مقالات و محاضرات

 

 

تفاعلات المشهد السياسي الراهن في مصر

 

حسن نافعة

 

الاحتقان الحالي في حياة مصر السياسية ليس أمرا جديداً أو طارئاً لكنه حالة قائمة ومتصاعدة منذ فترة ليست بالقصيرة. لكن الجديد في الأمر أن حالة الاحتقان هذه وصلت الآن في ما يبدو إلى درجة من الالتهاب تنبئ بالانتقال إلى طور جديد يقترب بها من حافة الانفجار. وهذا هو الانطباع الذي أوحت به في أي حال تلك المشاهد التي نقلتها الفضائيات يوم الخميس الماضي من منطقة وسط القاهرة، حيث تقع دار القضاء العالي، والصور التي نشرتها الصحف الصادرة في صباح اليوم التالي. فبدت منطقة وسط القاهرة، من خلال تلك المشاهد والصور، ثكنة عسكرية يصعب النفاذ إليها أو الخروج منها، كما بدا جنود الأمن المركزي الذين كانوا ينهالون ضرباً بالعصي واللكمات وركلات الأرجل ليس فقط على النشطاء السياسيين المتجمهرين في المكان ولكن أيضاً على الصحافيين ورجال الإعلام أثناء محاولاتهم اليائسة لتغطية حدث مثول قضاة كبار متهمين بالإساءة إلى سمعة القضاء أمام محكمة تأديبية، وكأنهم يخوضون معركة قتالية في مواجهة عدو بغيض. ولولا بعض التفاصيل الصغيرة التي ظهرت بوضوح على خلفية الصور الحية المبثوثة أو المنشورة لخيّل إلينا أنها منقولة رأساً من الأراضي الفلسطينية المحتلة وليس من قاهرة المعز!

قد يقول قائل: وما الجديد في ذلك؟ ألم تصبح التظاهرات وأعمال العنف التي تمارس ضد المشاركين فيها من النشطاء السياسيين والمتابعين لها من الإعلاميين مشاهد يومية تكاد من فرط تكرارها تتحول وقائع روتينية اعتاد عليها الناس إلى الدرجة التي لم تعد تلفت إليها الانتباه؟ ربما. ومع ذلك ففي اعتقادي أن ما جرى في القاهرة صباح الخميس الماضي اختلف عما قبله، من زاويتين على الأقل، الأولى: طبيعة الحدث وأسبابه، والثانية: طريقة الدولة في التعامل معه. فالجمهور الذي تجمع أمام دار القضاء العالي لم يقتصر هذه المرة على النشطاء السياسيين الملتفين حول شعارات حركة «كفاية»، لكنه عبر عن جماعات أوسع كثيراً كان استفزها قرار إحالة قضاة كبار إلى لجنة تأديبية بتهمة الإساءة إلى القضاء لا لشيء إلا لأنهم فضحوا بعض عمليات التزوير التي جرت أثناء الانتخابات التشريعية الأخيرة. ولم يكن هذا الجمهور المتجمع أمام دار القضاء العالي، يقف في هذا الخندق وحيداً. ففي خلفية هذا المشهد كانت حشود مماثلة في الجامعات والنقابات المهنية تتجمع للتعبير عن الموقف ذاته تضامناً مع الشرفاء من رجال القضاء، لكنها كانت بدورها محاصرة بحشود أمنية هائلة وممنوعة من الخروج والانطلاق للتعبير عن رأيها. أما الأسلوب المستخدم هذه المرة في التعامل مع المتظاهرين ورجال الإعلام فبلغ حداً يفوق الوصف من تعمد الإهانة وامتهان الكرامة وانتهاك الأعراض، وهو ما يؤكد أن الدولة لم تعد تملك في مواجهة مواطنيها المعترضين على سياساتها، وهم في تزايد مستمر، سوى أدوات القمع والقوة المفرطة.

