أمريكا وإيران بين الوفاق والشقاق!

 

عبد المنعم سعيد

 

حتى وقت قريب للغاية كان سيناريو المواجهة العظمى هو الغالب على تصور مستقبل العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية؛ فلا أمريكا ـ وبقية الغرب ـ تتحمل دولة الثورة الإسلامية وقد تسلحت بالسلاح النووي في عالم ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ ولا إيران تحت القيادة الملتهبة للسيد محمود أحمدي نجاد تستطيع التراجع بعد أن وصلت الدولة إلى الأعتاب النووية، وقالت إن عالما بدون إسرائيل سوف يكون أفضل كثيرا. وفي علوم الصراع فإن الصدام يصبح حتميا عندما تخلط الأمم مصالحها الحيوية بحزمة من الاعتبارات التي تخص الدين والشرف والكرامة، والأخطر من كل ذلك البقاء، وساعتها يصبح الحطب مشبعا بالزيت منتظرا شرارة الحريق الأولى. ومنذ أخذت الأزمة أثوابها الأخيرة، ودفعت أمريكا بالموضوع إلى ساحة مجلس الأمن، ونجحت إيران في تخصيب اليورانيوم بالفعل، فإن النخبة السياسية لدى الطرفين لم تبخل بالعبارة والإشارة الى احتمالات النزال. صحيح أنه كان لدى أمريكا ما لا يجعلها متعجلة على إطلاق النيران بعد متاعبها في أفغانستان والعراق، وكل المنطقة العربية التي لم تعد تتحمل مزيدا من الديمقراطية الأمريكية؛ وكان لدى إيران ما يدفع إلى التروي لأن السلاح النووي لا ينبت على الأشجار وإنما يحتاج ليورانيوم مخصب بكميات وأقدار معلومة؛ ولكن الكل كان يعلم أن اعتبارات التوقيت والزمن لا تمنع قدرا محتوما وقضاء نافذا!

ومع ذلك فإن العلاقات الدولية ليست بمثل هذه البساطة، ولا كان سطح المياه مفصحا دائما عما هو تحتها، ولا كانت الأحجية والألغاز في الشرق الأوسط بمثل تلك السهولة في تنبؤ العواصف والأعاصير. أو على الأقل كان ذلك هو رأي صاحبنا القادم من طهران، والذي قال إنه على عكس ما تأتي به الأنباء فإن فترة من الوفاق تبدو أنها الأرجح في العلاقات الأمريكية – الإيرانية التي تتطاير فيها عبارات العداء كما يتطاير الشرر في الهشيم. وكانت الحجة على الجانب الأمريكي بسيطة، فجماعة المحافظون الجدد في الولايات المتحدة فشلت فشلا ذريعا في تقدير الأعداء ـ أفغانستان والعراق ـ بقدر فشلها في تقدير الحلفاء ـ العرب خاصة ـ بعد أن وقفوا يتفرجون على مأزقها في الشرق الأوسط، صامتين أحيانا وشامتين ومهللين أحيانا أخرى. ولذلك فإنه من الناحية الواقعية البحتة فإن الولايات المتحدة لا تستطيع فتح جبهة أخرى في إيران وخوض صراع آخر مع الثورة الإسلامية سوف يكون الصراع في العراق بالنسبة له نوعا من نسيم صيف. ومع تواضع شعبية بوش، واقتراب آجال انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، سوف يجعل مستحيلا على الإدارة الأمريكية أن تنهى فترتها الثانية وقد خسرت كل شيء في الكونجرس والبيت الأبيض. وباختصار فإن الحالة في أمريكا هي لحظة تراجع وإعادة تقييم وليست وقتا للتوسع والانتشار واستخدام القوة، وهي زمن للحصافة والحكمة وليست زمنا للتهور والمقامرة.

أما الحجة على الجانب الإيراني فإنها مثل الأبسطة الأعجمية والرسوم الفارسية بالغة التعقيد، فالموضوع من أوله إلى آخره ليس الوصول إلى السلاح النووي، وإنما الوصول الإيراني القومي إلى الولايات المتحدة والغرب من قاعدة للقوة الآيديولوجية والسياسية والعسكرية. وفي المرحلة الأخيرة فإن المشروع الثوري الإسلامي الذي يمثله مرشد الثورة وقائدها علي خامئني لم يعد له منافس على الساحة الإيرانية، فلا نجح المنهج الاقتصادي لرفسنجاني في جذب عيون الإيرانيين، ولا تمكن محمد خاتمي من خلال الانفتاح السياسي والحوار مع الغرب أن يخطف الأغلبية. وبعد عقد ونصف من التجريب الإيراني بين وعد الرخاء الاقتصادي وخيال الليبرالية فإن الثورة الإسلامية أصبحت بلا منافس حقيقي خاصة بعد فوز محمود أحمدي نجاد برئاسة الجمهورية. ولأول مرة منذ وقت طويل أصبح مرشد الثورة ينام مطمئنا إلى استقرار الأوضاع في البلاد، وفوقها أسعار مرتفعة للنفط تدفع بمليارات الدولارات للخزانة الإيرانية، ومع هذا وذاك أصبحت إيران دولة نووية بالفعل بالقدرة على إنتاج اليورانيوم المخصب، وما بعد هذه القدرة محض تفاصيل، وزمن إنتاج.

