجاح والفشل؟

تحمل نتائج المشروع حكمة دانيال باتريك موينيهان التي تُذكرغالبا: "إن الحقيقة المحافظة المركزية هي أن الثقافة هي التي تحدد نجاح أي مجتمع وليس السياسة، وأنه باستطاعة السياسة أن تُغير ثقافة ما وإنقاذها من نفسها." هذا الأخير هو، بالطبع، مصدر عنوان كتابي الأخير. ربما كان من الممكن وضع عنوان "الحقيقة المحافظة المركزية" لكتاب: الثقافة مهمة.

تقسيم "الثقافة"

إن الإجابة على السؤال الأول هو دراسة تصنيف لخمسة وعشرين عاملا من العوامل التي يُنظر إليها بطريقة مختلفة جدا في الثقافات التي تميل إلى التقدم والثقافات التي تقاوم التقدم. إن المخطِّط الرئيسي لها هو العالم والصحافي الأرجنتيني ماريانو غروندونا، الذي اعتبر الولايات المتحدة نموذجا للثقافات الميالة إلى التقدم، والأرجنتين، وبالتالي أمريكا اللاتينية، نموذجا للثقافات المقاومة للتقدم. قُسِّمت العوامل الخمسة والعشرون إلى أربع مجموعات: النظرة العالمية، والقيم، والفضائل، والسلوك الإقتصادي، والسلوك الإجتماعي.

هذه الأجزاء ليست مفصولة كليا، فالعوامل التي تؤثر على الأداء الإقتصادي موجودة فيها جميعا. فعلى سبيل المثال، يتناقض عامل النظرة العالمية "للمصير" بين الثقافات، ["يمكنني التحكم بقدري" (الثقافات الميّالة للتقدم) و"القدر" (الثقافات المقاومة للتقدم)]، مع وجود معاني متضمنة جسيمة على الريادية، أحد العوامل الرئيسية في مجموعة السلوك الإقتصادي. وتتضمن المجموعة ما يلي:

العمل/الإنجاز: تناقض بين "الحياة من أجل العمل" الميالة للتقدم، و"العمل من أجل الحياة" المقاومة للتقدم.

التدبير: "أُمّ الاستثمار" مقابل "تهديد للمساواة".

النزوع للخطر: معتدل في الثقافات الميالة للتقدم، وضعيف في الثقافات المقاومة للتقدم، مع بعض روح المغامرة أحيانا.

المنافسة: تؤدي إلى التفوق، مقابل الخطر على المساواة والإمتياز.

الإبداع: الثقافات الميالة للتقدم منفتحة على الإبداع وسريعة التكيّف معه، في حين أن الثقافات المقاومة للتقدم مفعمة بالشك وبطيئة في التكيّف.

التقدم: الجدارة مقابل روابط الأسرة.

التحول الثقافي

يشتمل السؤال الثاني المتعلق بمؤسسات وأدوات تحول الثقافة على ممارسات تربية الأطفال وجوانب عديدة من التعليم والدين ووسائل الإعلام والقيادة السياسية ومشاريع التنمية. وقد يكون الدين الأكثر أهمية فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية. لقد قمنا بتصنيف وتجميع 117 دولة حسب الدين السائد وتم تسجيل أدائها في عشر مؤشرات للتقدم، يعكس اثنان منها مباشرة الازدهار (مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، الذي يتضمن الناتج المحلي الإجمالي للفرد فضلا عن ثلاثة عوامل اجتماعية؛ ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للبنك الدولي المحسوب على أساس تعادل القوة الشرائية). بعض المؤشرات الأخرى لها علاقة أيضا، مثل الثقة والفساد وتوزيع الدخل.

تؤكد البيانات بشدة صحة فرضية ماكس ويبر الواردة في كتاب: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: إن أداء الدول البروتستانتية أفضل من تلك الكاثوليكية في خلق الرخاء الاقتصادي والإزدهار. ينخفض المتوسط لدى الدول الكاثوليكية نتيجة بطء التنمية في أمريكا اللاتينية، ولكن حتى عندما يتم اعتبار مجتمعات العالم الأول الديمقراطية الرأسمالية، فإن أداء الدول البروتستانتية أفضل بكثير من أداء الدول الكاثوليكية فيما يتعلق بالإزدهار والثقة والفساد.

