مقالات و محاضرات

 

 

  إيران:

                       المخرج الأخير إلى الدبلوماسية

 

يوشكا فيشر

 

في الآونة الأخيرة اتخذت أزمة إيران مساراً سريعاً نحو اتجاه ينذر بالخطر. ولم يعد هناك مجال للشك في أن إيران تطمح إلى امتلاك القدرة على إنتاج الأسلحة النووية. ولكن في مركز القلب من هذه القضية يكمن طموح النظام الإيراني في التحول إلى قوة إسلامية وإقليمية مهيمنة، وبهذا تضع نفسها في مصاف أقوى الدول في العالم. وهذا الطموح بعينه هو الذي يشكل الفارق بين إيران وكوريا الشمالية :

ذلك أن كوريا الشمالية لا تسعى إلى امتلاك القدرة على إنتاج الأسلحة النووية إلا لترسيخ عزلتها، أما إيران فتسعى إلى السيطرة الإقليمية وما هو أبعد من ذلك.

إن إيران تراهن على حدوث تغيرات ثورية داخل البنية الأساسية للقوة في الشرق الأوسط بالصورة التي تساعدها في تحقيق غايتها الإستراتيجية. وعلى هذا فهي تستغل إسرائيل والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنها تستغل أيضاً لبنان، وسورية، فضلاً عن نفوذها في منطقة الخليج، وفي المقام الأول في العراق. وهذه التركيبة التي تتألف من طموحات الهيمنة، والجدال بشأن الوضع الراهن في المنطقة، علاوة على البرنامج النووي، تشكل خطراً داهماً.

إن امتلاك إيران للقنبلة النووية - أو حتى القدرة على إنتاجها- لابد وأن يفسر من قِـبَل إسرائيل باعتباره تهديداً جوهرياً لوجودها، الأمر الذي يعني إلزامها للغرب، وأوروبا على وجه الخصوص، بالانحياز إلى قضيتها ومساندتها. والتزام أوروبا تجاه إسرائيل ليس التزاماً أخلاقياً تاريخياً فحسب، بل هناك أيضاً المصالح الأمنية التي تربطها بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط التي تتميز بأهمية إستراتيجية حيوية. فضلاً عن ذلك فإن امتلاك إيران للسلاح النووي سوف يُـنْـظَر إليه أيضاً من جانب جيرانها باعتباره تهديداً، الأمر الذي من المرجح أن يحرض دول المنطقة على الدخول في سباق تسلح ويغذي حالة عدم الاستقرار في المنطقة.

إن المخاطر التي تشتمل عليها هذه الأزمة هائلة، وهذا هو السبب الذي دفع ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا إلى الدخول في مفاوضات مع إيران منذ عامين بهدف إقناعها بالتخلي عن جهودها الرامية إلى إغلاق دائرة الوقود النووي. ولقد منيت هذه المبادرة بالفشل لسببين :

الأول أن العرض الأوروبي بفتح أبواب التكنولوجيا والتجارة أمام إيران، بما في ذلك الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية، لم يكن عرضاً متكافئاً مع مخاوف إيران فيما يتصل بمحاولات تغيير النظام من ناحية، وبطموحات الهيمنة الإقليمية وسعيها إلى الوصول إلى مكانة عالمية مهيبة من ناحية أخرى. والسبب الثاني أن الحرب الكارثية المشؤومة التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق جعلت قادة إيران يستنتجون أن القوة الغربية الرئيسية قد اعتراها الضعف والوهن إلى الحد الذي يجعلها تعتمد على نوايا إيران الحسنة، وأن أسعار النفط المرتفعة جعلت الغرب أكثر حذراً من أن يسمح لنفسه بالدخول في مواجهة جادة.

قد تثبت الأيام أن هذا التحليل من جانب النظام الإيراني كان مبنياً على حسابات خاطئة إلى حد خطير، وذلك لأنه سوف يؤدي على الأرجح، عاجلاً وليس آجلاً، إلى مواجهة "ساخنة" لا يمكن لإيران ببساطة أن تخرج منها منتصرة. فالقضية المركزية في هذا الصراع تتلخص في الآتي: من يهيمن على الشرق الأوسط ـ إيران أم الولايات المتحدة؟ والحقيقة أن قادة إيران يستخفون بالطبيعة المتفجرة لهذه القضية وكيفية التعامل معها من جانب الولايات المتحدة باعتبارها قوة عظمى ولا تعتزم التفريط في مستقبلها كقوة عظمى.

ومن ناحية أخرى فإن الحوار الدائر بشأن الخيار العسكري - تدمير البرنامج النووي الإيراني عن طريق غارات جوية تشنها الولايات المتحدة- لن يفضي بأي حال إلى التوصل لحل لهذه القضية. ولا توجد ضمانات لنجاح محاولات تدمير قدرات إيران النووية بالكامل. فضلاً عن ذلك فإن وقوع إيران ضحية لاعتداء أجنبي من شأنه أن يضفي الشرعية الكاملة على طموحاتها النووية. وأخيراً، فإن الهجوم العسكري على إيران سوف يشكل بداية تصعيد خطير للعمليات العسكرية والإرهابية على مستوى المنطقة، بل وربما على مستوى العالم ـ وهو كابوس لن يفلت من عواقبه أي من الأطراف المعنية.

