تغير مفهوم الفقر وانعكاساته على الخير العربي ومؤسساته في عصر العولمة

 

الأستاذ صالح بركات

 

 

هذه المحاضرة تمثل وجهة نظر تعتبر أن المؤسسات الأهلية غير الحكومية هي الوسيلة المثلى لتنمية بلدان العالم الثالث في مجالات العمل الاجتماعي والثقافة والعدالة والبيئة والديمقراطية والتراث. فالقطاع العام فيها عموماً يتميز بالفساد المستشري على كل المستويات في حين أن القطاع الخاص, في ضوء عدم الإستقرار العام الذي تتمتع به أنظمة بلدان العالم الثالث, يعمل على تحقيق الربح السريع بغية الهروب برأس المال إلى مجتمعات أكثر هدوء. وبالتالي لا يبقى لنا غير مؤسسات العمل الأهلي التي تتطلع إلى القيام بمشاريع بعيدة الأمد وهذا هو الفرق بين زراعة الخس ( كما في القطاعين العام والخاص حيث المطلوب نتائج سريعة القطاف ظاهرة للعيان ولو ينتهي مفعولها بسرعة بدون آثار فعلية ) وزراعة الزيتون ( حيث النتائج الفعلية لا تظهر إلا بعد حين لكن تبقى آثارها جلية واضحة تتوارثها الأجيال ).

وأما عن موضوع الفقر, فتم اختيار لما يحمل من أهمية بالنسبة إلى أكثرية مؤسسات العمل الأهلي في العالم العربي, التي تعمل بمعظمها في حقل الخدمة والرعاية الاجتماعية. وتغير النظرة نحو الفقر يتطلب من هذه المنظمات اعتماد سياسات جديدة لممارسة عصر مختلف قادم.

ومعظم ما سوف أقوله في هذا البحث قد لا يبشر بالخير, إنما دوام الحال من المحال. مثلما قال غاليليو أن الأرض تدور وكذبة رجال الدين, استعير المثال لأقول أن عالمنا العربي الإسلامي يتغير, إن لم يكن بإرادتنا فغصباً عنا. وما يتعين علينا الآن, طالما أن معطيات المواجهة تبدو هشة, هو أن نستعد للتعاطي مع التغيير القسري الحاصل في مفهوم الفقر, وبالتالي حصول تغيرات في مفهوم العمل الخيري الذي نما وازدهر حتى الآن معتمداً على مفهوم الفقر التقليدي. وإلا فإن الطلاق بين المؤسسات التقليدية والجيل الجديد, الذي ينتمي إلى عصر آخر ويتكلم لغة اخرى, حاصل بالتأكيد.

وقبل أن أبدأ, أحب أن أسجل مفارقة حيث سأتكلم عن الفقر في العالم العربي بالرغم من كل ما تدخر به أمتنا من خيرات ونعم موارد طبيعية, عجيب!

أولاً: حول أسباب التغيير:

1. تطور المستوى العلمي عموماً وتحول النظرة إلى الدين من التبعية المبنية على الإيمان إلى الإختيار المبني على الإقتناع. فأصبحت الزكاة رمز التكافل الاجتماعي والعدالة الإنسانية, وانتقل التبرع المفروض بالتقاليد والأعراف إلى حالة التبرع نتيجة لرغبة بتحقيق الذات

(مفهوم الـ self-actualization). والفرق بين الحالتين أن المتبرع من النوع الأول يقوم بذلك بمبادرة كاملة منه لإتمام الزكاة المتوجبة عليه فيبحث عن المتلقي من تلقاء نفسه وبأسرع وقت لإيتاء ما عليه, في حين أن المتبرع من الجيل الجديد لا يشعر بضرورة القيام بذلك إلا عندما يتم التواصل معه ويقتنع بأن تبرعه يؤكد مساهمته كمواطن صالح صاحب دور فاعل في مجتمعه ومحيطه.

وبالتالي فأصبح المطلوب من المؤسسات الأهلية أن تنتقل إلى مرحلة أخذ المبادرة تجاه المتبرعين وعدم الإسكتفاء من الآن وصاعداً على اندفاعهم من طرف واحد.