وبشكل أعم، فإن تحليل الأديان يشير إلى أن أداء المجتمعات التي تعتنق الديانات البروتستانتية واليهودية والكونفيوشية أفضل من أداء المجتمعات الكاثوليكية والمسيحية الأورثوذكسية لأنها تشترك في أنماط القيم الخاصة بالسلوك الإقتصادي الذي يميل إلى التقدم، في حين أن الأديان المتباطئة تميل نحو القيم المقاومة للتقدم. ويرمز التناقض المستمر للكنيسة الكاثوليكية نحو اقتصاد السوق إلى هذا الإنقسام، وهي قضية تم تأكيدها من قبل مايكل نوفاك في كتابه: الأخلاق الكاثوليكية وروح الرأسمالية. ولكن الدين ليس هو المصدر الوحيد للسلوك الاقتصادي الذي يميل إلى التقدم: فأهل الباسك شديدو التمسك بالكاثوليكية وناجحون في الأعمال التجارية الريادية؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى تشيلي التي تتفاخر بأن لديها أنجح أداء إقتصادي مستدام في أمريكا اللاتينية، فهي شديدة التمسك بالكاثوليكية وهي الدولة التي بها أكبر نسبة من السكان الذين ينحدرون عن الباسك في أمريكا اللاتينية.

على أية حال، فإن ما سبق ذكره يقترح وجود ثقافة عالمية للتقدم: حيث تخلق نفس قيم السلوك الإقتصادي، أيا كان أصلها، الإزدهار في خلفيات جغرافية - مناخية وسياسية ومؤسسية وبالطبع ثقافية مختلفة على نطاق واسع. فعلى حد علمنا، لا علاقة للجينات بالثقافة. ففي حين أن التغير الثقافي ليس مقترحا بسيطا ولا سهلا، فهو يحدث بشكل دائم في جميع أنحاء العالم، ولا يوجد سبب يستدعي أن تكون "قيم التقدم العالمي" بعيدة المنال لأي مجتمع إنساني.

الدروس المستقاة من دراسة الحالة وموينيهان

من بين السبع والعشرين دراسة حالة، هناك عشر قصص نجاح اقتصادي: الأربع دول التي تتبع الكونفيوشية وهي الصين واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية؛ الهند؛ تشيلي؛ وأربع مجتمعات غربية: إيرلندا ومقاطعة كيبيك وإسبانيا والسويد. وبينما تجمع الدول العشر عناصر موينيهان في الحقيقة المحافظة المركزية (التي تسيطر عليها الثقافة) والحقيقة الليبرالية المركزية (التي تهيمن عليها السياسة والسياسات)، فإن التقدم في الدول الأربعة التي تعتنق الكونفيوشية وتشيلي والسويد، في رأيي، يعود أساسا إلى الثقافة الموجودة من قبل، بينما التقدم في إيرلندا وإسبانيا ومقاطعة كيبيك يرجع أساسا إلى السياسة والسياسات التي تُشجع على التغير الثقافي. أما الهند هي حالة وسيطة تتطلب المزيد من الدراسة.

1. شرق آسيا

تشترك الدول "الكونفيوشية" (وبشكل أكثر دقة، الدول التي تأثرت بشكل كبير بالثقافة الصينية، التى تشمل بالإضافة إلى الكونفيوشية كلا من التاوية والبوذية وعبادات الأسلاف القديمة) جوهريا في الثقافة العالمية للتقدم: فالتعليم والإنجاز وأخلاقيات العمل والجدارة والتدبير كلها موضع تقدير واحترام في مجتمعات شرق آسيا. ويناقض نجاحها الإقتصادي تحليل ويبر في ديانة الصين الذي يؤكد فيه أنه من غير المحتمل حدوث تطور رأسمالي سريع وكبير في الصين بسبب عدم وجود أي شيء يماثل "التوتر" الكالفيني الناجم عن عدم اليقين من كونها "المختارة" ويعزو كثير من المراقبين ركود اقتصادات شرق آسيا (باستثناء اليابان) في منتصف القرن العشرين إلى الكونفيوشية، وخصوصا الدور المؤثر الذي أدّاه أدباء الماندارين (ماو نموذج على ذلك) وتدني المكانة التي توليها للنشاط الإقتصادي في النظام الكونفيوشي. وكان التشجيع من قبل القيادة السياسية هو الأمر الضروري لإطلاق قوى التعليم والإنجاز والجدارة والتدبير الكامنة لأداء سحرها الاقتصادي، وفي حالة كوريا الجنوبية وتايوان، كانت المخاوف الأمنية هي العامل المحفز. لقد كان تصريح دنغ زياو بينغ فى عام 1978 "إن الاستثراء أمر مجيد"، العامل وراء إطلاق السحر في الصين، والعلامة الواضحة لنهاية ثورة ماو الماركسية. فعندما يتواجد التشجيع والحوافز، تدفع قيم التقدم العالمية عجلة المعجزات الإقتصادية، مثلما فعلت عندما قرر زعماء الميجي في اليابان في عام 1868 اللحاق بركب الغرب.

