الحرب على لبنان وإحباطها لمفهوم الاعتدال

 

آمال موسى

 

إن الحروب عندما تكشر عن أنيابها وتطلق العنان للآلة العسكرية، كي تقتل وتهدم وترهب، هي في نفس الوقت تقوم بنسف مفاهيم معينة والتبشير بأخرى جديدة وأحيانا تعيد الاعتبار إلى مفاهيم شملتها مراجعات تاريخية.

وبالنظر إلى طبيعة النظام العالمي الجديد، نرى أن العولمة كمفهوم مركزي يديره أظهر الواقع استنادها بدورها إلى طاقة من العنف، وأن الولايات المتحدة هي التي تملك مشروعية استخدام القوة والاستئثار بالعنف الرمزي والمادي.

لذا، فإن طاقة العنف هذه لا يمكنها أن تنتج سوى ردات فعل من طبيعتها حتى وإن اتخذت طابعا عشوائيا كأنموذج حرب العصابات مثلا، وهو ما يؤثر في طبيعة الحال على تلك المفاهيم التي اختارت اعتماد العقل والمعقولية والنبرة المتوسطة المدى ومسك العصا من الوسط.

وفي هذه الأسابيع التي تعرض فيها لبنان إلى عدوان إسرائيلي شرس، تفتح ذاكرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي على مصراعيها ويتذكر الجميع الإرث الهائل من الهزائم والتنازلات. والأمر في الحقيقة لا يتعلق بانفجار الذاكرة فقط، بل أن المشكلة تكمن تحديدا في عملية الإحباط التي تلقاها اليوم مفاهيم اعتقدنا أننا انتهينا من تأسيسها وتجذيرها في العقلية العربية الإسلامية.

ومن المفاهيم الأكثر تعرضا للتدمير اليوم وبالتوازي مع التدمير الذي تعيشه البنية التحتية والبشرية والنفسية اللبنانية، مفهوم الاعتدال وثقافته في الفضاء العربي عموما، الذي يجابه بصراخ غاضب وبرفض التواصل معه، أو حتى الإنصات لخطاب أصحابه، مما جعله في موقف العزلة تقريبا. فكيف هو تاريخ العرب الحديث مع مفهوم الاعتدال والمحطات الحاسمة التي أفرزته وأخضعته إلى عدة عمليات جراحية؟!

لقد شهد مفهوم الاعتدال أن العالم العربي بعد حرب 67 وهزيمة كل العرب فيها تغيرا ملحوظا فرضته الهزيمة، خصوصا أن تلك الهزيمة التي طالت الأداء العسكري، أظهرت العالم العربي في غيبوبة سياسية وعسكرية، الشيء الذي جعل الهزيمة تتسع لتمس المسألة الجغرافية في أقصى بعدها الرمزي المتمثل في احتلال القدس وأيضا احتلال سيناء. لذلك تعمق الشعور بالقصور على مستوى فهم الذات وفهم الآخر العدو، وحتى فهم العلاقات الدولية.

وعلى خلفية هزيمة 67، ظهرت مفاهيم وتصورات جديدة لإدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي أسست لها الهزيمة ذاتها والقراران الدوليان 242 ـ 238.

وفي هذه الظروف، بدأ يروج مفهوم الاعتدال وظهرت ما تسمى دول الاعتدال ثم حصلت عدة مخاضات، ركزت مفهوم الاعتدال عمليا وعزّزته كجبهة منفصلة عن جبهة مفهوم الصمود والتصدي.

ومن باب الصدفة، أن قائمة دول الصمود والتصدي بدأت تتلاشى انطلاقا من قمة فاس العربية، التي تبنت مبادرة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز التي كان من بنودها الدعوة إلى ضرورة التعايش بين دول المنطقة. فقامت تلك المبادرة بتركيز أقوى لمفهوم الاعتدال، لا سيما أن كل الدول العربية صادقت عليها، الشيء الذي وفر لمفهوم الاعتدال دفعا جديدا، حتى وإن حافظت بعض الدول على خطاب شبه متشدد إزاء قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

ويمكن القول إن منذ مبادرة قمة فاس العربية والعالم العربي يتمحص في وعيه ولا وعيه المفهومين ويتجاذب بينهما صمتا أحيانا، ولغة أحايين أخرى.

