الليبرالية ليست الطريق الأكيد الى الديموقراطية
نسيم ضاهر
انعقد مؤخراً منتدى دافوس في منتجع شرم الشيخ في مصر. وحمل انعقاده بالطبع أكثر من دلالة، إن من حيث الإبقاء على استضافته في منطقة ضربها الإرهاب تكراراً، أو نسبة للمشاركة العربية العريضة في أعماله. ليس بخافٍ أنَّ ما استقرت عليه صيغة المنتدى بعد عقود ثلاثة ونيف على انطلاقته الأولى، يعكس مشاغل الدول والفاعلين اقتصادياً حيال التحولات الكبرى الجارية في نطاق عولمة متسارعة في جميع مناحي الحياة. بهذا المعنى، أضحى اللقاء محطة دورية يجري فيها تتبع المجريات والمتغيرات، ترصد من خلال مداولاته ونقاشاته مستجدات لوحة الاقتصاد العالمي وتوجهات مختلف الفرقاء بشأنها. حمل المشاركون العرب مساهماتهم إلى المنتدين في ديارهم انطلاقاً من واقع الحال المثقل بالإشكاليات. فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، والتقارير والوقائع كافة تشهد لإقامتهم المديدة على أطراف الثورة العلمية والتقنية الجارية من حولهم، ولموقفهم الخجول من مسألة إشاعة الديموقراطية وكسر القيود التي تلجم تطور مجتمعاتهم وانتقالها إلى مصاف الحداثة والابتكار. والأدهى أن معظمهم ما زال يفتقد الجرأة على مكاشفة الذات والاعتراف بالخلل العضوي المتفاقم والمسافة التي باتت تفصل المسيرة العربية الشاملة عن ركب العالم ومتحولاته المتسارعة. لذا لم يشذ الخطاب عن النمط المعهود، دوراناً حول لب المسائل وجوهرها، وحذراً من النقد الصريح باللجوء إلى الوخز مخافة إغضاب صنَّاع السياسة الدولية وأقطاب المؤسسات وشركات الاستثمار. تعددت أسباب الامتعاض العربي وأشكاله من سلوك القوة العظمى قاطرة المؤسسات الدولية وذات التأثير البالغ على سياسات كتلة عريضة من دول الشمال. فالدولرة سيدة الموقف بحكم احتكار العملة الأميركية حصة الأسد بحوالي سبعين بالمائة من مجمل المبادلات وترسمل بورصة نيويورك يوازي لوحده ضعف سائر البورصات العالمية مجتمعة. أي أن السوق الأميركية ما زالت مقصد البضائع والرساميل، والعاصمة واشنطن مركز بلورة القرارات الدولية، فضلاً عن أن نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس وهيوستن تصوغ، منفردة أو مجتمعة، العديد من التوجهات في المدى المنظور في ميادين أساسية تشمل المعارف والتقنيات والأبحاث ونوعية السلع وحركة المواد الأولية وسوق المعادن والإعلام ووسائل الترفيه والخدمات الحديثة وأنماط الاستهلاك. كما في كل المحافل، تناول الطرح العربي الموضوعات بشقيها السياسي والاقتصادي من زاوية الصراع العربي - الإسرائيلي المتآكل وضرورات التنمية الملحَّة. وبطبيعة الحال، عرج على قضية محاربة الإرهاب ولازمة الإصلاح والديموقراطية. وفي كل مسألة، بدا وكأنه مطالعة اعتذارية مفادها الدعوة إلى التروي والتدرج، مشدداً على العناصر الخارجية ومطالباً بمنح أصحاب الخطاب الأسباب التخفيفية وعامل الوقت. هكذا رسخ الانطباع بأن دليله الدائم هو الهروب من الحسم وامساك العصا من منتصفها، أي عملياً المراوحة في المكان مع إبراز وتعظيم الخطوات الإيجابية المحددة التي تمَّ اتخاذها تجاوباً مع المناخ الدولي. للوهلة الأولى، قد يفهم الحياد العربي من التصدي للمشكلات الأساسية التي تحف بالقرية