مقالات و محاضرات

 

 

عذراً.. لا يوجد عندنا أدمغة للتصدير

 

سوسن الأبطح

 

العنوان العريض الذي طالعتنا به جريدة «الشرق الأوسط» منذ أيام حول وصول عدد العاطلين عن العمل في العالم العربي إلى ستين مليوناً ببلوغ العام 2016، يستدعي ثورة في التفكير وحسن التدبير، قبل أن تقع الفأس بالراس. وانظر يا عزيزي القارئ إلى الجموع العربية الشابة، بأعدادها الغفيرة، تتبختر وسط بيروت هذا الصيف، وتقضي يومها مشلوحة بأبهى هندامها على الكراسي، تمسك نبريج النرجيلة بيد، وباليد الأخرى تلعب بمفاتيح الموبال، على مدى ساعات طوال، تعرف أن المشكلة ليست في توفير فرص العمل فقط، وإن كانت ضرورية، وإنما الأهم هي كفاءة هذه الشبيبة المشغولة باللاجدوى، على انتزاع الفرص لا بل وابتكارها.

ونحن هنا، لا نتجنى على أحد، أو ننكر حق شبابنا بإجازة صيفية، لكن تقارير الـ«إيسكوا» تؤكد، أن ما نراه هو أقرب كثيراً إلى استرخاء التنابل، منه إلى استجمام المرهقين الكادحين. وما بات أكيداً أن ثمة شواغر كثيرة تنتظر من يملؤها، وأن ارباب العمل يعجزون، في أحيان كثيرة عن ايجاد الكفاءة المناسبة في حين تتكدس في أدراجهم عشرات السير الذاتية المتخمة بالشهادات والدرجات العلمية التي لا تجد ما يوازيها في شخوص المتقدمين. وقد لا تصدق أن الشكوى من «هجرة الأدمغة»، قد تتحول في وقت قريب جداً إلى مأساة من نوع آخر عنوانها: «لا يوجد عندنا أدمغة للتصدير». فها هي شركة «سيسكو سيستمز» في أحدث دراساتها، تحذر من نقص سيصبح فادحاً خلال السنوات الثلاث المقبلة، في الكوادر الخبيرة في شبكات الاتصال على أنواعها، في منطقتنا كلها. وتقول الدراسة، إن الطلب على هذه المهارات في مصر، وحدها، سيفوق العرض بنسبة 34% بحلول عام 2009، حيث سيصل النقص في عدد الكفاءات البشرية المطلوبة لدعم النمو الاقتصادي المتصاعد، إلى أكثر من 19 ألف خبير.

قد يقول البعض إن العورة تكنولوجية، ونقول إنها طالت كل ميدان، بما فيها المجالات الإنسانية. فالصحف العربية التي تحترم نفسها كثيراً أو حتى قليلاً، تحار كيف تعثر على المحرر الماهر والصحافي اللامع. وبمقدورك أيضاً ان تلتقي في لبنان مثلاً بمئات الخريجين من كليات «علم النفس»، لكن ثمة من يقف في الطوابير وينتظر شهوراً، ويدفع مبالغ تكاد تكون ابتزازية، كي يجد نتيجة مرجوة عند متخصص حاذق، في مداواة النفوس المتعبة. وتفادياً للتنقل بين هالك ومالك، وهدر الوقت، وحرق الأعصاب المنهارة، أصلاً، على أبواب المجربين الخائبين، الذين صاروا أشبه بالمنجمين المشعوذين، فإن طالب الأمان، يستسلم لكل شروط المتخصص الشاطر، ويجد نفسه، في النهاية، هو الكسبان.

