"الناتو"... حلف يبحث عن مبرر وجوده

 

ويليام فاف

 

التوتر الحالي في "الناتو" ناجم عن الخلط السائد بشأن هوية الحلف والجدوى منه، أو بمعنى آخر الغرض الذي أنشئ من أجله. فما الذي يمثله "الناتو" اليوم؟ هل هو حلف يسعى إلى حفظ السلام، أم فرض السلام، أم بناء الأمم، أم أنه حلف يقوم بشن الحرب ضد أعداء السلام، ويشن الهجمات على الإرهابيين؟ ثم مَن هي الجهة التي تضطلع بتعريف أعداء السلام والإرهابيين؟ لو نظرنا إلى أرض الواقع فسنجد أن ما يقوم به الحلف الآن هو مزيج من كل ذلك. فالكنديون والبريطانيون يحاربون في أفغانستان. والألمان هم الذين يستخدمون الطائرات هناك، أما الفرنسيون فقد غادروا بعد أن قاتلوا ليس تحت قيادة "الناتو"، ولكن تحت قيادة الأميركيين، الذين هم ليسوا تحت قيادة الحلف.

هذا التشويش والخلط، لم يكن موجوداً عند بداية إنشاء الحلف. ففي عام 1949 كان الجميع يعرفون أن الغرض من "الناتو" هو إبقاء السوفييت خارج أوروبا الغربية، وإجبار الألمان المهزومين حديثاً على عدم رفع رؤوسهم.

وقام الحلف بهاتين المهمتين على خير وجه، وفيما بعد تم منح الألمان جيشاً جديداً دون هيئة أركان ودون قيادة عمليات مستقلة كي يكون في الأساس جيشاً تابعاً لـ"الناتو"، وهو ترتيب شعر الجميع بالارتياح تجاهه حتى الروس، بل ويمكن القول حتى الألمان جميعهم أيضاً.

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لم تعد هناك حاجة للدفاع عن أوروبا، وهو وضع لا يزال قائماً حتى لحظتنا هذه. الأعداء الوحيدون الآن هم الإرهابيون، وأجهزة الشرطة في كل دولة من دول الحلف هي التي تتولى أمرهم. وكنتيجة لذلك فقد الأميركيون اهتمامهم بـ"الناتو" وانتابهم ذلك الشعور الحتمي بالزهو الذي ينتاب الأقوياء، وخصوصاً إذا ما كانوا قوة عظمى، ما دفعهم إلى تجاهل "الناتو" وتكوين قيادات إقليمية عسكرية أميركية في دول مختلفة، كي يتمكنوا من امتطاء ظهر الكوكب. لقد تعلمت الولايات المتحدة من تجربة كوسوفو أن القتال تحت راية "الناتو" شيء مزعج، حيث يتعيّن عليها في كل خطوة استشارة الحلفاء الذين يمكن أن يتدخلوا، كما يمكن أن يقفوا عقبة في طريقها.

ولكن الحلف لم يمتْ مع ذلك، لأن البيروقراطيات الكبيرة لا تموت بسهوله. وهكذا فإن "الناتو" وجد أن الشيء الذي سينقذه من الموت، ويبقي على فائدته، هو أن يسمح للجيوش التابعة للدول التي كانت ضمن حلف "وارسو" السابق بأن تصبح شركاء له، على أن يقوم الحلف بتعليم تلك الدول أساليب المحاسبة والمساءلة، وأن يدعو ضباطها للدراسة في الأكاديميات العسكرية الغربية. وهكذا فإن الحلف نجح في أن يجعل من نفسه معادلاً عسكرياً للاتحاد الأوروبي، حيث يقوم بمنح العضوية لنفس الدول التي تنضم للاتحاد، بشرط أن تجري تعديلات على سياساتها الداخلية، وتقوم بإصلاح اقتصاداتها. وبعبارات موجزة فقد تم استيعاب العالم الشيوعي السابق في منظومة الغرب بهذه الطريقة.

بعد ذلك اكتشفت الولايات المتحدة أن جيوش الدول الأعضاء في "الناتو" يمكن أن ترسل مفارز لتقديم المساعدة لعملياتها الخاصة، أو للاضطلاع بمهام حفظ السلام في الأماكن التي يعمل فيها الجيش الأميركي بعد أن ينتهي هذا الجيش من مهمته فيها. كما يمكن للحلف أيضاً أن يضطلع بالمهام المضجرة مثل القيام بمهام الشرطة والحراسة في كوسوفو. ولقد عبرت "مادلين أولبرايت" وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك خير تعبير عن هذه النقطة عندما قالت: "ليس من المعقول أن تقوم الفرقة 82 المحمولة جواً بتوصيل التلاميذ إلى مدارسهم".

