سنة الإيذان بصعود الإسلام السياسي

 

آمال موسى

 

هل كانت تدري الطائرات التي استهدفتا البرجين في نيويورك، بأنهما في تلك الدقائق المعدودة التي مارستا فيها الهدم والضرب، قد نثرتا دونما قصد منهما بذرة جديدة في حقول الممارسات السياسية في المجتمعات الإسلامية تسمى المراجعة بالنقد والحوار المختلف الإيقاعات ؟

ربما ينطبق على أحداث تاريخ 11 سبتمبر 2001 المثل القائل «ربّ ضارة نافعة»!

والمنفعة التي نقصدها هي الاقتناع بقيم جديدة كانت في ما قبل مرفوضة بتشدد وبتعنت. وتلك القناعة هي التي أحدثت الانقلاب الحاصل اليوم في أغلب الأدبيات الآيديولوجية والسياسية في البلدان العربية، التي أصبحت تنظر إلى الواقع بعين مفتوحة وإيجابية ومرنة جدا.

وبالتالي فإن أحداث العنف والموت والإرهاب أنتجت الآن ذهنية هي في قطيعة جوهرية مع الفكر المنتج للإرهاب. ولعل صعود الإخوان المسلمين في مصر اعتمادا على صناديق الاقتراع وبلورة خطاب إخواني جديد، يتميز بالواقعية وبالتفتح وبالاعتدال، حدث بالغ الأهمية ويحث الجميع على النظر والتأمل والتفكير بعيدا عن التحامل والقوالب الآيديولوجية الجامدة، واضعين في الحسبان الجاذبية الشعبية للإخوان في مصر وفي بلدان عربية إسلامية أخرى وأتباعهم المنتشرين في أكثر من 70 دولة، من دون أن ننسى رمزية ودلالات صعود الإخوان في مصر وعودتهم بثوب فكري ديني جديد، على مستوى الحركية التي بدأ يشهدها الإسلام السياسي في المنطقة. أي أن صعود بعض درجات السلم في مصر لا بد أن يقودنا إلى الانتباه إلى رحلة الصعود القادمة في كافة «السلالم» الإسلامية.

لذلك فإن هذه السنة، التي نستعد لتوديعها، كان من أبرز أحداثها إعلان بداية عودة الإسلام السياسي إلى الميدان السياسي في المنطقة.

فبماذا نفسر عودة الإسلام السياسي وما هي آفاق هذه العودة وجديدها ؟

إن الحقيقة التي أصبحت تتقاسمها كافة المرجعيات الآيديولوجية المتحركة في الحقل السياسي العربي تتمثل في أن صوت الواقع أقوى من كافة التنظيرات والقناعات والشعارات. ويعتبر هذا الحراك الآيديولوجي نتاج القيام بمراجعة من الداخل تنصت لمقولات الواقع من منطلق وضعي مادي محسوس.

وليست المراجعة خاصة بجماعات الإخوان المسلمين فقط بل ان كل التيارات السياسية بصدد مراجعة فكرها سواء منها اليسار أو القوميون العرب... لذلك اقتحمت أدبياتهم مفاهيم ليبرالية، علما بأن النظام الرسمي العربي نفسه أجبر على أن يراجع نفسه. ومن المهم الاستنتاج بأن الدخول في مرحلة المراجعة هو السبيل الوحيد لإبعاد شبح الموت والاندثار، لأن المنتج الأساسي لحالة المراجعة هو الاقتناع بارتباط الوجود الذاتي بوجود الآخر بشكل عفوي وحيوي.

وأصبح مبدأ القبول بالآخر شرط التأسيس للعبة سياسية حقيقية بعيدة عن الإدعاء بمسك الحقيقة، إضافة إلى أنه المبدأ المحصّن للجميع ضد العنف، خصوصا أن تاريخ العنف ارتبط دائما بفكر إقصاء الآخر.

وطبعا هذه المراجعة هي نتاج محن كثيرة. فالإخوان استفادوا من فشل الخطاب الديني المتفجر والمتشدد ورأوا في جماعات الإرهاب باسم الدين المثال الحي والقوي على فشل أسلوب العنف وكيف أنه حامل لأسباب موته السريع والمأساوي.

وأيضا محن أخرى ساهمت في هذه المراجعة منها السجون والإعدامات والوقوع في حالتي العزلة الداخلية والدولية من خلال رفض الآخرين لهم من أنظمة وقوات سياسية وقوى دولية.