هنا يثور سؤال أساسي: لماذا أصبح نادي القضاة بالذات هو المركز الذي تصب فيه تفاعلات المشهد السياسي الراهن في مصر؟ وتقتضي الإجابة الأمينة على هذا السؤال أن نتذكر حقيقة اساسية وهي أن المشهد السياسي الراهن في مصر هو نتاج عملية حراك سياسي بطيئة شكلتها سلسلة متعاقبة من التحديات والاستجابة تمحورت حول قضايا التحول الديموقراطي وأثمرت في البداية قبول النظام الحاكم، من حيث المبدأ، بفكرة إشراف القضاء على الانتخابات والتسليم بإجرائها على مراحل تمكينا للقضاة من الإشراف الكامل عليها. ولأن القبول بهذه الفكرة كان مجرد خطوة تكتيكية قصدت من ورائها الحكومة الالتفاف على إرهاصات الإصلاح السياسي وإجهاضها، فتصورت أن بوسعها التلاعب بالسلطة القضائية وتوظيفها للعب دور شاهد الزور على انتخابات غير نزيهة تلاعبت بنتائجها على الدوام. ولأن الانتخابات التشريعية للعام 2000 كانت الأولى التي جرت على مراحل وتحت الإشراف الإسمي للسلطة القضائية، فتحولت إلى تجربة غنية بالدروس المستفادة تعلم منها القضاة كيف يسدون الثغرات التي تنفذ منها الإدارة لتزوير نتائج أصبحوا مسؤولين عنها رسمياً وقانونياً أمام الشعب.

وفي سياق التفاعلات الناجمة عن عملية الحراك السياسي هذه راحت جهود نادي القضاة تتمحور تدريجاً حول مطلبين أساسيين، الأول: إخضاع العملية الانتخابية برمتها، بدءاً بإجراءات التسجيل في الكشوف الانتخابية وانتهاء بمسئولية الإعلان عن نتائجها، مروراً بالسيطرة على الأجهزة الأمنية المشرفة على تنظيم سيرها (وليس فقط لجان أو صناديق الاقتراع)، للإشراف القضائي الكامل والمنفرد. الثاني: إصدار قانون خاص يعيد تنظيم الهيئات القضائية على أسس تضمن استقلال السلطة القضائية استقلالاً تاماً ويمكنها من أداء واجبها كطرف محايد ومتوازن وضامن للشرعية والعدالة. ولم تكن الحكومة سعيدة بهذا التطور بالطبع. ومع تصاعد مطالب القضاة، كما عبرت هيئتهم الوحيدة المنتخبة من جانب عموم القضاة، ممثلة في مجلس إدارة النادي، راحت الحكومة تضغط على المجلس وتوجه إليه اتهامات بالعمل على تسييس القضاء لحساب تيارات وتنظيمات سياسية بعينها. ولم يقم هذه الاتهامات على اي أساس من الصحة. فالواقع أنه لم يثبت وجود أي صلات تنظيمية بين ما كان يجري من على الساحة القضائية من تفاعلات وما شهدته الساحتان السياسية والنقابية من تفاعلات مماثلة، على رغم شيوع القلق والمخاوف بسبب تردي الأوضاع على المستويات كافة.

ولأنه كان يستحيل عزل القضاة تماماً عن روافد حركة وطنية أصبحت تلتقي جميعها حول مطالب الإصلاح السياسي، فكان من الطبيعي أن يتفاعل جمهور القضاة إيجابياً وتلقائياً مع هذه الحركة، ولكن بطريق غير مباشر. ساعد على ذلك أمران، الأول: صحوة المجتمع المدني، والقضاة جزء منه، وتزايد مطالبه الضاغطة من أجل الإسراع بوتيرة الإصلاح السياسي والتحول الديموقراطي، خصوصاً بعد نزول حركة كفاية إلى الشارع رافعة شعار «لا للتمديد... لا للتوريث». الثاني: تجاوب النظام، ولو شكلياً، مع بعض هذه المطالب، خصوصاً بعد قرار الرئيس مبارك تعديل المادة 76 من الدستور. وفي سياق التفاعلات التي خلقتها موجات متعاقبة من التحدي والاستجابات الجزئية والمشوهة، بات من الصعب على نادي القضاة أن يقبل تحوله إلى دمية تستخدمها الحكومة لإلهاء الجماهير وامتصاص غضبها، وأن يقبل بدور شاهد الزور على انتخابات مزيفة.