2. الانبهار بالموديل الأميركي مع ما يرافق ذلك من سيطرة للمادة والقيم الليبرالية فتصبح قيمة الإنسان مبنية على ما يملك من مظاهر خارجية براقة وليس ما يتميز به من أخلاق وعلم وثقافة. وعصر العولمة الأميركية هو عصر العظمة الاستعراضية بامتياز (spectacular) حيث المقاييس كبيرة, فاحشة, هائلة, ضخمة, ... الخ مما يجعل الأشياء الصغيرة , الفقيرة , المتقوقعة , غير مرغوبة. ويتلازم ذلك مع انحسار مفهوم الزهد والتقشف وتراجع الوازع الديني, حيث الثروة الحقيقية في الآخرة, أمام تفشي حب الظهور والتبدير وسيطرة مفهوم مجتمع الرغد والترف(leisure society) إلى ذلك فالحلم الأميركي (the American dream) يعطي الأمل للجميع (بفضل تطور تكنولوجيا الاتصالات) للطموح بالغنى والثروة وإمكانية حصول ذلك بسرعة وبحد أدنى من الجهد (طبقة الاثرياء الجدد nouveaux riches أكبر دليل) وبالتالي فقد تحول الفقر إلى نوع من المرض يحاول الجميع التخلص منه بشتى الوسائل ومهما كلف الأمر وخصوصاً مع سقوط دول المنظومة الإشتراكية وفشل التجربة الشيوعية أمام التجربة الرأسمالية الليبرالية (ونلاحظ مؤخراً عودة اليمين إلى السلطة في أوروبا وتراجع التيار الإشتراكي عموماً).

تجدر الإشارة هنا أن نظام الضمان الاجتماعي في العالم آخذ في الاضمحلال لمصلحة شركات التأمين الكبرى والمستشفيات الخاصة , خصوصاً مع تفشي ظاهرة الخصخصة وبيع مصالح القطاع العام للشركات الخاصة.

3. الاهتمام المتزايد بالمشاكل العصرية وتراجع مشكلة الفقر من مرتبة الاهتمام الأول إلى مرحلة الاهتمام النسبي بالمقارنة مع المشكلات المستجدة:

أ.البيئة تحوز مشاكل البيئية على مزيد من التفاعل مع مشكلات التلوث (سواء الهواء أو الأنهار أو الينابيع أو البحار) والتصحر وثقب الأوزون ونقص المياه العذبة وارتفاع حرارة الأرض والكسارات والمطامر ومعالجات النفايات ...الخ وأُعطي مثلاً في لبنان حيث كان هم التخلص من التلوث الناتج عن سيارات المازوت أكثر ثقلاً من المشكلة الاقتصادية الناتجة عنها.

ب.الصحة لقد أخذت المخاطر الناجمة عن الأمراض المستعصية من مرض فقدان المناعة المكتسبة إلى جنون البقر ونظريات الاستنساخ وتفشي السرطان وآفة المخدرات في فرض نفسها على سلم الأولويات أما من جهة كلفتها العلاجية أو كلفة الخسارة الإنسانية الناتجة عنها. وقد بلغت كلفة الاستشفاء العام في لبنان معدلاً قياسياً يحول حتماً دون زيادة المخصصات الاجتماعية.

ج. التعليم تبقى البلاد العربية من الأكثر تخلفاً على جبهة مكافحة محو الأمية ورفع المستوى العلمي وقدرتها على استبقاء الخبرات المحلية في خدمة أوطانها والحيلولة دون هجرة الأدمغة التي ستؤدي إلى مزيد من استنزاف الطاقات القادرة على استنهاض المجتمعات وبالتالي مزيد من الفقر والتعتير. وتشكل الأهمية المتعاظمة لمجتمع المعرفة منافسة اضافية تسرق من وهج الفقر ومكافحته.

