اضطرابات تيمور... هل سببها مرعي الكثيري؟
د. عبدالله المدني
في مايو 2002 أعلن رسمياً عن قيام جمهورية تيمور الشرقية الديمقراطية كأول كيان مستقل في الألفية الثالثة وسط احتفاء عالمي، لم يغب عنه سوى أولئك الذين رأوا في الحدث مؤامرة صليبية، وخطوة على طريق تفتيت الكيان الاندونيسي المسلم. وفي مايو 2006 عادت تيمور مجدداً إلى واجهة الأحداث بعد أربع سنوات توارت خلالها أخبارها (عدا تلك المتعلقة بمفاوضاتها العسيرة مع أستراليا لاقتسام ثروات النفط والغاز المغمورة في المياه الفاصلة بين البلدين) لكن في صورة ما يمكن وصفه بتباشير حرب أهلية وسط انهيار مؤسسات الدولة وتصاعد أعمال العنف والتخريب ولجوء السكان إلى الكنائس ومقار السفارات الأجنبية وثكنات القوات الدولية طلباً للحماية ونزول القوات الأجنبية من أستراليا ونيوزيلندة وماليزيا بهدف السيطرة على الأوضاع المنفلتة. ولعل ما قاله رئيس البلاد وبطل الاستقلال "شنانا غوسماو" مؤخراً حول ضياع الحلم الذي أفنى التيموريون ربع قرن من الزمن ونحو 250 ألفاً من أبنائهم في سبيل تحقيقه، يعكس مدى خطورة ما آلت إليه الأوضاع في هذه الدولة. فأن تعجز السلطات عن احتواء ما بدأ كتمرد محدود في مارس الماضي من قبل 600 عنصر من عناصر الجيش المكون من 1400 فرد على خلفية التمييز العرقي ضدهم كونهم من أبناء الإقليم الغربي غير الموثوق فيهم، وقبل أن تتطور الأمور سريعا بانضمام 70 بالمئة من قوات الشرطة المحلية وأعداد كبيرة من الشباب المحبط والعصابات المتنافسة إلى المتمردين، لهو دليل دامغ على هشاشة هياكل الدولة ومؤسساتها. هذا فضلاً عن أنه يعكس فشل الحكومة في احتواء ثقافة العنف التي تجذرت في المجتمع كنتيجة لربع قرن من الاحتلال الإندونيسي الذي مورست خلاله أعمال العنف والعنف المضاد ابتداء من عام 1975 حينما دفعت جاكرتا بقواتها لاحتلال المستعمرة البرتغالية السابقة بالقوة، الأمر الذي يؤكد مقولة أن الشعوب التي تلجأ إلى العنف المفرط في سبيل تحقيق غاياتها المشروعة ستجد نفسها بعد نيل مطالبها أسيرة لثقافة العنف. في أسباب ما حدث، لا يمكن إغفال الانقسامات السياسية والاحتقانات العرقية التي لئن ظلت شبه مكبوتة طوال فترة النضال من أجل الاستقلال، فإنها وجدت في فترة ما بعد الاستقلال فرصتها لتطل برأسها، خاصة في ظل وجود عوامل مساعدة مثل استشراء البطالة والفساد الإداري والخلافات داخل حزب "فريتيلين" الحاكم، الذي يهيمن على 55 مقعداً من مقاعد البرلمان الثمانية والثمانين، ناهيك عن إمكانيات الدولة المالية الضعيفة التي عجزت معها عن القيام بتنمية حقيقية سريعة، بل عجزت حتى عن الإيفاء بشروط الانضمام إلى تكتل "آسيان" الإقليمي التي من بينها وجود سفارات للدولة المعنية في كل دول المجموعة العشر. فميزانية وزارة الخارجية التيمورية في عام 2006 مثلاً لم تتجاوز مبلغ خمسة ملايين دولار من أصل الميزانية العامة للعام نفسه والبالغ حجمها 230 مليون دولار، في الوقت الذي تحتاج فيه الوزارة إلى ضعف هذا المبلغ من أجل المشاركة فقط في أكثر من 600 اجتماع سنوي متعدد المستويات لرابطة "آسيان". على أن العامل الأهم وراء فشل الدولة التيمورية يظل- بحسب بعض المراقبين – الطريقة التي أدار بها رئيس الحكومة المسلم من أصل عربي حضرمي"مرعي بن عمودي الكثيري" البلاد منذ عام 2002، وهي طريقة دفعت رئيس الحكومة الاسترالية جون هوارد مؤخراً إلى وصفها بالفاشلة. صحيح أن الكثيري ذا التاريخ الحافل بالجهود الدبلوماسية والإعلامية لخدمة بلده أثناء فترة النضال من أجل الاستقلال، عد في نظر التيموريين بطلاً لا يقل مكانة عن زميليه الآخرين رئيس البلاد "غوسماو" الملقب بنيلسون مانديلا الآسيوي ووزير الخارجية الحائز على جائزة