وعلى عكس ما يعتقد الجميع ـ أو هكذا قال قائلنا ـ فإن هذه اللحظة ليست لحظة للمغامرة والمقامرة بمصير البلاد والثورة، بل هي لحظة لاستخدام الأوراق كلها ـ العراق والأيديولوجية الإسلامية والقدرة النووية والطاقة النفطية بالإضافة إلى أخطاء الآخرين ـ لخدمة الأهداف القومية في بناء والمكانة والقدرة والنفوذ على المستوى العالمي والإقليمي. ولذلك ـ والكلام لا يزال لصاحبنا ـ فإنه لم تكن صدفة أن المرشد علي خامئني تدخل للتخفيف من لهجة خطاب أحمدي نجاد للرئيس بوش، بل أنه قام بحذف صفحتين كاملتين من الخطاب جاء فيهما إعادة لما قاله أحمدي نجاد من قبل حول «الهولوكوست». وفوق ذلك فإن المرشد العام لم يترك الملف النووي في يد رئيس الجمهورية بل إنه استخدم صلاحيته العظمى في أن يجعل عملية إدارة الموضوع في يد واحد من تابعيه هو علي لاريجاني الذي حافظ على توازن دقيق بين حق إيران في التكنولوجيا النووية السلمية والتزامها بما تقرره معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.

وهكذا فإن الظروف باتت مهيأة لوفاق إيراني ـ أمريكي لا يختلف كثيرا عن الوفاق السوفياتي ـ الأمريكي في مطلع السبعينات، وهو وفاق لم يلغ التناقض بين الطرفين، وإنما يؤكد على استحالة الصراع فيما بينهما. وعندما تكون الحال كذلك فإن هناك مساحة تبزغ للاتفاق والتوافق حول مصالح مشتركة، وسواء كان الأمر يخص أفغانستان أو العراق فإن المساحة أوسع مما يعتقد كثيرون، ومجالات التعاون الاقتصادي لا تحد. وإذا كانت المسألة النووية مشكلة فإن إعلانا أمريكيا بالرغبة في التفاوض على مستقبل العلاقات، وإعلانا إيرانيا بتعليق إنتاج اليورانيوم لمدة خمس سنوات سوف يعطي للجميع فرصة للتفاوض حول أمور أخرى مع الإدعاء بأنه حقق أهدافه الرئيسية في الأزمة المستحكمة. وكان الاقتراح الخاص بالمدة ـ حسب قول المتحدث ـ قادما من المرشد العام وقائد الثورة حلا وسطا ومغريا بين مقترحات أمريكية أن تكون المدة عشرة سنوات، ومقترحا إيرانيا سابقا أن تكون المدة ستة أشهر فقط.

كان كل ذلك قبل الإعلان المفاجئ على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بالاصطفاف خلف موقف الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ـ بالإضافة إلى ألمانيا ـ في طرح حزمة من الإغراءات الاقتصادية والسياسية لإيران مقابل وقفها لتخصيب اليورانيوم. وكانت الملاحظة على الإعلان أنه أعطى إيران مدة للرد محددة «بأسابيع» لا يعلم أحد عددها؛ أما الرد الإيراني الأولي فكان تأكيدا إيرانيا على حقها في امتلاك التكنولوجيا النووية وهو ما لم يجادلها فيه أحد لأن إيران باتت تمتلك هذه التكنولوجيا بالفعل. أما القضية المثارة فهي إنتاج إيران كمية كافية من اليورانيوم المخصب يكون كافيا للتسلح النووي؛ أي أن المسألة موضع الخلاف هي امتلاك إيران لأعداد كافية من قدرات الطرد المركزي التي تحقق هذه الغاية.

فهل أصبحت إيران وأمريكا أقرب للاتفاق مما يعتقد كثيرون، أو أن الطاقة الثورية والأيديولوجية لأحمدي نجاد الذي كان معترضا على هذا التوافق ـ وفقا لما جاء في التحليل ـ لن تسمح بالوصول إلى هذه النتيجة، وسوف يغلب الطبع الثوري لمنطقتنا على التطبع الذي تولده سياسات واقعية قومية في المقام الأول حتى ولو كانت الأغلفة ثورية وإسلامية؟ على أي الأحوال فإن الإجابة على هذا السؤال لن تنتظر طويلا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وبعدها تشرق شمس يوم جديد على الشرق الأوسط!

و كل ذلك بحسب رأي عبد المنعم سعيد في المصدر نصا ودون تعليق.

المصدر : الشرق الاوسط – 7-6-2006