الكونية المعولمة، إذ، باستثناء البترول وتوفير مصادر الطاقة، لا صوت له في تقرير المصائر ولا دور يذكر في رسم المعالم. فرغم التغني بموقع المنطقة الاستراتيجي والتحذير اللفظي من الأطماع بثرواتها وأسواقها والتهديد اللاحق بهويتها، تشير الأرقام المستخرجة من وثائق دولية ومراجع محترمة إلى ضمور الحصة العربية من مجمل الاقتصاد العالمي وتراجع المؤشرات الأساسية الخاصة بالدائرة العربية في شتى ميادين الاجتماع والسياسة والتعاون الدولي، ناهيك عن العلوم والإبداع. ولقد بلغ الضعف العربي حافة العجز والجمود شبه المطلق في احتضان الأزمات الداخلية والإقليمية والفشل في معالجتها من العراق إلى دارفور في السودان، مروراً بالمأساة الفلسطينية المتمادية بأدوات وصيغ صراع داخلي. في المحيط الأوسع، حيث تنذر اللعبة الإقليمية الدولية بأقسى العواقب وأفدحها، تسود تقية عربية حبلى بالمخاطر أقرب ما تكون إلى سياسة النعامة ودفن الرأس في الرمال. فحيال المواجهة حول برنامج إيران النووي، ينطق الخطاب العربي بكلام غامض، وتخيِّم ضبابية مقصودة على مراميه وهواجسه، مع انه المعني المباشر بتداعيات هذا البرنامج القريبة والبعيدة. إن نفض اليد من موضوع مصيري قابل لتعديل خريطة المنطقة وإرساء موازين جديدة هو بمثابة الاستقالة الصريحة من أعباء المسؤولية والتلطي المباشر وراء الدول الكبرى لن يؤول إلاَّ لمزيد من التهميش وذرف الدموع على الدور المفقود. وعلى أهميته، لا يكفي في هذا السياق رفع وتيرة استخراج البترول حفاظاً على استقرار تزود العالم بسلعة استراتيجية أساسية، ومجانبة اتخاذ موقف صريح من قضية ملتهبة وترك أمرها للدول الكبرى المستوردة في أقاصي الأرض. إنَّ ثمة توضيحاً لا بدَّ منه للخروج من اللبس ووضع الأمور في نصابها حين يتعمَّد الخطاب الدمج الآلي بين المفاهيم وإنزال المسميات في غير موقعها الأصلي. وينطبق هذا السعي، بالدرجة الأولى، على التشاطر الخفي في مسألة الديموقراطية ومأسستها، عنيت تلك النزعة المواربة العاملة على مماهاة الليبرالية بالديموقراطية. ان شططاً غالباً بات يرادف بين مفهومين ويمزجهما حصراً في معادلة معرفية، فيما ينتمي كل منهما، بالتعريف والممارسة، إلى حقلين يلتقيان ولا ينصهران. فالديموقراطية مبدأ سياسي ـ اجتماعي يشكل الوعاء الحاضن لأنماط اقتصادية مختلفة، تقترب أو تبتعد عن الوفاء بمتطلباته بقدر التزامها بجوهره وتوفير أعلى درجات المشاركة المجتمعية الفعلية لتحقيقه. لذا تتنافس المدارس الفكرية الاقتصادية على تأكيد التصاقها منهجياً وعملياً بغايات الديموقراطية انطلاقاً من تكاوين الاقتصاد في زمان ومكان محدودين. ولئن كانت الليبرالية ذات مضمون وبُعد اقتصاديين في الأساس، فلقد أنبتت فصيلاً تاريخياً تكنّى بها في مضمار السياسة، واستقر على قناعة أن الليبرالية هي السبيل الأمثل لتحقيق الديموقراطية وإشاعتها. بيد أن انتزاع الليبرالية حصرية المذهب الديموقراطي لم يقرّ يوماً لها. إذ شكَّلت، عبر التاريخ، جناحاً ليس إلا، عرف نجاحات وإخفاقات، وغاب عن مسرح السياسة في بلدان ديموقراطية عريقة. رواد الديموقراطية عديدو المشارب والانتماءات، ومن الخطأ الفادح حشرهم جميعاً في خانة الليبرالية وتحت ردائها. منهم من قدم من