د. التراث يتزايد الاهتمام يوماً بعد يوم على ضرورة المحافظة على الهوية والتراث والأصالة في عصر العولمة الداعي عبر الشركات الكبرى إلى توحيد المعايير والأذواق والاختلافات الثقافية standardization والوصول بالإنسانية إلى الحضارة الواحدة المعولمة الآحادية النمط ومصطلح نهاية التاريخ (فوكوياما).

هـ.تشعب مشاكل الفقر من معدل بطالة وسوء تغذية ومشردين (homeless) ولاجئين وأبناء مخيمات وأطفال شوارع ودعارة القاصرين مما يجعل مكافحة الفقر أكثر صعوبة وتتطلب معالجات مختلفة ومزيد من البرامج المتخصصة التي تتناسب مع حالات الفقر المتنوعة والتي تتزايد مع التحول إلى المجتمعات المدنية المعاصرة. 

4. السيطرة المتزايدة للبنك الدولي ونظام التجارة العالمي " الجات " والمؤسسات الواهبة على اقتصاديات البلاد الفقيرة وتحول تعريف الفقر بعد قمة كوبنهاغن. لقد تم أثناء قمة كوبنهاغن الأخيرة إلى اعتماد تعريف جديد للفقر أكثر شمولاً.

فهو انخفاض أو قصور بالدخل ووسائل الإنتاج الكافية لتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة, وضعف فرص الحصول على العلم, والتشرد والسكن غير اللائق والتمييز الاجتماعي والبيئة غير السليمة وانعدام فرص المشاركة في أخذ القرار في جوانب الحياة المدنية والاجتماعية والثقافية بالإضافة إلى التعريف الكلاسيكي للفقر من الجوع وسوء التغذية والمرض ...الخ. وبالتالي فقد أصبحت كل البلاد, الغنية منها والفقيرة, تجابه مشاكل الفقر والكل في الهوا سوا. فالفقير الهولندي بالنسبة إلى المنظمات الدولية مثل الفقير الأثيوبي ولا حاجة للتعليق! وعند طلب الدول الفقيرة لمساعدة البنك الدولي وشركائه, تفرض الشروط ذاتها على الجميع فيطلب أولاً وقف الدعم عن الطحين والمازوت مثلاً ولو أدى ذلك إلى ثورة جياع. طبعاً أنا لا أقول بأن الإهدار العام لا يجب أن يتوقف, ولكن لاحظوا دائماً كيف يبدأ شد الأحزمة بالفئات الأكثر حاجة.

لا يتسامح البنك الدولي بشأن الدعم على السكر ولكنه يتسامح جداً من أجل الإقتراض لشراء الأسلحة أو تطوير شركات الخليوي. وهذا الاتجاه على تزايد, ومن يحب أن يعرف أكثر عن مساعدات البنك الدولي للعالم الثالث ما عليه سوى أن يدرس حالة الأرجنتين أو لبنان ليرى كيف تشجع سياسته على الاستدانة ومن ثم الوقوع في براثنه وليس مخفياً على أحد أن أولويات البنك الدولي لا تتضمن مساعدة الأكثر حاجةً أو الأسوأ حالاً.

5. استغلال الفقر ونشوء اقتصاد مبني على استغلال الفقر نتيجة الرغبة السامية لدى البشر في مساعدة المعوزين ( والعمل الصالح عند الإنسان بالفطرة) وتكون ميزانيات ضخمة لتحقيق ذلك, نشأت صناعات متخصصة مرتبطة بالمساعدات من مؤسسات للدراسات والأبحاث وجمع الاموالfund raising إلى أخرى مرتبطة بلوجستيه توزيع المساعدات.

ويجب النظر في ارتباط هذه المساعدات طبعاً بشروط الدول والمؤسسات المانحة مع ما يرافق ذلك من مفهوم للتبعية. وبالتالي, فلم يعد التعاطي محصوراً بالرغبة السامية في مساعدة الفقراء بل دخل على الخط أصحاب مصالح كبرى وتغير مفاهيم التعاطي ضمن معطيات جديدة ومتداخلة.

