نحو صفقة تاريخية لبنانية - سورية - إسرائيلية
د. وحيد عبدالمجيد
لم تكن السياسة الخارجية الأمريكية أكثر استهتارا وأضيق أفقا في أي وقت مضي مما هي عليه الآن, كما لم يصل التناقض بين أهدافها ووسائلها إلي المستوى الذي بلغه في إدارتي بوش الثاني الحالية والسابقة. فالحرب التي استهدفت مواجهة الإرهاب اعتمدت على وسائل وأدوات لا يمكن أن تؤدي إلا إلى خلق منابع جديدة للعنف. ويدفع العالم, بالتالي, ثمن صراع بين إرهاب وحرب عليه انفلت كلاهما من كل قيد قانوني أو أخلاقي. والحرب علي العراق التي استهدفت مواجهة نظام اشتد تخريبه في بلده ومنطقته انتهت بمأساة دمرت ما لم يكن في إمكان صدام حسين أن يدمره, وبدأت تداعياتها في التمدد خارج هذا البلد. والآن, مرة جديدة, تطرح السياسة الأمريكية هدفا يبدو جيدا للوهلة الأولى في الوقت الذي تنغمس حتي النخاع في ممارسات لا يمكن أن تساعد في تحقيقه, بل قد تؤدي إلي عكسه. فإذا تجاوزنا عن الرطانة الفارغة المميزة لإدارة بوش من نوع الشرق الأوسط الجديد, بعد الشرق الأوسط الكبير قد نجد في بعض ما صدر عن وزيرة الخارجية كوندواليزا رايس ملامح هدف لا بأس به, خصوصا في قولها( إن وقف إطلاق نار بسيط في لبنان ليس هو الحل للعنف الراهن, ومن الضروري التعامل مع جذور المشكلة). فهذا الطرح يحدد هدفا جيدا هو التعامل مع جذور المشكلة, وبالتالي السعي إلي حل أشمل وأوسع مما يمكن أن يترتب على العودة إلي الوضع الذي كان قائما يوم11 يوليو الماضي. غير أن السلوك السياسي الأمريكي الفعلي لا يعمل في هذا الاتجاه. وليس قرار مجلس الأمن الأخير إلا شاهدا واحدا على ذلك. فالذهنية التي أملت صياغة هذا القرار لا يمكن أن تؤسس لما طرحته رايس عن التعامل مع جذور المشكلة, سواء الجذور القريبة مثل استمرار احتلال إسرائيل لمنطقة مزارع شبعا, أو الجذور الأبعد التي تمتد خارج الإطار الثنائي اللبناني- الإسرائيلي. ومن هذه الجذور الأبعد ما يضرب في تربة العلاقة اللبنانية- السورية بكل تشعباتها, ومنها ما يجد منبته في المنبع الأول للصراع العربي- الإسرائيلي, أي في قضية فلسطين, ولذلك يصعب تصور السعي إلي حل للأزمة الراهنة يعالج جذورها من دون معالجة الشق المتعلق بسوريا في هذه الجذور علي الأقل. وإذا أمكن إحراز تقدم في هذا الاتجاه, يصبح ممكنا التطلع إلي معالجة الشق الآخر- الفلسطيني- في جذور هذه الأزمة في مرحلة لاحقة. وهذا هو السلوك المنطقي لمن يبحث عن الحل الذي يعالج جذور المشكلة, فليس سهلا إيجاد حل بين إسرائيل ولبنان عبر تحرك يحبس القائمون به أنفسهم في هذا الإطار الثنائي, ليس فقط بسبب نفوذ سوريا القوي في لبنان وقدرتها علي التأثير في مواقف حزب الله, ولكن أيضا نتيجة التداخل بين ما هو لبناني وما هو سوري في أي تسوية سياسية مع إسرائيل, وهذا تداخل طبيعي وليس مصنوعا بموجب شعارات سورية من نوع تلازم المسارين علي سبيل المثال. ولذلك لا يستقيم الالتزام بهدف يتمثل في حل يعالج جذور المشكلة مع تحرك محصور في الإطار الثنائي اللبناني- الإسرائيلي, ولا فرصة تذكر لنجاح مثل هذا التحرك في الوصول إلي أكثر من حل مؤقت غير قابل للاستمرار والاستقرار. وقد سبق تجريب حل ثنائي لبناني- إسرائيلي في عام1983 لم يصمد لشهور في ظروف أقل صعوبة بكثير, من زاوية فرص الحل السلمي, مقارنة بالوضع الراهن. ولا سبيل, إذا والحال هكذا, للبدء في وقف التدهور علي الساحل الشرقي للبحر المتوسط إلا ضم سوريا إلي عملية سلمية ثلاثية الأطراف, غير أن هذا السبيل لا يتيسر إلا في حال حسم الخلاف في داخل الإدارة الأمريكية لمصلحة الاتجاه الذي يفضل احتواء دمشق وبالتالي الحد من تأثير الاتجاه الذي يدفع باتجاه الصدام معها. أما سوريا, فالمؤشرات تفيد استعدادها للمشاركة في عملية سلمية إذا كان فيها ما يرفع الضغوط