"سوسيولوجيا" العنف الانتحاري العربي

 

 

سعيد محيو

 

ماذا يعني أن يفجَر إخوان أشقاء، فارق السن بينهما عشر سنوات، نفسيهما في الدار البيضاء؟ الكثير.

فهو ربما يشير، أولاً، إلى أن الاستعدادات الانتحارية لدى المواطنين العرب بدأت تتجاوز الخطوط العمرية المعتادة، التي تصنَف الانتحاري في غالب الأحيان في فئة المراهقين، وأيضاً بأن هذه الاستعدادات باتت تطال فئات عمرية أكبر، تتجاوز كما الحال مع الشقيق الانتحاري الأكبر محمد مها، الثلاثين عاماً.

هذا السن الأخير، ثلاثين عاما، هو المؤشر لوصول الإنسان إلى مرحلة النضج البيولوجي النسبي، فيه تزول الهرمونات العنفية، التي تحَرك المراهق وتدفعه إلى المغامرة والغوص في أحلام البطولة وحتى النبوة، وفيه يبرز دور العقل في التحكم بالغرائز، وتسود الرغبة في الاستقرار وبناء العائلة وتوفير الخلف.

قد يبدو غريباً في هذا السياق، أن يكون المتهور الأول والانتحاري الأول في التاريخ أدولف هتلر، هو من نصح الشباب بعدم حسم انتماءاتهم السياسية قبل أن يقفزوا فوق عتبة الثلاثين. لكن الأمور تتضح، حين نعلم انه قدم هذه النصيحة قبل أن يصبح "الفوهرر" (الزعيم)، لكنه بعد ذلك، كان أول من يشجع الفتية والمراهقين على امتشاق السلاح للموت في سبيل القضية القومية النازية.

ثمة معنى آخر للانتحار الأخوي الثنائي: بدءً، تحول "الموت كأسلوب حياة" من حالات فردية محدودة إلى ظاهرة عائلية. نقول بدءً، لأنه يجب الانتظار لمعرفة ما إذا كانت قصّـة محمد مَـها (32 عاماً) وعمر أخيه (23 عاماً) ستتكرر في المغرب أو المشرق العربي. لكن، ومن خلال استقراء الظواهر الانتحارية في العراق ولبنان، يمكن القول بأن المسألة بدأت تنتقل سريعاً بالفعل إلى النمط العائلي.

وفي مجتمعات عشائرية وقبلية وعائلية، كتلك التي لا تزال تعيش في كنفها المنطقة العربية، سيكون هذا تطوراً خطيراً، إنه أشبه بقرب وصول حرائق صغيرة متفرقة إلى حقول نفط شاسعة.

يكفي هنا أن ينتمي رأس العائلة أو العشيرة إلى مجموعة انتحارية متطرفة ما، كي يجر وراءه كل أقاربه وأنسابه بفعل روابط الدم أو عادات الثأر.

وإذا ما أضفنا إلى هذه الخلطة العشائرية – العائلية، الحقائق المتعلقة بتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية - الاجتماعية في معظم الأقطار العربية، وتفَوق الإيديولوجيات العصبوية والتعصّـبية على ثقافة الانفتاح والحريات، فسنتوصل إلى استنتاج بأن "تعويل" (من عائلة) العمليات الانتحارية، سيكون أخطر تطور في تاريخ المنطقة العربية منذ أكثر من ألف عام.

الشجرة والغابة

الآن، وبعد قول كل شيء عن الغابة التي يمكن أن تكون مختفية وراء شجرة الانتحار الأخوي المزدوج، نأتي إلى الأسئلة الأكبر (لكن ليس بالضرورة الأهم):

· هل انبعاث العمليات الانتحارية في المغرب العربي، مؤشر على ولادة جديدة للتطرف الإسلاموي، بعد حال الخفوت التي شهدها في المشرق العربي خلال السنوات الأخيرة؟

· وإذا ما كان الأمر على هذا النحو، هل يعني ذلك أن ظاهرة التطرف الانتحاري ستبقى معنا إلى حقبة غير قصيرة؟

· ثم: مع أية ظواهر تاريخية، إسلامية وغير إسلامية، يمكن تشبيه الحدث الانتحاري الراهن في المنطقة العربية؟

أغلب الظن أن ظاهرة العنف الانتحاري التي انبعثت في مغرب المنطقة العربية، بعد خفوت في بعض دول مشرقية (مصر وسوريا أساساً)، ستبقى معنا إلى أمد غير قصير، وهذا بالطبع، على عكس رأي العديد من المستشرقين والخبراء الغربيين، الذين "تنبَّـأوا" قبل فترة بقرب انحسار هذه الظاهرة.

الأسباب باتت معروفة، حالة الاكتئاب العامة التي تسود المنطقة العربية، والتي تدفع أمّـة بأسرها إلى "الحلول الانتحارية"، على حد تعبير محمد حسنين هيكل، والاجتياحات العسكرية والأمنية الغربية، التي أعادت إلى الأذهان صورة الاستعمار القديم، وأخيراً، الكساد الاقتصادي- الاجتماعي الكبير في كل الشرق الأوسط العربي تقريباً، والذي يدفع الشباب، إما إلى المنافي أو إلى التكفير والهجرة.

هذه العوامل غير مرشحة لأن تزول قريباً، بفعل غياب التخطيط وسيادة التخبّـط في معظم الدول العربية، وهذا يعني أن محصلاتها ونتائجها لن تزول قريباً أيضاً، وفي مقدمتها العنف الانتحاري.

متشابهات حديثة

العنف الانتحاري الراهن له متشابهات حديثة أيضاً. ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، برزت الحركة الفوضوية الماركسية الأوروبية، التي رفضت كل أنواع السلطة ودفعت عناصرها إلى تنفيذ أعمال إرهاب انتحارية واسعة النِّـطاق ضد رموز الدولة (السلطة السياسية) والمجتمع (السلطة الأبوية) كافة.

كذلك، في ستينات القرن العشرين، شهد العالم موجة من التطرف الانتحاري اليساري، جسَدته منظمات مثل "الألوية الحمراء" و"الدرب المُـضيء" و"التوباماروس"، التي دفعها اليأس من قدرة الأنظمة الاشتراكية آنذاك على تحقيق الجنة الشيوعية على الأرض إلى محاولة إستيلادها بقوة الإرهاب.

ظاهرة التطرف الانتحاري الإسلاموي إذن، ليست جديدة، لا في التاريخ الإسلامي ولا غير الإسلامي، إنها، إذا ما جاز التعبير، حركة "طبيعية" تُـنتجها ظروف "طبيعية"، وإن استثنائية، وهي ستبقى طالما بقيت هذه الظروف.

قد تكون هذه محصِّـلة حزينة، خاصة حين نتذكّـر أن القوافل المصطفّـة للقيام بعمليات انتحارية والتي تتألف في معظمها من الشباب اليافع، كالأخوين المغربيين محمد وعمر مَـها، تطول يوماً بعد يوم، لكنها في النهاية محصِّـلة واقعية.

فحين تنعدم سُـبل الحياة الحُـرة والكريمة، يصبح اليافعون والشبان "ألعوبة" أو "أداة" يمكن أن تُحركها العديد من الأطراف المنتفعة والمتصارعة، وتقرع أجراس الموت بصفتها موسيقى "الخلاص البطولي" الوحيدة.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: سويس إنفو-23-4-2007