وأصبح الافتراض السائد في قيادة "الناتو" ذلك الوقت أن التوسع هو مفتاح البقاء، وأن الحلف "يجب أن يخرج من منطقته الحالية" وإلا فإنه "سيخرج من العمل"، ولم يكن الخيار الثاني قابلاً للتفكير فيه من الأساس.

في الآونة الأخيرة بدأت الولايات المتحدة في الترويج لفكرة جديدة وهي أنه يجب العمل على ضم اليابان وأستراليا ودول أخرى، بحيث يصبح "الناتو" هو المسؤول الجديد عن حفظ الأمن العالمي، وبما يعني عملياً إزاحة الأمم المتحدة جانباً، لأنها لن تتمكن من لعب دور الجهة المحافظة على الأمن العالمي، وذلك بسبب حجم عضويتها التي تضم جميع دول العالم، وبسبب الانقسامات الموجودة في مجلس الأمن. ويمكن للناتو -بحسب الافتراض الذي كان سائداً- أن يضطلع بهذه المهمة تحت القيادة الأميركية دون مواجهة منغصات الجمعية العامة وبعيداً عن استخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن بواسطة بعض الدول المعارضة.

ويمكن القول إن المتاعب الحالية التي يواجهها "الناتو" قد بدأت عندما قرر الحزب أن "يخرج من المنطقة التي كان يعمل فيها"، وهو الخروج الذي تم تنفيذه بشكل مبالغ فيه، وذلك عندما ألزم الحلف نفسه بمهام تفوق طاقته الفعلية مثل الاضطلاع بمسؤولية الأمن وبناء الأمم في أفغانستان.

والمأزق الذي يعيشه الحلف في أفغانستان في الوقت الراهن أنه كي ينجز مهمة بناء الأمم يجد نفسه مضطراً لبسط الأمن على ربوع أفغانستان كلها. وهكذا فإن الحلف يجد نفسه منخرطاً في قتال ضد مقاتلي "طالبان" للحيلولة بينهم وبين السيطرة على البلاد، وهي مهمة سياسية ومثيرة للجدل في ذات الوقت. ويرجع ذلك إلى أن الوضع الرسمي لـ"الناتو"، هو أنه منظمة سياسية محايدة تعمل بموجب تفويض من قبل الأمم المتحدة من أجل مساعدة الحكومة الأفغانية. هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي، فإن ذلك ليس له من معنى سوى خوض حرب يتسع مجالها بشكل مستمر من أجل مساعدة تلك الحكومة على السيطرة على المنافسين القبائليين والعرقيين والإقليميين. وهذا هو تحديداً السبب الذي دفع جميع مفارز "الناتو" التابعة للدول المختلفة للعمل تحت شروط صارمة، تحدد ما هو المسموح لها بعمله وما هو غير المسموح. ولكن المشكلة في هذا السياق أن القوات المقاتلة على الأرض تجد أن تلك القيود تشكل عبئاً على طريقة أدائها للقتال. وهذه الشروط التي يتم تحديدها من قبل الحكومات التابعة لها تلك المفارز تعكس الكراهية القوية من جانب شعوب تلك الدول، وعدم ثقتها في أوروبا فيما يتعلق بموضوع الحرب في أفغانستان.

هذا هو تقريباً الوضع الذي يواجهه "الناتو" في أفغانستان، وهو وضع يمكن تفسيره بأنه يمثل تراجعاً فعلياً عن مهام "الناتو" الأصلية.

ولأعضاء الحلف في الوقت الراهن حرية اتخاذ قرارات مستقلة منها على سبيل المثال: أولاً، تقديم المعدات والقوات لخدمة السياسات الخارجية الأميركية، وهي مهمة قد يرغب فيها إلى حد كبير، العديد من الدول التي تقبل بالتفسير الأميركي للوضع الدولي، والتي سبقت لها المشاركة في التحالفات التي شكلتها أميركا في أزمات سابقة.

أما أعضاء "الناتو" الآخرون غير الراغبين في اتخاذ هذا الخيار، فقد يرغبون في جعل قواتهم متاحة للمشاركة ضمن عمليات حفظ السلام، التي تضطلع بها الأمم المتحدة، وهو ما يتيح لها في هذه الحالة المحافظة على حيادها السياسي.

وقد ترغب مجموعة أخرى من أعضاء "الناتو" في استخدام قواتها لدعم السياسات الخارجية والأمنية الأوروبية المستقلة، بل إن بعض الدول قد تذهب إلى حد دعم التحالفات غير الأوروبية للتدخل في أمور ذات أهمية بالنسبة للأوروبيين. قد تبدو التعليقات المتعلقة بتلك الخيارات جذرية الآن، أو مبالغاً فيها، ولكنها كما يبدو الأمر لي ستكون حتمية في المدى الطويل.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-27-3-2007