2. تشيلي

يظهر اختلاف تشيلي عن غيرها من بلدان أمريكا اللاتينية جليا من خلال تنفيذها الفعال لسياسات "إجماع واشنطن" وهي الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي قامت بذلك. كما ويبدو وضعها الفريد في أمريكا اللاتينية من تصنيف مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية العالمية لعام 2005: حيث تعادلت مع اليابان في المرتبة 21، وتأتي الأوروغواي، وهي الدولة الأمريكية اللاتينية التي تلي تشيلي في المرتبة 32 وكوستاريكا والسلفادور في المرتبة 51. وتشتهر قوات الشرطة الوطنية لتشيلي، المعروفة بإسم كارابينيروس، بالمهنية والنزاهة خلافا للسلوك الجنائي غالبا للشرطة فى بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى.

تتمتع تشيلي أيضا بتقاليد غير مألوفة في الريادية. ففي العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، لوحظت مهارة التشيليين في المخروط الجنوبي في الأعمال التجارية، كما قدم التشيليون دفعة قوية لنمو الإقتصاد الأرجنتيني فضلا عن إقتصاد بلادهم. بينما ساهمت العوامل الأخرى، بما فيها جغرافية ومناخ تشيلي المشابه جدا لكاليفورنيا، في موهبة الأعمال الاقتصادية لتشيلي، فمما لا شك فيه أن التأثير غير المتناسب للباسك كان مصدرا هاما لقد لعب الاستثمار الأجنبي دورا رئيسيا فى التنمية الاقتصادية لتشيلي، وخاصة في مجال تعدين النحاس. ولكن استجابة الأعمال للسياسات الاقتصادية المنفتحة التي تم وضعها خلال فترة ديكتاتورية بينوشيه والمحافظة على استمراريتها من قبل الحكومات المنتخبة منذ عام 1990، جاءت أساسا من التشيليين.

3. السويد

بقياس العشرة مؤشرات من مؤشرات التنمية السياسية والإقتصادية والإجتماعية، بدءا من مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية إلى القيم العالمية لمسح البيانات حول الثقة، يتبين أن دول الشمال هي بطلة التقدم. إن جميع دول الشمال الخمسة، فنلندا والسويد والنرويج والدنمارك وآيسلندا، ذات خلفية لوثرية، وإن كان القلة، في يومنا هذا، هم من الملتزمين بالذهاب إلى الكنيسة.

إن اللوثرية هي مصدر الكثير من المنظومة القيمية لدول الشمال والتي أنتجت مستويات تعليمية عالية وبرامج رعاية شاملة ومنتشرة وجودة أعمال مرتفعة متمثلة في نوكيا الفنلندية وفولفو وساب وآيكيا السويدية. ويبدو التوافق بين الكفاءة الإقتصادية والإنفاق الإجتماعي في سياق دول الشمال من خلال تقديرات عام 2006 للمنتدى الإقتصادي العالمي ولقد دونت مجلة الإيكونوميست مؤخرا، "إن ارتفاع الضرائب وشبكات الأمان السخية للرعاية لا تُقوض الاقتصادات المنافسة... إن الاقتصادات الإسكندنافية تقع في مرتبات عليا..." (احتلت السويد المرتبة الثانية في العالم).يُشير النجاح الإقتصادي لمجتمعات دول الشمال، والمجتمعات البروتستانتية بشكل عام، بقوة إلى أن تركيز ويبر على "التوتر" الكالفيني كان ضيقا جدا وأن المزايا البروتستانتية حول التعليم والإنجاز وأخلاقيات العمل والجدارة والتدبير والأمانة—ثقافة تقدم عالمية—هي القوة الحقيقية وراء روح الرأسمالية.

4. إيرلندا وإسبانيا

إن لـ"المعجزتين" الاقتصاديتين الإيرلندية والإسبانية أمورا عديدة مشتركة. وكان كلاهما، وإلى حد بعيد، نتيجة لانفتاح السياسات الإقتصادية المنغلقة في ذلك الحين. ولقد لعب الاستثمار الأجنبي، وفي حالة إسبانيا تحديدا، والسياحة، أدوارا رئيسية، معوضين، في البداية، النقص المحلي في رأس المال والريادية. استفادت الدولتان من برامج المساعدة للإتحاد الأوروبي بشكل جيد وشدد كلاهما على التعليم، ففي حالة إيرلندا، تحولت في مدى 40 عاما من أقل دول أوروبا تعليما إلى واحدة من أكثرها. وانخفض نفوذ الكنيسة الكاثوليكية انخفاضا حادا لدي الدولتين إلى درجة أصبح يسمع المرء فيها عبارة "فترة ما بعد الكاثوليكية". وتم خلال هذه العملية تحول الثقافات في كلتي الدولتين.