وبالعودة إلى تقرير الـ«إيسكو»، فإنه يشرح بأن هبوط المستوى التعليمي في الدول العربية كلها تقريباً، بدأ في الثمانينات، وما يزال يواصل الهبوط. والاعتقاد الذي ساد، بأن التعليم الخاص هو المنقذ، وما تبعه من تفشي سرطان المؤسسات التربوية التجارية، لم يزد الوضع إلا سوءاً واضمحلالاً. والمرعب في كل ما يحدث، أن وصفات العلاج، تأتي من الداخل والخارج، بمنهج ترقيعي. فهذا ينصح بزيادة ميزانيات التعليم، وذاك يعتبر عدم تأخر ادخال الأجهزة كومبيوتر الى المدارس أعاق تطورها وجعلها بدائية بما لا يطاق، وذاك يفترض أن الحل هو في زيادة كم المعلومات العلمية أو الرياضية. وهناك من استعار مناهج غربية بالكامل، حتى صار الطلاب يرطنون كالأعاجم ويجهلون الألف من الباء.

كل ما يقترحه المرقعون يكاد يكون صحيحاً، لكنه غير كاف. فنصيب الفرد من الإنفاق التعليمي، عموماً، في العالم العربي لا يتجاوز 340 دولاراً حسب ما تقول الأرقام، بينما ينفق على التلميذ ما يقارب 6500 دولار في الدول المصنعة. ولكن هل يكفي أن نرمي بالأموال لننقذ الأجيال، أو نزين مقاعد الدراسة بمئات الأجهزة كومبيوتر، أو نضيف عشرة دروس إلى هذه المادة أو نلغي درسين من غيرها، في ما المشكلة هي في عصيان النظام التعليمي ككل عن استيعاب دوره، في تحضير التلامذة لملاقاة مستقبل، يتغير مع مرور كل ثانية. فالخديعة الكبرى التي تقدمها المدرسة العربية لتلميذها تتلخص في عبارة «أدرس تنجح» ولو استبدلتها بأخرى من طرز «أعرف تفلح» لتغيرت أمور كثيرة، ولفهم التلميذ النجيب أن مهمته المعرفة بمعناها الأشمل والأوسع، لا المنهاج بحدوده العمياء. وقد كتبت الباحثة فريال مهنا، في مؤلفها «علوم الاتصال والمجتمعات الرقمية»، الذي صدر في سورية، منذ سنوات قليلة، ما معناه، انك مع الكومبيوتر تماماً، كما هي حال المتلقي مع الكتاب. ولا يكفي أن تمسك بالكتاب كي تنال المبتغي، وإنما هو يعطيك بقدر ما تعطيه، ويغذيك بحسب قدرتك على الامتصاص والهضم. وأولادنا بحاجة لمن يجعل منهم مخلوقات تشتهي أن ترى وتسمع وتغرف كل جديد، قبل ان نقذف بها للإبحار على شبكة الإنترنت، وإلا وجدناها تذهب ـ كما تفعل حالياً ـ صوب اللعب واللهو، وأغاني الخفة، والثرثرة مع أمم الأرض، بهدف وبدونه، في أغلب الأحيان.

وبالتالي فنحن نوافق السيد طاهر حلمي، رئيس غرفة التجارة الأميركية في مصر، الذي بدا غاضباً من رقم الستين مليون عربي، الذين تنتظرهم البطالة في السنوات المقبلة، لكننا لا نرى أبداً أن ضخ 70 مليار دولار، وتعزيز فرص العمل، وفتح الحدود البينية بين الدول العربية وتسهيل انتقال الناس ورؤوس الأموال، هي الحل السحري الذي يجب أن نعلق عليه الآمال الكبار. ونكاد نجزم، بأن الأدمغة الصغيرة الغضة، التي هي اليوم أمانة في أعناقنا، إن سقيت بماء المعرفة العذبة، استطاعت لا أن تحطم الحدود المصطنعة بين الدول العربية، وإنما لأفلحت ايضاً، في اختزال المسافة، وبسرعة صاروخية، بين الشرق والغرب.

sawsan_abtah@hotmail.com

و كل ذلك بحسب رأي الكاتبة في المصدر المذكور.

المصدر: الشرق الأوسط اللندنية-11-7-2006