نمطا الدكتاتورية... وكيفية التعامل معهما
أمير طاهري
هل تخلت إدارة بوش عن خطتها لدمقرطة الشرق الأوسط، مقابل دعم من الدول العربية المعتدلة في اخراجها من مأزقها في العراق؟ تجري مناقشة هذا السؤال بسخونة في واشنطن، حيث بعض «المحافظين الجدد» ينتقدون بوش بشدة على خيانته المفترضة لـ«المبدأ» الذي سمي باسمه، وفي العواصم العربية حيث النخب الحاكمة تتمنى عودة السياسة الواقعية. وقد ساعد حدثان أحدهما رئيسي والآخر ثانوي في اثارة الجدل. الأول كان قرارا أميركيا لرفع اسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للارهاب، واعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة معها. وكان هذا سياسة واقعية من النمط الذي يدعمه أشخاص مثل هنري كيسنجر وزيبغنيف بريجينسكي، وهي مبررة بالكامل في اطارها الخاص. وعلى اية حال، فالحقيقة أن ليبيا أوقفت رعايتها للارهاب وقطعت كل صلاتها مع الجماعات الارهابية قبل ما يزيد على ثلاث سنوات. وقد أغلقت آخر مكاتب المنظمات الارهابية التي كانت ما تزال تعمل في العاصمة الليبية طرابلس في صيف عام 2003. كما اعترفت ليبيا بالمسؤولية عن مأساة لوكربي ووافقت على تعويض عوائل الضحايا الذين لقوا مصرعهم في تحطم طائرة البان أميركان. ومن أجل تأكيد استعدادها لتغيير اتجاهها، ذهبت ليبيا الى ما هو ابعد من ذلك عبر القيام بشيء لا يمكن أن تقوم به أي دولة، وهو تسليم اثنين من كبار موظفي أمن الرئيس لمحاكمتهما في الخارج بتهم الارهاب والقتل الجماعي. وربما كان الأكثر اهمية أن ليبيا وافقت ايضا على تفكيك برنامجها النووي والتخلي عن مشاريع تصنيع الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية. أما الحدث الثاني فكان المقابلة الموجزة التي منحها الرئيس جورج دبليو بوش لجمال مبارك، ابن الرئيس المصري حسني مبارك، في واشنطن أوائل الشهر الحالي. وجاء اللقاء بعد أسابيع قليلة من تأجيل الحكومة المصرية موعد اجراء الانتخابات المحلية، وفي الوقت الذي تواجه فيه جمعية القضاة في مصر نزاعا مريرا مع الحكومة بشأن من يتعين ان يشرف على اية انتخابات مستقبلية. وبقدر تعلق الأمر بليبيا فقد أنجزت كل ما طلب منها، والذي كانت لسنوات ترفض القيام به، قبل فترة طويلة من الكشف عن «مبدأ بوش». ولذلك فإنه قد يكون افتراضا مأمونا، ان الخوف من استهدافها لغرض «تغيير النظام» هو الذي اقنع العقيد معمر القذافي بالخضوع لشروط كان قد تعهد، حتى عام 2003، بعدم قبولها على الاطلاق. وفضلا عن ذلك، وبقدر ما نعلم، فإن ادارة بوش لم تعط طرابلس أية ضمانات بعدم الضغط في سبيل الدمقرطة وايلاء اهتمام أكبر بحقوق الانسان في ليبيا. وليس امام مصر، من ناحيتها، خيار سوى الاستمرار على طريق الدمقرطة. وقد ينظر الى تأجيل الانتخابات المحلية باعتباره واحدا من المنعطفات الكثيرة في الطريق. وقد تحتاج مصر إلى أربع أو خمس عمليات انتخابات عامة قبل ان تترسخ التعددية في نظامها السياسي. وما يهم الآن هو أنه من غير المحتمل أن تتراجع مصر في ظل مبارك او أي من خلفائه المحتملين نحو نظام الحزب الواحد، الذي اقامه الراحل جمال عبد الناصر وظل قائما بقبضة حديدية حتى العام الماضي على الأقل. ان حقيقة ان القضاة والمحامين يمكن أن يتحدوا الحكومة من دون أن «يختفوا» هي مؤشر أكيد على تغير أساسي في مصر. وفي أميركا اللاتينية، التي شهدت الكثير من الأنظمة الاستبدادية كما هو الحال في الشرق الوسط، كان هناك، على الدوام، فارق بين أنماط الدكتاتوريات القائمة في أية فترة معينة. ووفقا للأميركيين اللاتينيين، هناك نمطان من الدكتاتورية. الأول يوصف باسم «الدكتاتورية الناعمة»، والثانية باسم «الدكتاتورية الغاشمة». وتهتم «الدكتاتورية الناعمة»، أساسا، بالحفاظ على سلطتها في البلاد، وليست لديها طموحات في الخارج. وفي هذه الدكتاتورية تعتبر الأسلحة الرئيسية للنظام هي توزيع المغانم، ورشوة الجماهير الفقيرة بالاعانات الحكومية، والسيطرة على وسائل الاعلام. ولا تروج «الدكتاتورية الناعمة» الى أية آيديولوجيا متشددة، وبالتالي فإنها لا تقيم معسكرات اعتقال للمعارضين. ولا تدفع الملايين الى المنافي، ولا تمارس القتل الجماعي للخصوم الحقيقيين او المتخيلين. والأكثر اهمية، من وجهة نظر السياسة الدولية، أن هذه الدكتاتورية تتجنب الحرب دائما. وفي ظل «الدكتاتورية الناعمة» يوجد جزء من المعارضة، على الأقل، داخل البلاد، وهي تسمح ببعض الحريات، بما في ذلك المشاركة في الانتخابات التي توفر، على الرغم من ابتعادها عن النزاهة، فرصة لسماع اصوات المعارضين. وبالتالي فإن «الدكتاتورية الناعمة» تشبه التهاب المفاصل. فهو يسبب ألما متواصلا للذين يعانون منه، ويمكن أن يؤدي الى اضعافهم مؤقتا، ولكنه لا يميتهم. غير ان «الدكتاتورية الغاشمة» تعتمد دائما على آيديولوجيا متشددة وغالبا ما تدعي مهمة تغيير المجتمع بأسره، ان لم يكن العالم ككل. وهي غالبا ما تولد مترافقة مع العنف والارهاب، الذي يسمى عادة «الثورة» أو «الانتفاضة الشعبية». وتبدأ حياتها بارغام اعداد كبيرة من الناس على الهرب الى المنفى بينما تقتل اعدادا اخرى لا تحصى باعتبارهم «اعداء الثورة». و«الدكتاتورية الغاشمة» لا يمكن أن تبقى بدون حرب، وبالتالي فإنها مصدر مستمر لعدم الاستقرار في منطقتها. وغالبا ما يرفض «مبدأ بوش» من جانب نقاده باعتباره محاولة يائسة لفرض الديمقراطية بالقوة. ومن الجلي ان الديمقراطية، أو أي نظام حكم آخر، لا يمكن ان تفرض بالقوة على شعب غير مستعد لها او راغب فيها. غير ان ما حدث في أفغانستان والعراق لم يكن فرضا للديمقراطية بالقوة. كان ذلك استخداما للقوة من اجل ازالة العوائق التي تقف في طريق الديمقراطية. فبوجود طالبان والبعث في السلطة، لم يكن لشعبي افغانستان والعراق أن يجدا فرصة حتى للتفكير بنظام مختلف ناهيكم من محاولة اقامة مثل هذا النظام. والآن، وعلى الرغم من انهما قد ينتهيان الى اقامة نظام آخر غير الديمقراطية على اية حال، فانهما يمتلكان تلك الفرصة. وكان كل من نظام طالبان وطغيان صدام حسين ينتميان الى نمط «الدكتاتورية الغاشمة»، وشأن معظم الأنظمة التي تنتمي الى هذا النمط، لا يمكن تغييرها بدون استخدام القوة. غير أن هذا لا يعني أن «مبدأ بوش» يجب أن يطبق بالمناهج ذاتها بالضبط في حالة تلك الأنظمة، التي يمكن أن توصف بأنها من نمط «الدكتاتورية الناعمة». وفي دراسة تطبيق «مبدأ بوش» في الشرق الأوسط من المهم ادراك أي من الأنظمة ينتمي الى أي نمط من نمطي الدكتاتورية المشار اليهما أعلاه. ومن الواضح انه قد تكون هناك أوقات وفرص حين يمكن للديمقراطية ان تصوغ تحالفا تكتيكيا مع «دكتاتورية ناعمة». ومن غير الممكن اقامة مثل هذا التحالف مع أنظمة «دكتاتورية غاشمة»، خصوصا الآن بعد أن أزال انتهاء الحرب الباردة ضرورة التفكير بذلك الخيار. ويتعين تشجيع الأنظمة «الدكتاتورية الناعمة» على اجراء اصلاحات، وتوسيع قاعدتها الشعبية، وفتح الفضاء العام لوجهات النظر والطموحات المختلفة. ويمكن ان توصف العلاقات معها باعتبارها «التعايش الانتقادي». وبسبب انها تمتلك آليات داخلية للتغيير، ليست هناك حاجة للسعي الى حيل ومناورات للتوصل الى حل في حالتها. غير أن «الدكتاتورية الغاشمة» يجب ان تعتبر عدوا استراتيجيا، وبالتالي يجب الكشف عنها ومعارضتها على جميع المستويات، بما في ذلك تغيير النظام، العملية التي تصيبه بالفزع. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً. المصدر: الشرق الأوسط اللندنية-2-6-2006
|