على ماذا يدور الحوار..؟!
كلما اشتد الكرب بالنخب السياسية العربية، فإن الدعوة للحوار تصبح حالة ملحة، وصيحة عالية من أجل تجاوز الأوضاع الصعبة «الراهنة». ولا يكون الكرب عادة راجعا إلى كثرة وكثافة الضغوط القادمة من الخصوم، وإنما راجع إلى تلك الحالة من الاختلاف والنزاع حول أصول المسائل الوطنية وفروعها، بحيث تصل المسألة إلى حافة الاحتكام للسلاح. وقد جرت العادة من قبل الوطنيين في كل البلدان العربية على إنكار قابلية الخلافات للتحول إلى صراعات وحروب أهلية؛ وكم حدثنا اللبنانيون في العصور القديمة عن الحكمة اللبنانية الإلهية في القدرة على المساومة والتفاوض والخروج في كل الأحوال بصيغة اللا غالب واللا مغلوب. وفي الأزمنة الحديثة حدثنا العراقيون كثيرا عن الوحدة الوطنية التي لا تنفصم، وعلاقات النسب، والاختلاط الجغرافي، كبراهين على الوحدة الوطنية التي لا يغلبها غلاب. ولم تختلف أقوال أهل اليمن والجزائر والسودان وغيرهم عن تلك الصيغة التي ترفع لواء سرمدية العلاقات الاجتماعية السلمية، والأنسجة الوطنية التي لا تنقطع، والسبائك القومية التي لا تنفض. ولكن الواقع كان دوما أمرا آخر، فقد نشبت الحروب الأهلية العربية كما حدث في بلدان أخرى من العالم، وكان كثيرون من العرب لديهم قدر غير قليل من الوحشية في الاغتصاب والتمثيل بالجثث، وقتل من لم يكن لهم في الصراع نصيب؛ وفي أحوال غير قليلة جرت درجات من عمليات «التنظيف» العرقي سواء في لبنان أو العراق أو اليمن أو السودان. وما حدث في فلسطين لم يختلف عما جرى في البلدان العربية الأخرى، فقد كانت البداية كما هي العادة مع الإنكار والاستنكار، فالدم الفلسطيني محرم، وهناك خطوط حمراء للوحدة الوطنية الفلسطينية لا يمكن تجاوزها، والشعب الفلسطيني مهما اشتدت الخلافات لن يسمح للفرقاء بالاحتكام للسلاح. ومؤخرا أضاف الجمع الفلسطيني حجة جديدة، وهي أن الديموقراطية الفلسطينية، التي لم تتكرر في بلد عربي آخر حسب القائل، سوف تحسم كل التناقضات. ومع كل ذلك، فإن الواقع كان شيئا آخر، وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية تحالفت الفصائل الفلسطينية مع أطراف متنوعة متحاربة هي الأخرى؛ والآن فقد بدأت اشتباكات محدودة بين جماعات مسلحة من منظمة فتح مع جماعات مسلحة أخرى من منظمة حماس. ولأول مرة في تاريخ الجماعات السياسية في العالم تقوم الجماعة السياسية في الحكم ـ حماس ـ بنشر قوات مسلحة في الشارع ـ الفلسطيني ـ لكي تواجه قوات الأمن الرسمية ـ في السلطة الوطنية الفلسطينية. وفي العادة عند العجز عن فهم هذه الألغاز السياسية المستحيلة، فإن الجمع العربي يدعو فورا إلى الحوار السياسي للتفاهم وحل الخلافات، باعتبارها مخرجا من المأزق الذي وصل إليه الجميع. وفي لبنان لم يعرف اللبنانيون ماذا يفعلون في وضع رئيس الجمهورية، ولا في وضع حزب الله المسلح وحده بين كل الجماعات السياسية اللبنانية بعد حصوله على تفويض ـ شعبي ـ بالمقاومة باسم الشعب اللبناني والدولة اللبنانية، ولا في وضع القوى الديموقراطية التي ظهرت إلى الشارع بعد اغتيال الرئيس الحريري؛ فكانت الدعوة إلى الحوار لعل وعسى يمكن حل ما لم يتم حله من خلال البرلمان ومؤتمرات بيروت، التي لا تنفض. ولم يختلف الأمر كثيرا في فلسطين عنه في لبنان، فالأصل في السلطات الديموقراطية أن الحوار لا ينقطع فيها؛ وعلى عكس الدول الديكتاتورية، فإن البرلمانات هي ساحة من الكلام والحوار والنقاش المنظم، بالإضافة طبعا إلى قدرة على اتخاذ القرار بعد التفاوض حوله. وإذا كانت المجالس النيابية تتميز بأنها تعبر عن أثقال غير متساوية لأن القدرة فيها تتوقف على عدد المقاعد والقدرة