وبذلك فإننا نفسر عودة الإسلام السياسي وتحديدا أحزاب المسلمين بحصول المراجعة النقدية الذاتية. ولا بد أن نضع في الاعتبار ونحن نرصد ظاهرة المراجعة أن صعود الإخوان وحصولهم على خمسة مقاعد في البرلمان، وهم الجماعة المحظورة، مؤشر يقوي من ثقة ممثلي الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية، ويجعل مستقبل علاقة الدين بالسياسة في الدول الإسلامية مفتوحة على سيناريوهات عديدة. فهم يطرحون أنفسهم كبديل سياسي عاد للظهور في الفعل الاجتماعي والسياسي بعد تهتك مضامين المشروعية السياسية للأنظمة العربية وبعد أن ثبت فشل الأحزاب الليبرالية في نشر منظومة ثقافية ليبرالية بطريقة ذكية ومبسطة ومقبولة لا تحدث الصدامات الثقافية، إضافة إلى انعدام الإمكانيات والفرص السياسية الكبيرة التي تجعلها في صميم توقعات شعوبها، أي أنها كانت منتديات أكثر منها أحزابا منظمة وفاعلة ومؤثرة.

وإلى جانب فشل الأنظمة وكذلك الأحزاب الليبرالية والعلمانية في الاستقطاب السياسي الجماهيري العريض، فإن الفترة التي تلت تاريخ 11 سبتمبر 2001، عززت سريا من أهمية دور الجماعات الإسلامية التي عاشت المراجعة الذاتية النقدية وأصبح يتوفر فيها الحد الأدنى من الاعتدال المطلوب. فصحيح أنهم رفضوا شعار «الإسلام هو الحل» وتحدثوا عن عجلة النهضة التي يهدفون إلى تحريكها، ولكنهم حرصوا أيضا على إظهار تفتحهم من خلال إعلان التزامهم بالديمقراطية والاعتماد على صناديق الاقتراع، وكذلك وهي حركة رمزية دلالية ترشيح سيدة في الانتخابات، مما يفيد الحس الإيجابي إزاء المشاركة السياسية للمرأة، إضافة إلى إظهار تفتحها على الآخر، فوجهت رسائل مستبطنة إلى الآخر تدور حول طمأنته. وبالنظر المتمعن في هذه التغيرات الجزئية المركزية، فإن أهميتها تصبح مضاعفة، حين نربطها بطموح الأمريكيين في ترويض تيارات الإسلام السياسي والتركيز على حدوث التغيير في نقاط ذات علاقة بالديمقراطية والمرأة والآخر.

وهو ما يفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية وهي الدولة القائمة على مبدأ البراغماتية والواقعية، والتي تلتفت إلى أكثر الفاعلين جدوى في أرض الواقع، بصدد «طبخ» التيارات الإسلامية المعتدلة من بعيد ومن قريب، خصوصا أن حربها على الإرهاب لم تحقق أبسط مظاهر النصر، وصورتها في المجتمعات الإسلامية في ميل متواصل نحو السواد. وبالتالي فإن التيارات الإسلامية ذات القاعدة الشعبية، والقادرة على الاختراق والتأثير، أصبح في تأييدها يكمن الحل المفقود إلى حد الآن، والذي باعتماده تهمش الجماعات المتطرفة ويسحب من تحتها بساط القاعدة الشعبية المختطف.

وقد ظهرت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 نخبة سياسية في الولايات المتحدة الأمريكية تعمل بصمت حول أطروحة أن الطريق المثلى في تهميش جماعات العنف هي التعامل مع تيارات إسلامية معتدلة. ويعتقد بعض الدبلوماسيين الأمريكيين أن نفوذ الإخوان المسلمين يقدم فرصة لمشاركتهم سياسيا، لذلك يرون أنه يمكن العمل معهم .

إن الحراك الفكري والسياسي الذي شهدته جماعة الإخوان وإمكانيات توسعه وتصديره من خلال إعادة تنظيم العلاقات من جديد، ربما يكون واضحا وحافزا يشبه الخطر يقود النخب السياسية الحاكمة والأحزاب الليبرالية ذات الأثر المتواضع إلى التعجيل أكثر في عملية المراجعة وقبول كافة شروط اللعبة السياسية الديمقراطية، وفرض البدائل السياسية من خلال صناديق الاقتراع.

ولكن الأسئلة التي تفرض نفسها هي إلى أي مدى يمكن لجماعات الإسلام السياسي المعتدل أن تصل في مراجعتها خصوصا أن الاعتراف بإسرائيل حلقة أساسية في تعامل الولايات المتحدة معها، وكذلك نتساءل هل أن هذا التعامل سيمثل كافة الجماعات الدينية بما فيها المغرب العربي؟

أم أن الجغراسياسية ستحدد الدرجات والنسب ؟

و كل هذا بحسب راي امال موسي.

المصدر : الشرق الأوسط – 20-12-2005