مدارس الحركة العمالية، ومنهم من تأثر بالإصلاح الكنسي والفكر الاجتماعي التحرري، ومنهم بخاصة من اعتنق مبادئ الاشتراكية أو انتظم في حركات التحرر الوطني. وعليه، يتبين مدى استنسابية المزاوجة بين الليبرالية والديموقراطية، وينكشف الادعاء المغالي المقصود في رفع راية الليبرالية تمويهاً للقصور في حقل الديموقراطية الاجتماعية والسياسية بسواء، وممالأة للأوساط المحافظة في الإدارة الأميركية الحالية. يجتهد الليبراليون العرب في طلب استقاء الديموقراطية المرجوة من رحم الليبرالية وفق قراءة، صحيحة جزئياً، تُعنى بتحرير الاقتصاد وترى أن حرية الفرد مقدمة لذلك. غير أنهم غالباً ما يهملون استخدام هذه المقولة من جانب حراس الأنظمة وتوظيفها بغية تجميل صورتهم، وتغليب الانفتاح الاقتصادي على ما عداه بذريعة أولوية الاستثمارات وإيجاد مناخات جاذبة مؤاتية عبر ضبط الحراك الاجتماعي حصيلتهما نظرة بطريركية للسلم الاجتماعي، وسكون مفروض قسراً ومضيِّق للحريات بحجة الرعاية الأبوية وضرورة الحفاظ على هيبة الدولة. بذلك يجد التشدد أرضاً خصبة تُعيِّن مقادير الليبرالية السياسية وتجعل من أدواتها مجرد هياكل. إنَّ خطأ الدعاة الليبراليين إنما يكمن في سراب اختصار الطريق وإحلال مفاهيمهم بمعزل عن البيئة المحيطة الشاملة بأسلوب نخبوي وتجريبي في آن غير آبه بنوعية البنى والعلاقات الاجتماعية وطبيعة السلطة. تبعاً لذلك، يستجر هذا النهج استيراداً مصطنعاً لطروحات وسلوكيات قلَّما تجد تفهُّماً ورواجاً في وسط العاملين والوجدان الشعبي، فينظر إليها بصفتها وصفات جاهزة قليلة العناية بالقهر الاجتماعي القائم والاستلاب الصارخ، وغافلة لعامل مستويات الدخل والمعيشة والثقافة والرفاهية قياساً بالبلدان الرأسمالية المتطورة. ما من شك أن البنى السياسية القائمة قادرة على استيعاب جرعات ليبرالية في الميدان الاقتصادي، تماماً كما تتكيَّف مع مجريات السياسة دولياً بحياكة شبكة أمان نسبية على قاعدة الشراكة المتواضعة، غير المشاكسة، والمساكنة الشعارية «الديموقراطية» التي تستوجب دفع أثمان محدودة ومحتبسة في النطاق الداخلي. وعلى ما شاهدنا، في شرم الشيخ ، تحتفظ هذه البنى بترسانة احتياطية، اعتراضية بخفر تجاه الخارج، تجاوباً مع النبض الشعبي، وقمعية جاهزة إزاء تخطي الإصلاحيين الحدود المرسومة في حلبة الداخل. واستدراكاً لفقدان بوصلة الإصلاح الحقيقي أضحى مأمولاً إخراج الديموقراطية من عهدة الليبرالية الحصرية، وتصويب الاعوجاج الفكري بإعادة المسألة إلى نصابها. الأساس المتين عنوانه الديموقراطية، وهي معلم البداية والنهاية، غاية وسبيلاً وضمانة. وفي ظلالها تنمو الليبرالية أو تذبل بخيار الناس، ويبقى موفور المساحة لمناهج سياسية من مشارب أخرى منافسة، يؤمن أنصارها، وليسوا بقلة، أنها الأوفى لمعاني الديموقراطية الحقّة، والأنسب لديمومتها. هنا امتحان الأنظمة الجدِّي. وهنا فرصة التغيير بكامل مقوماتها وأدواتها، وسبيل الإقرار بأن وعاء الديموقراطية شرطه التعددية واختلاف الرأي الخلاَّق، قاعدة احترام الآخرين لنا وتفتح طاقات مجتمعاتنا لانتقاء الأمثل بين كثرة خيارات. كاتب لبناني. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الحياة اللندنية-21-5-2006
|