القوة الناعمة" وثقافة "الإمتاع والمؤانسة"

 

حميد المنصوري

 

 

هي كذلك، الثقافة والفنون والآداب قوةٌ ناعمة تُسلّط على المجتمعات المختلفة، وهي شبيهة بالقوة العسكرية والاقتصادية، بل هناك من يرى أنها الأكثر تأثيراً على مجتمعات تختلف اختلافاً كبيراً مع طبيعة القوة الناعمة المسلّطة عليها. وللقوة الناعمة فَلَكان، الأول يدور حول الثقافة والآداب التي تعبِّر في مجملها عن الاستمتاع الجماهيري، الذي يشمل أحدث الألبسة والأطعمة والسينما والألعاب الإلكترونية وغيرها مما يُعبِّر عن الاستهلاك الاستمتاعي، وهذا منتشرٌ بشكل واسع ومسلّطٌ على شريحة كبيرة جداً. أما الفلك الآخر، فيدور حول الثقافة النخبوية التي تمثلها الآداب والفنون والعلوم الرصينة التي تُوجَّه إلى قلّة وتتلقاها قلّة أيضاً تتذوقها وتستهلكها بصورة عقلية ووجدانية وليست استمتاعية بحتة.

وإذا عنّ لنا أن نميز بين الفلكين نجد أنهما لا يختلفان من حيث كونهما يغرفان من معين القوة الناعمة نفسها، ولكنهما يختلفان من حيث الزخمُ الثقافي الذي ينطويان عليه، فثقافة الآداب والعلوم "النخبوية" ميزانها العقل، أما الثقافة الاستمتاعية "الشعبية" فمقياسها الحواس. ومن المفروض أن العقل والحواس قلَّما يلتقيان، وعند التلاقي يكون العقل في خدمة ثقافة الاستمتاع، فيُدخِلها كلَّ بيت عبر وسائل الاتصال الحديثة، فتنتشر الثقافة الاستهلاكية في كل مظاهر الحياة اليومية. ولا أدلّ على ذلك مما تزخر به الأسواق من سلع، وآخر ما جادت به تكنولوجيا المعلومات والاتصال الموجهة للترفية أساساً، فيتحقق بذلك الربح المادي والمعنوي الاستمتاعي. وهكذا يبرز العقلُ بدوره فيسوِّق منظومتَه الفكرية في الثقافة الاستهلاكية، فيكون لها أنصارٌ وأتباع وتتشكَّل لها مدارسُ ثقافيةٌ واقتصادية وسياسية في منظومة ربحية مادية. ورغم أن هذا العقل يحملُ علوماً وفكراً واستراتيجياتٍ في تكوينهِ، فإنه يمكن أن يُستخدم لخدمة هذا التوجّه من خلال استغلال التقدم العلمي والثقافي لصالح ثقافة الاستمتاع في ما يُصطلَح عليه بالغزو الثقافي، وذلك في سياسة تهدف إلى القضاء على كل أصالة ثقافية عند المجتمع المتلقي. وهكذا تنتشر الثقافة الاستمتاعية كالنار في الهشيم، أما الفنون الرصينة والآداب والعلوم الإنسانية التي يمكن أن تكون مَصْدراً لقيمةٍ مضافةٍ، فنراها في تقلص دائم أمام الصور التي تقتحم العين والرائحة التي تتسلل إلى الأنف واللسان المنفصل عن العقل. ولم يعد الحرفُ ذاك القبس على درب المعرفة، بل إنه ليس من باب المبالغة القول إن الصورة التي تُلتقط حول العالم عبر الكاميرات ورائحة الأطعمة وأشكال الترفيه المختلفة والأسهم الطائرة والمتهاوية، تَصدُق وتُغْني كثيراً عن الآداب والعلوم لمعرفة العالم.

ولكن، لماذا تسود ثقافة الاستمتاع على ثقافة العقل؟ ولماذا تُغالب الصورةُ التي تراها العين والرائحة التي يشمها الأنف والحركة التي تداعب العضلات والحروفَ والفنونَ الراقية التي تخاطب العقل والوجدان؟ أذكرُ هنا أنني قبل سنين خلت كنت أتلقى من أستاذة بريطانية أسس اللغة الإنجليزية وعندما أرتكبُ خطأ تقول لي (وأنا مُحرَج): جيد، فالخطأ في حرف أو حرفين يحدُث لدى الطلبة البريطانيين أيضاً. وعندما سألتها لماذا، قالت: لِقلَّة القراءة والكتابة ولكثرة "الاستمتاع".