ماذا نفعل إذاً؟ ما زالت هناك فرصة جادة للتوصل إلى حل دبلوماسي تقوده الولايات المتحدة، بالتعاون مع الدول الأوروبية، وبدعم من مجلس الأمن والدول غير المنحازة التابعة لمجموعة السبع والسبعين. ويتلخص هذا الحل في عرض "صفقة كبرى" على إيران. بموجب هذه الصفقة، وفي مقابل تعليق إيران لأنشطة تخصيب اليورانيوم إلى أجل غير مسمى، تستطيع إيران ودول أخرى الحصول على الأبحاث والتكنولوجيا في إطار هيكل محدد دولياً وتحت إشراف كامل من جانب الهيئة الدولية للطاقة الذرية. ومن الضروري أن يعقب ذلك تطبيع كامل للعلاقات السياسية والاقتصادية، بما في ذلك تقديم ضمانات أمنية ملزمة في إطار اتفاق يشمل الأمن الإقليمي.

لابد وأن يكون من الواضح بالنسبة للقيادة الإيرانية أن الثمن المترتب على رفض مثل هذا الاقتراح سوف يكون باهظاً: ذلك أن الغرب، في حالة عدم التوصل إلى اتفاق، سوف يبذل كل ما في وسعه لعزل إيران على الأصعدة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والدبلوماسية، وبدعم كامل من المجتمع الدولي. وينبغي ألا تقل البدائل المتاحة أمام إيران عن الاعتراف والأمن، أو العزلة التامة.

إن عرض مثل هذه البدائل على إيران يفترض ضمناً أن الغرب لا يخشى ارتفاع أسعار النفط والغاز. والحقيقة أن الخيارين الآخرين - صعود إيران باعتبارها قوة نووية، أو استخدام القوة العسكرية لمنعها من ذلك- فضلاً عن كل العواقب الرهيبة التي قد تترتب عليهما، من شأنهما أيضاً أن يفضيا إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز. ومن هنا سنجد إن كل العوامل تشير إلى ضرورة استخدام البطاقة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية في اللعب مع إيران.

إن إدراك الولايات المتحدة للعواقب الرهيبة المحتملة للمواجهة العسكرية وللعواقب التي لا تقل شناعة إذا ما امتلكت إيران القنبلة النووية، لابد وأن يجبر الولايات المتحدة على التخلي عن سياستها القائمة على عدم الدخول في مفاوضات مباشرة مع إيران، والتخلي عن آمالها في تغيير النظام هناك. ولا يكفي بالنسبة للأوربيين أن يتحركوا بينما يستمر الأميركيون في انتظار ما ستسفر عنه المبادرات الدبلوماسية، والمشاركة في الحوار من وراء الكواليس فحسب، وترك الأوروبيين في النهاية يفعلون ما في وسعهم بصرف النظر عما تدبر له الولايات المتحدة. بل يتعين على إدارة بوش أن تقود المبادرة الغربية في مفاوضات منسقة ومباشرة مع إيران. وإذا ما كتب لهذه المفاوضات النجاح، فلابد وأن تبدي الولايات المتحدة أيضاً استعدادها للموافقة على الضمانات المناسبة. ولسوف تشكل المصداقية الدولية والشرعية الدولية العاملين الأكثر حسماً في هذه المواجهة، وضمان هذين العاملين سوف يتطلب زعامة أميركية محسوبة وبعيدة النظر.

إن عرض "الصفقة الكبرى" من شأنه العمل على توحيد المجتمع الدولي وتقديم البديل المقنع لإيران. وإذا ما وافقت إيران على هذا العرض، فإن تعليقها للأبحاث النووية في ناتانز أثناء المفاوضات، سوف يكون بمثابة التأكيد على صدقها وإخلاصها. أما إذا رفضت إيران ذلك العرض أو أخفقت في احترام الالتزامات المترتبة عليه، فإنها بذلك تفرض على نفسها عزلة دولية كاملة، وتضفي الشرعية المؤكدة على أي إجراءات أخرى بديلة تتخذ ضدها. ومن الضروري أن تدرك إيران أن روسيا والصين لا تملكان إلا إبداء التضامن مع المجتمع الدولي في مجلس الأمن.

لكن مثل هذه المبادرة لن يتسنى لها النجاح إلا بتولي الإدارة الأميركية لقيادتها بين الدول الغربية، وجلوسها إلى طاولة المفاوضات مع إيران. وحتى إذا ما تحقق ذلك فإن الوقت المتاح للمجتمع الدولي لن يكون طويلاً. لذا، يتعين على كافة الأطراف أن تدرك أن الوقت المتاح أمام الحلول الدبلوماسية قد اقترب من النفاد.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الغد الأردنية-27-5-2006