ماذا يخفي الحجاب التركي؟
الياس حرفوش
مثل الاتجاهات التكفيرية السائدة في منطقتنا يستخدم الذين يحملون سلاح العلمانية في تركيا المنطق نفسه، عندما ينكرون أي حق على المتدينين في التعبير عن تدينهم بأية طريقة، مهما كانت بسيطة او طبيعية. انه التوجه الذي اصبح سمة في منطقة لم يعد ممكنا العثور فيها على مكان أو متسع بسيط لشيء من التسامح تجاه الآخر او للقبول بما هو مختلف. وازمة الحجاب الاخيرة تعكس جانبا من انعدام التسامح الذي نحن بصدده. فقد فجر هذه الازمة اغتيال أحد قضاة المحكمة الدستورية العليا الذي اصدر حكما منع بموجبه ترقية مدرسة الى مديرة مع أنها تلتزم بالقانون الذي يمنع ارتداء الحجاب داخل المدارس او المؤسسات العامة، غير ان الاعتراض على «سلوكها» كان لأنها تتحجب في بيتها او في طريقها الى المدرسة! وذهب هذا الحكم في تطرفه العلماني الى اقصاه، في اتجاه لم تدركه حتى قوانين الحجاب الفرنسية التي ذاع صيتها قبل بضع سنوات، ثم خفتت الضجة حولها في آخر الامر، بعد أن اكتشف الجميع انها كانت تعبيرا حقيقيا عن نزعة الى المساواة في ظل القوانين الفرنسية (العلمانية حقا) والتي لم تفرق في التعامل، على العموم، بين طالبة مسلمة وغير مسلمة. اما في تركيا فالأمر مختلف. فالمسألة لا تثار على خلفية تفرقة في التعامل مع اتباع ديانات مختلفة، في بلد اكثريته الساحقة مسلمة. بل تطرح قضية الحجاب مشكلة اخرى اكثر حدة، هي اتجاه فريق يعتبر نفسه «الاب الروحي» للنظام، الى منع أي اشهار للتدين، أيا كان شكله ومهما بلغت درجة «براءته». بمعنى انه لم يعد التحقيق في «خلفيات» وضع الحجاب يسير في اتجاهات سياسية فقط في تركيا، تتعلق بالدوافع او الانتماءات الحزبية وراء هذا المظهر الخارجي، بل صار يحاكم الناس على اشكالهم وملابسهم، وهو المدى المبالغ فيه في هذا التطرف المعادي للدين، والذي يميز الفهم «الاتاتوركي» للعلمانية. هذا التطرف هو الذي لا بد أن يؤدي في نتيجته الى تطرف من الجهة المقابلة، مما يقطع الطريق على أي حوار أو قبول بالاختلاف، وهما القاعدة في اي سلوك حضاري. ومن نتائج هذا الوضع الغريب أن طالبات جامعيات تجبرهن قوانين منع الحجاب المفروضة في تركيا على الالتحاق بجامعات اوروبية في فرنسا او بريطانيا او المانيا، حيث يسمح لهن بمتابعة دراستهن رغم الحجاب الذي يغطي رؤوسهن بينما يمنعن في بلدهن من ذلك. انه تطبيق غريب ومقلوب لأي مفهوم من مفاهيم الحرية الفردية التي لا يستقيم نظام ديموقراطي من دونها والا انقلب الى نظام ديكتاتوري. ويزيد من غرابة هذا الوضع ان رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي (المتهم بالتحريض على العلمانيين) هو أحد اكثر السياسيين الاتراك الذين يدافعون عن دخول تركيا الى الاتحاد الاوروبي، فيما العلمانيون المتحزبون لكمال اتاتورك، مثلما تحزبت المدارس الماركسية يوما ما لماركس ولينين، هم الذين يشكلون الآن الخطر الاكبر على التوجه التركي نحو ابواب اوروبا. إذ أن هذا التحزب يخفي وراءه شرارات انقلاب عسكري على المؤسسة السياسية الحاكمة، رغم وصولها الى السلطة بقوة الدستور والانتخابات. فلا شك أن تركيا هي الدولة «الديموقراطية» الوحيدة التي يجد الجيش فيها نفسه مضطرا لاعتبار نفسه «حارسا للنظام» الى حد عدم التردد في الانقلاب على مؤسساته المنتخبة، كما فعل اكثر من مرة وكما يهدد الآن من خلال الدعوة التي اطلقها رئيس اركانه الجنرال حلمي اوزكوك الى معتنقي «العقيدة» العلمانية الى النزول الى الشوارع للتعبير عن رفضهم لسياسات رئيس الحكومة الذي بذل جهدا كبيرا لجعل الانتماء الى الدين الاسلامي وجها مقبولا من وجوه الهوية التركية، بعد أن تمت محاربة هذا الانتماء على وجه غير ديموقراطي لثمانين سنة طويلة هي عمر تركيا الحديثة. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الحياة اللندنية-23-5-2006
|