ولكن الملاحظة الأساسية كانت تتمثل دائما في عملية التحرك السلبي التي تقوم بها أي حرب تستهدف العالم العربي، فتعود مفاهيم الاعتدال والصمود والتصدي إلى الحياة والتداول والتلاسن أيضا.

ورغم ذلك، فإن مسيرة الاعتدال لم تتوقف، فكانت حرب «عاصفة الصحراء» وما تلاها سببا في توقيع اتفاقية أوسلو، التي تمثل قمة الاعتدال العربي على مستوى الفعل وقادت أيضا إلى تلك المصافحة الشهيرة بين عرفات ورابين في حديقة البيت الأبيض.

نستطيع القول إنه منذ ذلك التاريخ وأصحاب مفهوم الاعتدال في المستويين السياسي والفكري ينظرون لهذا الطريق ويثنون على هذا المسلك الذي سيقود إلى الانتصار الذي عجزت عنه البندقية.

لكن الإشكال هو أن مفهوم الاعتدال كان دائما يجد ما يعيقه، بل ما يشير إلى أن النصر الذي يعد به ليس سوى انتصارات ظرفية وشكلية تظهر هشاشتها أمام كل أزمة تطلق فوهات الدافع الإسرائيلية أو تحرك صواريخ أميركية.

فرأينا بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، نهاية معلنة لاتفاقيات أوسلو واحتلالا تاما للعراق وقبله أفغانستان، وهو ما أجبر مفهوم الاعتدال العربي على مراجعة تشمل كل المستويات. وفي المستوى السياسي مثلا، أصبحت مرجعية السلام العربي ـ الإسرائيلي غير خاضعة للقرارين الدوليين 242 و238 وشاهدنا أيضا النهاية المأساوية لرجل كان إيجابيا جدا مع كل نقطة ضوء للسلام، ونقصد به الراحل ياسر عرفات، الذي مثل تجربة خاسرة في الاعتدال.

من جهة أخرى، تراكمت معوقات التغلغل التام لمفهوم الاعتدال مع احتلال العراق وغزوه من دون قرار من مجلس الأمن يبيح ذلك.

لذلك، فإن تتالي هذه التجاوزات مثلت طعنات ضد مفهوم الاعتدال وأصحابه، لأنها تجاوزات تُذْكِي النيران والعنف وتجعل مفهوم التصدي والمقاومة ينمو في الوقت الذي يحاصر فيه مفهوم الاعتدال ويتضاءل.

مع الأسف، ها هي الحرب المفتوحة على لبنان تفعل فعلها العميق في مفهوم الاعتدال وحتى في تلك المفاهيم التي استوجبها مفهوم الاعتدال أي مفاهيم التسامح والانفتاح والقبول بالآخر والتعايش معه، وهي مفاهيم كان قد بدأ العقل العربي يتعاطى معها ويتبناها ويمارسها.

ولكن الأحداث الأخيرة على لبنان وقسوتها ودمارها، أسقطت كافة الجهود العربية في مجال ممارسة الاعتدال في الماء، بل في الدم كما نرى.

ولا شك في أن المسؤول عن إضعاف جبهة الاعتدال العربي اليوم هو تلك الأطراف التي سعت إلى تصدير ثقافة براقة ثم تنقلب بشكل كامل في أول امتحان تجربة. ومع الأسف، أصحاب الموقف المعتدل هم أول الضحايا بعد أن خانتهم الدول العظمى التي وعدت بتوفير ظروف سياسية آمنة لتحقيق الاعتدال و قبوله.

لذا، فإن الطاغي في هذه الأيام هو صوت التصدي والمقاومة الذي لا تتدخر الولايات المتحدة وإسرائيل الجهود من أجل أن يبقى عاليا، وأن يصير صوت الاعتدال أخرسَ.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتبة في المصدر المذكور.

المصدر: الشرق الوسط اللندنية-15-8-2006