لكن أين نحن اليوم من هذين الفَلَكين؟ لا يصح الخوضُ في موضوع القوة الناعمة دون ردها إلى منظومتها الفكرية. وفي هذا الشأن تتضح القوة الناعمة اليوم في المنظومة الغربية التي قادتها الولايات المتحدة وما تزال. ففي الحرب الباردة لعبت المنظومة الرأسمالية وثقافة الاستهلاك دوراً في التأثير على الكثيرين ممن عاشوا تحت النظم الاشتراكية. وأسوق هنا مثال الكوكاكولا والمارلبورو اللذين أثرا على شعوب العالم بصورة أو بأخرى، كما داعبت السينما الأميركية- عبر ما تناولته من حُب الحياة ومتاع الدنيا كمُخْرَجٍ للإنتاج الرأسمالي- أعمدةَ الاشتراكية فتصدعت. والواقع أن الاشتراكية نفسها فرضَتها أنظمة سلطوية بالوسائل نفسها وداعية إلى الأهداف نفسها، فتشكَّل فَلكٌ قاده الاتحاد السوفييتي سابقاً. وهذا السياق، لا شك أن الشرق الأوسط مستهدفٌ اليوم أكثر من منظومة الاستمتاع، رغم أن التأثير الأميركي في هذه المنطقة، وفي الدول العربية والإسلامية عموماً، يحمل صورة متضاربة عن استهلاك الثقافة الأميركية، فالاستهلاك الواسع قائمٌ حقاً إلا أن تأثيره في الخصوصية الثقافية والحياتية يبقى محدوداً، ويعود ذلك إلى حواجز ثقافية تمنع تغلغل الثقافة الغربية. وفي هذا الصدد يعزو البعض ذلك إلى أن الثقافة الشرقية موغِلة في القِدم ومتشبِّعة بالدين. ولا بد هنا من التمييز بين كون الثقافة متغيرة من حقبةٍ إلى أخرى، وبين كون العقيدة ثابتةً تواكبُ التطورات والأحداث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلا إذا ما أُعيد طرحها في إطار أيديولوجي جديد. وأَستشهد هنا بـ"صمويل هنتينجتون" مؤلف كتاب "صدام الحضارات"، الذي يؤكد بأن العالم العربي والإسلامي يستهلك الثقافة الغربية استهلاكاً كبيراً مع محافظته على خصوصيته الثقافية والعقائدية التي يراها صدامية، بينما يرى آخر أن الحاجز نابع من النظر إلى أميركا باعتبارها تحمل تناقضاً في الأسس والمبادئ التي تنعكس في سياساتها، أي بين ما تتبنى وما تطبق. وهذا "جوزيف ناي" في كتابه "القوة الناعمة" يرى أن أميركا أهملت هذه القوة وأفرطت في القوة العسكرية رغم أنها أكثر جدوى منها، وذلك من منطلق أن الصراع ذو طابع ثقافي في الشرق الأوسط، ولا بد من تهديم هذا الجدار المنيع.

وكيفما كانت الحال، لقد أضحت أمة الكتاب أبعد ما تكون عن القلم... وربما قرأ الناس في تراثنا كتاب "الإمتاع والمؤانسة" وعرفوا أننا أميل إلى الاستكانة والركون إلى الملذات، فكان أن خرجوا علينا من كل فج عميق بالقوة الناعمة تَهُدّ نسيجنا الثقافي. وعندما أرى ما يحدث للعربية اليوم أُجزم أن الاستمتاع عندنا أتى على كل شيء ولم نعُد نميز بين الطيب والخبيث في ما يَفِد إلينا من سلع ثقافية، فغدا الاستمتاع صنوا للثقافة الرصينة، وصارت نجوم الغناء تُغْني عن رصد نجوم السماء.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: الاتحاد الإماراتية-22-5-2007