التصويتية لكل طرف، فإن أجهزة الإعلام ـ خاصة مع توسعاتها الفضائية والمكتوبة في العصر الراهن ـ لا تعترف بمثل هذه الأثقال. وكذلك الحال في المجتمع المدني الذي توسع توسعا هائلا خلال العقدين الماضيين في كافة الدول العربية، واكتسب حيوية غير عادية في الأراضي الفلسطينية؛ فقد شهد حوارات لا تنقطع، ومناقشات لا تتوقف، بين كافة الفصائل والجماعات، ما كان منها أصيلا ومن كان فرعيا. فإذا كانت كل هذه الحوارات لم تفلح في حل الألغاز، وتجاوز لحظات الصدام السابقة، فما الذي يجعل حوارا إضافيا آخر يحقق ما لم تحققه الحوارات السابقة، المؤسسية وغير المؤسسية، الرسمية وغير الرسمية. وفي بدايات الحرب الأهلية اللبنانية استمعت إلى تعليق سياسي لبناني مرموق على نداء الرئيس أنور السادات المتكرر، بضرورة الحوار بين كل الفرقاء اللبنانيين، والتأكيد أن جلوس ياسر عرفات مع الرئيس سليمان فرنجية، سوف يوقف نزيف الدماء. وكان التعليق هو أن ذلك هو ما تفعله الأطراف اللبنانية طوال الوقت، حيث لا يكفون عن الحوار، ولم تفلح عشرات الجلسات بين القيادتين اللبنانية والفلسطينية في توفير نقطة دم واحدة. وفي الحقيقة أن الطابع الثقافي العربي، كثيرا ما يفرض نفسه على الحوار فيجعله أمرا مختلفا عما جرى عليه العرف في العالم؛ فالحوار في عالمنا يعني في جوهره أولا نوعا من تبادل وجهات النظر حول هدف مشترك؛ وثانيا فإنه يعني البحث عن أرضية مشتركة؛ وثالثا الاتفاق على طريقة للتفاوض والمساومة فيها يتعلق بنقط الخلاف للوصول إلى نقطة توازن ما أو منع الاختلافات من الطغيان على ما هو قابل للاتفاق. ولكن الحوارات العربية تبدأ دائما بالمبادئ والثوابت التي عادة ما يستحيل الاتفاق عليها، وبالتالي فإن الحوار يتحول إلى نوع من الجدل والمحاجاة حول أصول المسائل، ولا يسلم الأمر من قدر غير قليل من الغمز واللمز وعلو الصوت، والتهديد بالانسحاب، واللجوء للإعلام طوال فترة الحوار والطرح فيها بالحدود القصوى للقضايا. وفي كل الأحوال، فإن هناك لذة غير عادية في عملية المجادلة، ولمن لا يصدق فما عليه إلا تحمل مشاهدة حلقة إضافية من برامج الاتجاه المعاكس، وأكثر من رأى في قناة الجزيرة في قطر، حيث تجد أمثلة صافية نقية لحالات الحوار العربية، حيث تلمع عيون مع كل نقطة نقاشية، وتتورد خدود مع كل انتصار في المعارك اللغوية. في الحالة الفلسطينية، فإن الحال لا يتحمل حوارا فاشلا آخر يضاف إلى ما يجرى في المجلس التشريعي وما يجرى في الإعلام والمجتمع المدني الفلسطيني، وبالتأكيد فإن الأمر لا يحتاج حالة من «التحشيش» الفكرى على حد تعبير الرئيس محمود عباس. وبصراحة كاملة فإن النخب السياسية في العالم الثالث كله، نجحت في تحقيق استقلال أوطانها ما عدا النخبة الفلسطينية، التي بات عليها أن تتحمل المسؤولية التاريخية عما فعلته طوال العقود الماضية. صحيح تماما أن الحالة الفلسطينية حالة خاصة، والهجمة الصهيونية لا يوجد ما يماثلها في الهجمات الاستعمارية العالمية، ولكن ذلك مهما كانت قسوته لا يعفي النخبة الفلسطينية من مسؤولياتها. وذلك تحديدا ما هو مطروح على الحوار الفلسطيني المقبل، فالقضية هي التحرير والاستقلال وليس الصمود والتصدي والانتقام والتشفي؛ والسؤال يتعلق باستراتيجية تحقيق هذا الهدف القومي؛ وبقاء الأحوال على ما هي عليها ليس استراتيجية وإنما هروب، والحفاظ على حالة الحرب واللاسلم ليس استراتيجية، وإنما استطالة المعاناة وضياع الأرض؛ والموضوع ليس الثوابت غير القابلة للنقض، وإنما الممكن القابل بالتحقيق والوسائل المؤدية إليه! و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الشرق الأوسط اللندنية-31-5-2006
|