نوبل للسلام خوزيه راموس هورتا. وصحيح انه بتاريخه النضالي الناصع صعد إلى المنصب الأعلى والأهم في الكيان المستقل دونما اعتراض يذكر من الشعب أو الكنيسة بسبب عقيدته الدينية أو أصوله العرقية في بلد يدين 92 بالمئة من أبنائه بالكاثوليكية وتحظى فيه الكنيسة بدور فاعل. وصحيح أنه استطاع مؤخراً أن يعزز مركزه في الحزب الحاكم بالتجديد له كأمين عام و بالتالي كرئيس للحكومة بأغلبية ساحقة. غير أن الصحيح أيضا هو أن شعبيته بدأت في التآكل بسبب ما قيل عن اعتماده نهجا تصادمياً بدلا من النهج التوافقي، ولجوئه إلى سياسات مثيرة للجدل. فهو في نظر قائد العسكريين المتمردين "غاستاو سالسينها" شخصية متعجرفة، عزلت نفسها عن هموم الجماهير وتسربت إليها النوازع الديكتاتورية، ودليله في ذلك أن الرجل كان أمامه نحو شهرين للبت في التظلمات التي رفعت إليه من بعض منتسبي الجيش، لكنه لم يكترث بها إطلاقا مما ساعد في اندلاع الاضطرابات. الدليل الآخر أنه رد على المطالبين له بالاستقالة من منصبه كحل لإعادة الوئام بالقول إنه مستعد لذلك حينما يتوفر في البلاد شخصية مؤهلة قادرة على الاضطلاع بمهام الحكم بصورة أفضل منه، مضيفا أن هذا الشرط غير متحقق حالياً. أضف إلى ذلك أسلوبه المثير للجدل في التصرف في حصة البلاد من إيرادات النفط والغاز والمقدرة سنويا بنحو 560 مليون دولار، والتي لسبب ما يفضل الرجل إيداعها في المصارف الأجنبية كوديعة مقابل فوائد بدلا من استثمارها في التنمية وخلق فرص عمل للعاطلين. وفي مقابل تراجع شعبية الكثيري للأسباب المنوه عنها، ارتفعت أسهم "غوسماو" الذي يتعرض حالياً لضغوط قوية للتدخل وعزل رئيس الحكومة، رغم أن منصبه الرمزي في ظل النظام البرلماني القائم لا يعطيه مثل هذا الحق ويلزمه بالحياد التام، وإنْ كان الدستور يجيز له حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. ولعل من المناسب في هذا السياق الإشارة إلى وجود دلائل على امتعاض "غوسماو" من سياسات الكثيري، منها ما قيل عن تعاطفه مع معارضي الأخير داخل الحزب الحاكم والبرلمان، وعلى رأسهم وزير الخارجية هورتا. ومنها أيضا تعاطفه مع الأصوات المطالبة بالإتيان بالسفير التيموري الحالي لدى واشنطن والأمم المتحدة خوزيه لويس غوتيريس كرئيس وزراء جديد. في تفاصيل حالة الود المفقودة بين غوسماو والكثيري، قيل إن الأول مستاء من السياسات الخارجية للثاني والتي تجلت في رفضه لمساعدات البنك الدولي المشروطة رغم حاجة البلاد إليها، وتقربه من النظام الكوبي والأنظمة اليسارية الناشئة حديثا في أميركا اللاتينية. إذ يعتقد أن غوسماو وهورتا لا يحبذان مثل هذه السياسات التي قد تضع بلادهما المتهالكة في مواجهة غضب الغرب، ويفضلان عدم استفزاز الأخير الذي لعب دوراً لاينكر في تحقيق استقلال البلاد، وإن كان صمته ودعمه لنظام سوهارتو في جاكرتا في السبعينيات هما سبب احتلال الأخير لتيمور الشرقية. وقول "لورو هورتا" من معهد الدراسات الاستراتيجية في سنغافورة والمستشار الدفاعي السابق لحكومة تيمور، في تعليقه على نهج الكثيري الحاد بأنه ربما تأثر بطريقة إدارة الدولة في أفريقيا، لا سيما وإنه عاش في موزمبيق وتنقل في جوارها أكثر من ربع قرن كلاجئي قبل أن يعود إلى وطنه منتصرا. وجملة القول إن الكثيري، سواء صح ما قلناه أو كان مجرد كبش فداء لأخطاء الآخرين، يقف اليوم أمام معارضة متنامية لا تقتصر على من سبق ذكرهم، وإنما تشمل أيضا رأس الكنيسة الكاثوليكية، التي وجدت في أجواء الاحتقان الحالية فرصتها للرد على قرار اتخذه الكثيري في العام الماضي حول جعل التعليم الديني في البلاد اختياريا وليس إجبارياً. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الإتحاد الإماراتية-4-6-2006
|