غنى... وفقر!

 

د. سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز 

 

 

نشر ملحق اقتصادي لإحدى الصحف اليومية أرقاماً مذهلة تُبرز كيف يغيب العدل في توزيع ثروات الأرض

يقول التقرير الذي نشره المعهد العالي لأبحاث الاقتصاد التنموي التابع لهيئة الأمم المتحدة ومركزه هلسنكي: إن الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم تزداد اتساعاً بشكل مذهل وخطير، فاثنان في المئة فقط من سكان العالم البالغين يملكون أكثر من نصف ثروة العالم، و50% من سكان العالم فقراء لا يملكون أكثر من 1% من هذه الثروة، والمحصلة النهائية التي خلص إليها المعهد هي أن 26% من سكان العالم والقاطنين في أميركا الشمالية وأوروبا وبلدان آسيا الغنية يملكون 90% من ثرواته!

صدرت هذه التقارير وتقارير أخرى قبل الارتفاع الأخير في السلع والمعادن والنفط، ولن تكون المحصلة فيما قبل وفيما بعد إلا تضاعف ثروة منتجي النفط والمعادن التي لن تُقاس بثروات الدول الصناعية التي ستضاعف الضرائب على كل برميل مستورد، إضافةً إلى زيادة منتجاتها الصناعية المصدرة، متعللةً بارتفاع تكاليف الطاقة، إلى جانب هذا كله هناك فوضى في تسعير وتقييم العملات الدولية بعضها مقابل بعض آخر، وحالات عدم يقين تجاه التقويم الصحيح لعملات أخرى ومؤشرات النمو في هذا التجمع العالمي أو ذاك.

الأزمات الاقتصادية التي تتسبب فيها الكوارث الطبيعية من جفاف وفيضانات وانهيارات أسواق المال والرهن العقاري ستزيد الطين بلة، لكنها كلها تبلور حقيقة لا يمكن التجادل حولها: قلة من الدول أو الناس، ومجموعة معروفة من الشركات، ستزدادون غنىً حتى ولو انخفضت أرباحهم الفصلية مؤقتاً. لماذا؟ لأنهم يتحكمون في اتجاهات الأسواق وأسعار السلع، وكثرة من سكان العالم سيعانون الأمرَّين: هزال إنتاجهم المحلي لأسباب عديدة، وبالتالي ضعف مواردهم من العملات الصعبة، إلى جانب تضخم أسعار الواردات والطاقة.

هذه الهوة تبلور ثلاثة أشكال من التعامل الدولي معها ومع أزماتها اللاحقة؛ فهناك دول نظامها السياسي تتحكم فيه طُغمة العسكر أو نُخب معينة، كل هؤلاء سيتجاهلون تماماً عمق هذه المشكلات الاقتصادية، وستبقى الأمور كما هي منذ عقود..شعارات براقة وواقع اقتصادي مرير. وسيحاجك البعض أن هذه الدول وكدليل على (عافيتها) لا يتحمل اقتصادها ديوناً ولا يهمه إن فرض عليه المجتمع الدولي عقوبات من حين لآخر، والحقيقة أن هذه الدول لا تحتاج للقروض ولا تهمها العقوبات لأن أسس الإنتاج المحلي بالكاد تكفي الاستهلاك المحلي، ولا تطلعات لديها للأسواق الخارجية؛ فآخر خطوط إنتاج مصانعها تعود لحقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والمقارنة بين مستويات معيشة مواطنيها البائسة وما يرفل فيه الجوار يمكن أن تُرجعه الأدلجة الداخلية إلى ضرورة مقاومة الاستكبار والتصدي للمستعمرين... الخ.

هناك شكل ثانٍ من التعامل الدولي مع المشكلات الاقتصادية الراهنة والتي تتسع فيها الهوة بين الأغنياء والفقراء، ويمكن أن تتمثل هذه النمطية الاقتصادية من خلال تعامل نوعية من هذه الدول الراغبة في النمو السريع والفاقدة للهياكل والمؤسسات الحقيقية الاقتصادية، مع فوضى الاضطراب المالي العالمي من منظور نصائح منظمات التجارة العالمية والصناديق الدولية: سترفع - مثلاً - الإعانات عن القوت الشعبي وضروريات الغالبية الساحقة من شعوبها، وستأخذ هذه الدول بالتأكيد بمبادئ الأسواق الحرة والانفتاح الكامل، ونتيجةً لذلك ستُسحق الطبقات الوسطى ليتراكم تجمع كبير للشرائح المحرومة، وتراكم قزمي مقابل نخبوي ضيق لملاك الثروات، وبالطبع ولوجود خلل مؤسسي لن تكون هناك تشريعات ولا نُظم تمنع السُّعار الطبقي من جهة، ومن جهة أخرى لن تتواجد حماية كافية للوسطية الطبقية حتى لا تنـزلق نحو الأسفل، وستترتب على ذلك مشاكل سياسية واجتماعية كبرى.

هناك شكل ثالث من التعامل الدولي مع الاضطراب الاقتصادي، هناك دول متقدمة ستعاني شعوبها بالتأكيد من تبعات التضخم أو نقيضه الركود، ولكن في المقابل سيتعامل الـمُشرِّع الاقتصادي فيها وبسرعة كبيرة مع الحقائق على الأرض، ستُرفع الفوائد البنكية أو تُخفض تبعاً لمؤشرات اقتصادية لا لبْسَ فيها، وستزداد الأجور في حالة التضخم، وستُسن مجموعة من التشريعات والأنظمة لدعم - ولو مؤقتاً- الأفراد الذين فقدوا وظائفهم نتيجة لتسريحات بعض الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية لموظفيها، وستُعاد كذلك هرمية الوظائف العليا في حال فشل مدير رفيع في توقع خسارة أو حتى تصاغر الأرباح المتوقعة، يتجمع مديرو البنوك المركزية في هذه الدول للنظر في ضخ سيولة في الأسواق على أمل رفع معنوياتها وإشعارها بأن الدعم رهن الإشارة في أيام الانهيارات المفاجئة، وستأخذ مناقشات أزمات المال والمعيشة جُل أوقات مداولات البرلمانات المختلفة في الدول المتقدمة، وستُطرح بدائل اقتصادية للخروج من حالات الركود أو التضخم، هذا إلى جانب حراك ضخم من قِبل الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى لفتح أسواق جديدة، وتفعيل حملات دفع المستهلكين نحو مزيد من الاستهلاك، كل ذلك للرجوع مرة أخرى نحو أفق العافية الاقتصادية التي ستنعم بخيراتها الشعوب والحكومات المؤتمنة على مجتمعاتها. أين نقع نحن العرب من هذه الأنماط الثلاثة؟

إن نحن استبعدنا دولاً في الخليج العربي فإن غالبية اقتصاديات الدولة العربية هي خلائط بين النوعين الأول والثاني، وسيكون هذا كافياً - حتى ولو تأخر الوقت قليلاً أو تقدم - لتشكل تربة خصبة للقلاقل والحركات المسلحة ومظاهر الإرهاب ذات المسوح الدينية.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:alettehad