ممنوع الفرار من العراق
هنري كيسنجر
عادت الحرب في العراق لتثير ذكريات من حرب فيتنام، التجربة السياسية الاكثر أهمية بالنسبة لجيل اميركي بأكمله. ما من شك في أن التاريخ لا يكرر نفسه أبدا بشكل دقيق، ولكنْ ثمة شبه كبير بين الحربين: في فيتنام سنحت لحظة تحول فيها الجدل الداخلي في اميركا الى جدل مرير لدرجة أنه منع اجراء نقاش عقلاني ومنطقي بشأن الخيارات التي كانت متوفرة أمام القادة الاميركيين. رؤساء من الحزبين اعتبروا بقاء جنوب فيتنام مصلحة قومية مهمة بالنسبة لاميركا، وفي المقابل اصطفت حركة احتجاجية تبلورت من خلف الاعتقاد أن الحرب تعكس انعدام الاخلاق الذي يتوجب القضاء عليه من خلال المواجهة المباشرة. هذا الطريق المسدود أسدل الستار على الجهود الاميركية المبذولة في فيتنام، والان يتوجب منع تكرار ذلك في العراق. بغية تنفيذ ذلك ثمة حاجة الى ايجاز قصير للمأساة الفيتنامية. اولا، يتوجب التنصل من اسطورة تنازل ادارة نيكسون في عام 1972 عن شروط كانت متاحة في عام 1969 ـ أي إطالة الحرب من غير داعٍ. لن نعرف أبدا اذا كان الاتفاق الذي وقع رسميا في كانون الثاني 1973 سيكون قادرا على ابقاء جنوب فيتنام مستقلا ومنع المذبحة التي جرت بعد سقوط الهند الصينية. مع ذلك نحن نعرف بوضوح أن الخلاف الداخلي في الولايات المتحدة قد أحبط هذه النتيجة من اللحظة التي حظر فيها الكونغرس استخدام القوة العسكرية لتنفيذ الاتفاق وألغى المساعدة بعد مغادرة كل القوات العسكرية الاميركية (باستثناء بضع مئات من المستشارين) الجنوب الفيتنامي. فك الارتباط الاميركي تمخض عن اجتياح القوات الفيتنامية الشمالية لجنوب الدولة بصورة كثيفة خارقة الاتفاقات المعقودة بصورة فظة هذا التجاوز الذي تجاهلته الدول التي تبنت الاتفاق في حينه. تطرح حرب فيتنام مسألتين على صلة بما يحدث في العراق: هل كان الانسحاب أحادي الجانب خيارا متاحا عندما انتُخب ريتشارد نيكسون رئيسا؟ وهل استنفد الوقت المطلوب لتطبيق خطة نيكسون قدرات الشعب الاميركي لتحمل الجهود المطلوبة لتحقيق النتيجة مهما كانت ايجابياتها؟ عندما دخل نيكسون الى منصبه كان في فيتنام أكثر من 500 ألف جندي وازداد عددهم تدريجيا. الانسحاب أحادي الجانب لم يكن قابلا للتنفيذ. اعادة نشر نصف مليون جندي هي كابوس لوجستي حتى في الظروف السلمية، وفي فيتنام كان في ذلك الحين أكثر من 600 ألف جندي شيوعي مسلح. كما كان هناك أساس للافتراض بأن عددا كبيرا من جنود جنوب فيتنام سينضمون اليهم لكسب الشرعية لانفسهم في نظر الشيوعيين. في ظل هذا الوضع كانت القوات الاميركية ستتحول الى رهائن، وسكان فيتنام الى ضحايا. لم يكن هناك أي بديل دبلوماسي متوفر. حكومة هانوي أصرت على أن تصدر كل موافقة عنها لوقف اطلاق النار فقط بعد أن تقوم الولايات المتحدة بإزاحة حكومة جنوب فيتنام وحل الشرطة والجيش هناك واستبدالهم بحكومة خاضعة للسيطرة الشيوعية؛ وأن تحدد جدولا زمنيا لسحب قواتها وأن تلتزم به من دون أي علاقة بالمفاوضات المستقبلية. أحسن نيكسون اجمال الخيار الذي طرح عليه عندما رفض شروط 1969: "هل سنغادر فيتنام هكذا طواعية ونقوم من خلال تحركاتنا ذاتها بتسليم البلاد عن ادراك، للشيوعيين؟ أم سنغادر بطريقة تعطي جنوب فيتنام امكانية معقولة للبقاء كشعب حر؟". الضغط من اجل الانسحاب أحادي الجانب من العراق الذي يمارس في هذه الايام على ادارة بوش يطرح مشكلة مشابهة. في فيتنام حدثت انطلاقة في عام 1972 عندما وجدت الادارة الاميركية ردا ملائما لهجمة الربيع التي شنها شمال فيتنام. عندما قامت الولايات المتحدة بتلغيم موانئ شمال فيتنام وجدت هانوي نفسها معزولة لان بكين وموسكو وقفتا على الحياد ـ نتيجة لتغيير السياسة الاميركية تجاه الصين في 1971 ولقاء القمة مع السوفييت في 1972. نتيجة لذلك، في تشرين الأول 1972، تخلى ليدوك تو، رئيس طاقم المفاوضات الشمالي الفيتنامي، عن الشروط التي كانت قد طرحتها حكومته في عام 1969. ليدوك تو وافق على شروط نيكسون التي عرضها في عام 1972. اتفاق السلام الذي وُقع لاحقا في باريس تضمن بنودا بخصوص وقف اطلاق النار من دون شروط واطلاق سراح الأسرى؛ واستمرار بقاء حكومة جنوب فيتنام ومواصلة المساعدات الاقتصادية والعسكرية الاميركية لها ووقف تسلل قوات شمال فيتنام وانسحاب القوات الاميركية المتبقية، وانسحاب قوات شمال فيتنام من لاوس وكمبوديا. لم يكن أيا من هذه الشروط ذي صلة في عام 1969. ادارة نيكسون كانت مقتنعة بأنها بمقدورها إحراز فرصة عادلة لسكان جنوب فيتنام لتحديد مصيرهم بأنفسهم، وان هذه الحكومة ستتمكن مع الوقت من بناء مجتمع قوي وقادر على الأداء. الخلافات الداخلية في الولايات المتحدة كانت العامل المركزي في احباط هذه الآمال. قضية ووترغيت أضعفت ادارة نيكسون بصورة بالغة، والانتخابات للكونغرس في منتصف الفترة الرئاسية في عام 1974 نقلت السيطرة على هذه الهيئة الى خصوم نيكسون اللدودين جدا الذين أوقفوا الدعم لجنوب فيتنام بصورة منعت تطبيق الاتفاق كما كان مخططا. الجدل الداخلي في الولايات المتحدة تغلب على الاحتياجات الجيو ـ سياسية. ثمة عبرتان تظهران من هذا الوصف. أولا، ليس من الممكن ترسيخ خطة استراتيجية وتركيزها على موعد نهائي محدد بصورة عشوائية. ثانيا، من المحظور أن تضع هذه الخطة قدرة الشعب الاميركي على الصمود على المحك حتى النقطة التي تفقد فيها الادارة القدرة على الاستمرار وتحمل الجهود المطلوبة لتحقيق النتيجة. الانسحاب السريع أحادي الجانب في العراق سيكون كارثيا. يتوجب استنفاد تسوية سياسية من خلال وجهات النظر التي تناقض بعضها البعض أو تتطابق مع بعضها البعض ـ سواء وجهة نظر الاحزاب العراقية المختلفة أو الدول المجاورة للعراق أو الدول الاخرى ذات الصلة بهذه القضية. من دون هذه التسوية قد يطوف المستنقع العراقي على ضفافه ويغرق كل الضالعين في الأمر. الشرط المسبق والضروري هو قدرة الصمود على المدى القريب. يتعين على الرئيس بوش أن يتقدم قدر المستطاع نحو هذا الهدف، وهذا واجبه تجاه الشخص الذي سيحل مكانه في البيت الابيض. من المحظور عليه أن ينقل المشكلة للرئيس الذي سيخلفه، وانما عليه تقليصها الى أحجام أكثر منطقية من تلك القائمة حاليا. ما نحتاجه الآن أكثر من أي شيء آخر هو اعادة بناء الشراكة الديمقراطية ـ الجمهورية في هذه الفترة الرئاسية وخلال الفترة الرئاسية المقبلة. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر: إيلاف نقلا عن هآرتس-22-9-2007
|