5. كيبيك

كانت كيبيك، قبل "الثورة الهادئة" (1960-75)، متخلفة مقارنة مع سائر المقاطعات الكندية الأخرى: فكانت أكثر فقرا وأقل تصنيعا وأقل تعليما وأقل معافاة صحية وأقل ديمقراطية. أما اليوم، فإن مؤشرات التقدم في كيبيك مشابهة لبقية مقاطعات كندا، وفي بعض النواحي، مثل معدل التسرب من المدارس الثانوية، هي الأفضل في كندا. فما الذي حدث لتحقيق هذا التحول؟

- استخدام الوطنية الشاملة لتعزيز الوحدة والجهد والتضحية.

- عملية "إزالة تأثير الكهنة" والتي تم من خلالها تخفيض نفوذ الكنيسة بشكل كبير، وخاصة في التعليم، خلال فترة خمس سنوات (1961-1966). وكما هو الحال في إيرلندا وإسبانيا، يطلق أحيانا على كيبيك "فترة ما بعد الكاثوليكية".

- تخصيص موارد ضخمة للتعليم.

- تعزيز المساواة بين الجنسين، خاصة في أماكن العمل.

- إقامة دولة عصرية مبدعة تصدرت التنمية بدءا من سيرك دي سولاي إلى الصناعات البيوتكنولوجية المتقدمة. ولقد كان هذا النهج "المشترك" الذي ضم التجارة والعمل والمهن المختلفة... إلخ، بالاشتراك مع الحكومة لمناقشة السياسات ناجحا بشكل عام.

- جهود رامية إلى الحد من اللامساواة بقيادة الدولة.الأمر الذي يدعو للسخرية، أن لمحة القيم لكيبيك قد تقاربت مع تلك لكندا الناطقة باللغة الإنكليزية بالتزامن مع نمو الشعور نحو الاستقلال في الإقليم.

6. الهند

قد يبدو الأمر مفاجئا للعديد- حيث أنني قد تفاجأت بذلك - أن الهند تحت حكم المغول، وعلى الأقل وفقا لبيانات أنجوس ماديسون، استحوذت على ما يزيد عن العشرين بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في أوائل القرن الثامن عشر، بسبب إنتاج النسيج والمنتوجات الزراعية أساسا. تؤيد هذه الحقيقة مع النجاح الإقتصادي لكثير من المغتربين الهنود بمن فيهم أولئك الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة، وجود قيم تقدم عالمية في الثقافة الهندية. علاوة على ذلك، فإن أوجه الشبه بين تكشف المعجزة الإقتصادية الهندية ومعجزات شرق آسيا مدهشة: لقد أنتج فتح الإقتصاد الهندي في أوائل التسعينات استجابة مماثلة لتلك التي أصدرتها عبارة "إن الاستثراء أمر مجيد" في الصين.

مما لاشك فيه أن الاندفاع الإقتصادي الكبير في الهند قد اشتعل في جزء كبير منه من قبل مجموعة كبيرة من الناطقين باللغة الإنجليزية، وهذا مصدر قوة قيم تتمتع به إيرلندا أيضا، وكذلك من قبل الاستثمار الأجنبي الذي يرتكزعلى اللغة الإنجليزية. ولكن كان لرجال الأعمال الهنود دورا بارزا في هذا الاندفاع الإقتصادي.

نحن بحاجة إلى تطوير فهم أفضل للسياق الثقافي للمعجزة الهندية. الهند بلد يشمل العديد من المجموعات العرقية والدينية، فعلى سبيل المثال، الهند ثاني أكبر بلد مسلم من حيث عدد السكان (بعد إندونيسيا). من هي المجموعات التي شاركت بشكل رئيسي في هذه الطفرة الإقتصادية واستفادت منها؟ ما هو الأثر المترتب على غالبية عناصر المجتمع التي لا تشارك مباشرة في القطاعات المحدثة؟ ما هو التأثير على المرأة، التي يؤكد ثانوية دورها في الهند الحقيقة أن أكثر من خمسين في المائة من النساء الهنديات أميات؟ هذه بعض من العديد من الأسئلة التي أثارتها "معجزة" الهند الإبتدائية.

الخاتمة

الثقافة أمر هام في التنمية الإقتصادية، ويتوجب على الحكومــات ومؤسسات العون الإنمائية ومجامع الفكر والجامعات مواجهة الثقافة والتغير الثقافي. إن دمج التحليــــل الثقافي والتغـــير الثقافي في مزيج عوامل تصمــيم السياســــات والمشاريع قد يؤدي إلى تسريع وتيرة التنمية الإقتصادية.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:misbahalhuriya