عنها وينهي الحصار عليها ويعيد إليها أرضها المحتلة, وهذه كلها مغريات قوية تحفزها علي المشاركة وتعينها علي قبول إعادة صوغ تصورها للعلاقة الخاصة مع لبنان علي أسس أكثر تكافؤا, الأمر الذي ييسر أو على الأقل يحد من صعوبات بناء دولة لبنانية ذات سيادة. فهذا الهدف المتعلق ببسط سلطة الدولة اللبنانية علي جميع أراضيها, والذي يتردد يوميا تقريبا في الخطاب السياسي الأمريكي والأوروبي, قد لا يكون ممكنا خارج إطار صفقة ثلاثية سورية- لبنانية- إسرائيلية قد تفتح الباب أمام الحل الوسط التاريخي للصراع, فمن شأن السعي إلي مثل هذه الصفقة أن يفتح الباب أمام حل مشكلات قد لا تكون قابلة للحل في إطار ثنائي لبناني- إسرائيلي. فمن شأن ضم دمشق إلي صفقة ثلاثية أن يتيح ترسيما نهائيا للحدود السورية- الإسرائيلية, واللبنانية- الإسرائيلية سواء تنازلت دمشق عن منطقة مزارع شبعا للبنان, أو احتفظت بها, فمسألة تنازل سوريا عن هذه المنطقة أثيرت في ظرف محدد ارتبط بسعي فريق في لبنان إلي الاحتفاظ بسلاحه بعد الانسحاب الإسرائيلي في مايو2000, ورغبة دمشق في مساعدته علي ذلك عبر إعلان أن هذه المنطقة لبنانية وليست سورية, ومادام الاحتلال الإسرائيلي لها مستمرا, فهذا مبرر لمواصلة المقاومة وبالتالي احتفاظ حزب الله بسلاحه. وفي حالة البحث في حل يشمل سوريا ولبنان معا, لا يبقي مبرر لاستمرار الجدل حول هوية مزارع شبعا. وعندئذ قد يتيسر تخطيط الحدود بشكل نهائي علي نحو يصعب تصوره في حالة السعي إلي حل ثنائي لبناني- إسرائيلي. كما أن صفقة ثلاثية يمكن أن توفر ظرفا أكثر ملاءمة من ذي قبل لصياغة العلاقات السورية- اللبنانية علي أساس من التكافؤ الذي لا يلغي الطبيعة الخاصة لهذه العلاقات, ولكنه يحول دون تحويلها إلي ذريعة لاستعادة الهيمنة السورية علي لبنان. ويمكن في هذا السياق أن تكون إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين ضمانة لهذا التكافؤ النسبي. فلهذه الخطوة أهمية رمزية ولكنها بالغة القيمة. فالعلاقات الدبلوماسية تريح اللبنانيين, خصوصا المتوجسين منهم تجاه النيات السورية من حيث أنها تعبر عن اعتراف سوري صريح بسيادة لبنان. وحين يواكب ذلك إطلاق المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية, يمكن التطلع إلي مرحلة جديدة بين البلدين فهؤلاء المعتقلون المنسيون يزيد عددهم علي الأسرى اللبنانيين لدي إسرائيل. ولكن أهمية إطلاقهم تتجاوز كثيرا عددهم. غير أن المغزى الأهم لمثل هذا التقدم حال إحرازه هو أنه السبيل الوحيد إلي دولة لبنانية ذات سيادة حقا. فهذه السيادة لا يمكن تحقيقها بدون تخلي حزب الله عن سلاحه وحل جناحه العسكري أو إدماجه في الجيش الوطني, ليصبح حزبا في دولة وليس حزبا فوق دولة. ويصعب تصور حدوث ذلك بدون صفقة شاملة لا تبقي بعدها أرض محتلة, ولا تظل في أعقابها مصلحة لسوريا في أن يكون حزب الله فوق الدولة اللبنانية. ولكن هذا كله مشروط بحل عادل لقضية الجولان. وهذا الحل موجود سبق التفاوض والتوافق عليه في عهد إسحق رابين وتم إيداعه لدي البيت الأبيض في عام1995. فهذا الحل هو المقابل الرئيسي الذي تحصل عليه سوريا في هذه الصفقة الشاملة, إلي جانب فك الحصار المفروض عليها ووضع حد لاستهدافها من جانب السياسة الأمريكية ولكن الانسحاب من الجولان ليس مجرد ثمن تحصل عليه سورية في مقابل قيامها بتسهيل حل لبناني- إسرائيلي. فهذا الانسحاب هو الذي يعطي الصفقة قيمتها التاريخية ويؤسسها علي أساس حقوقي, وليس فقط علي قاعدة تبادل المصالح. فالصفقات التاريخية الكبري من هذا النوع لا تصمد إلا إذا تضمنت رد الحقوق إلي أصحابها لبناء العلاقات بينهم وبين من اغتصب هذه الحقوق علي أسس جديدة. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الأهرام المصرية-15-8-2006
|