ثانياً- تأثير تغير النظرة نحو الفقر على المؤسسات الأهلية العربية وطرق تمويلها:

1- تحول في ميزانية المنظمات الأهلية العربية:

فمع انحسار دعم الدولة لها (نتيجة مديونية الدول المتزايدة في اقتصاديات السوق العولمة) وصعوبة الحصول على مساعدات عربية (نتيجة الحروب المختلفة وتذبذب أسعار النفط) يتعاظم الاعتماد على مصادر الدخل الاخرى, من القطاع الخاص والشركات, إنما أيضاً المساعدات الآتية من المؤسسات المانحة, وخصوصاً الغربية منها.

2. تحول في استراتيجية استقطاب الدخل:

فمع انحسار مفهوم المسكنة (إدرار الاهتمام والشفقة نتيجة الفقر والعوز) نظراً لكون الفقر خارج الموضة, ونزعة السوق تجاه المؤسسات الكبرى, أصبحت القوة والغنى مقياساً للنجاح ولإستقطاب الدعم ولم يعد مقبولاً التحجج بقلة الإمكانات لتبرير عدم تقديم صورة ناجحة على شاكلة الداعم وصورته.

3. تحول في العنصر البشري:

فمع انكفاء العامل التطوعي (مع تطور المجتمعات العربية نحو مزيد من المدنية الغربية وصعوبات الحياة اليومية الناتجة عنها), أصبح الاحتراف المهني ضرورة وتنمية الموارد البشرية من أهل الاختصاص من مستلزمات النجاح والتخطيط للمستقبل.

4. الارتباط المتزايد بالعناصر الرأسمالية:

كنت قد تكلمت في المؤتمر السابق عن الشركات الكبرى والاقتصاد والعولمة. وهنا تبرز أهمية العمل على إيجاد إغراءات للإعفاءات الضريبية بهدف الحصول على اهتمام ودعم الشركات الرأسمالية الكبرى، خصوصاً وأن الاتجاه الآن هو نحو مزيد من الدمج لتكوين شركات اكثر عالمية (La fatalite du gigantisme).

وتثبت التجربة الغربية أن الاعفاءات الضريبية الممنوحة ضمن النظم المالية والأطر الاقتصادية هي من أبرز الأسباب التي تشجع وتدفع الشركات على دعم مؤسسات العمل الأهلي عامة مالياً وعينياً وإعلامياً وعلى كافة الأصعدة.

5. المزيد من التحول عن التوجه الديني نحو التوجه الانساني:

بعد تداعيات أحداث 11 ايلول 2001, تدل المؤشرات على مزيد من انحسار التوجه الديني (بالرغم من بعض الظواهر المعاكسة على المستوى الفردي الضيق) خصوصاً على مستوى السياسات العليا باتجاه توجه أكثر انسانية فالمجتمعات المتقدمة أصبحت تقاس بتكافلها الاجتماعي وقدرتها على توفير الحد الأدني من مقومات العيش الكريم, بغض النظر عما تدعو إليه الأديان والملل. فمساعدة الإنسان واجب تجاه أخيه الإنسان دون الحاجة إلى خصوصيات الشرائع المختلفة.

وأصبحت مؤسسات العمل الأهلي العربي, اليوم أكثر من ذي قبل, مضطرة إلى إبراز وجهها الحضاري الإنساني ومسح الصورة المسيئة التي دمغها الأميركيون على كل ما له صلة بالعرب والإسلام.

وختاماً, إنني مؤمن كلياً بأن العرب كانوا وما زالوا أمة الخير والعمل الصالح. وكل ما سبق وقلته يندرج ضمن قناعتي الكلية بالتأكيد على ضرورة التأقلم مع المتغيرات والاعتبارات والأساليب الحديثة كي نبقى, كما كنا دوماً وسنبقى بإذن الله, أمة خير.

*مستشار في تنمية الموارد الخيرية وباحث متخصص بالثقافة المعاصرة الجمهورية اللبنانية - مؤتمر الخير العربي الثالث, الأمانة العامة لمؤتمر الخير العربي, لبنان، الاتحاد العام للجمعيات الخيرية في المملكة الأردنية الهاشمية، عمان 22-24 يونيو - حزيران 2002.

المصدر: مركز التميز للمنظمات الغير حكومية