لم يكن غريباً، وسط هذا الجو المشحون، أن يتطوع قضاة بارزون شجعان بالحديث علناً في وسائل الإعلام عما شاهدوه من عمليات تزوير في الانتخابات التشريعية الأخيرة وأن يشكل نادي القضاة لجنة لتحري حقيقة ما جرى فيها. وكان هذا هو السياق الذي تفجرت فيه الأزمة الراهنة بين الحكومة ونادي القضاة، حيث راحت أطراف في الحكومة توجه الاتهامات جزافاً إلى مجلس إدارة نادي القضاة بالعمل لحساب جماعة محظورة، ويرد الطرف الآخر باتهام الحكومة بالتغطية على المتهمين بالتزوير. ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يلتحم نادي القضاة التحاما طبيعيا بالحركة الوطنية المطالبة بالديموقراطية في مواجهة نظام يعمل على تكريس الفساد والاستبداد في كل المواقع.

وفي تقديري أن عوامل عديدة باتت تدفع بنادي القضاة إلى صدارة الحركة الوطنية المصرية في هذه المرحلة المصيرية بنقل مطالبه من الفضاء المهني أو الفئوي الذي بدأت به إلى الفضاء الوطني العام الذي انتهت إليه الآن. من هذه العوامل: 1- تمسك مجلس الإدارة الحالي، باعتباره الممثل الشرعي الوحيد الممثل لجمهور القضاة في مصر والمنتخب من أعضاء الهيئات القضائية على اختلاف أنواعها كافة، باستقلال السلطة القضائية من منطلق أن الاستقلال هو الضامن الحقيقي والوحيد لهيبة وكرامة القضاء. 2- التفاف جمهور القضاة حول المطالب والمواقف الشجاعة التي اتخذها مجلس إدارتهم المنتخب، وهو ما تجلى بوضوح تام أثناء انعقاد الجمعيات العمومية العادية والاستثنائية التي عقدت بالقاهرة والاسكندرية، خصوصًا في أعقاب الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة. 3- ازدياد اللحمة والتماسك بين القواعد والقيادات المنتخبة، خصوصًا بعد الإجراءات الانتقامية العنيفة التي قررت الحكومة اتخاذها لمعاقبة وتأديب عدد من المتزعمين للحركة القضائية. ومن شأن هذه العوامل مجتمعة أن تساعد على إبراز نادي القضاة باعتباره المجسد الطبيعي لمطالب حركة وطنية تطمح في تأسيس دولة القانون، وهو ما يفسر تضامن كافة الفصائل الأخرى المطالبة بالتغيير والالتحام مع القضاة المضطهدين في مشهد لافت وغني بالدلالات.

إن المحاولات المستميتة لإظهار ما يجري وكأنه خلاف داخلي بين الهيئات القضائية لا دخل للحكومة فيه، تبدو ساذجة تماماً. فالواقع أن الشعب المصري يدرك تمام الإدراك أن النظام الحاكم يخشى من انتفاضة القضاة ويعي خطورتها عليه، وبالتالي فمن الطبيعي أن يسعى جاهدا لشق صفوف حركتهم وضرب تماسكها من خلال استقطاب بعض العناصر التي قبلت التستر على محاولات التزوير التي انفضحت بالفعل ولاكتها الألسنة في كل مكان. ولأن هذه العناصر باتت مكشوفة تماماً، سواء لجمهور القضاة أو لنشطاء المجتمع المدني، فمن الصعب أن تكون لهم الكلمة النهائية والفاصلة في هذه الملحمة. ومن الواضح أن فصائل الحركة الوطنية المطالبة بالتغيير في مصر بدأت تدرك، خصوصًا في ظل انهيار الأحزاب السياسية الرسمية، ان نادي القضاة أصبح هو المركز الذي يتعين أن تصب فيه مجمل تفاعلاتها، باعتباره المجسد الأكثر مصداقية في هذه المرحلة التاريخية عن أهم طموحاتها وأشواقها، وعليها بالتالي أن تتوحد وتصطف خلفه. ورغم أنني على يقين من أن المتزعمين لانتفاضة القضاة لا يسعون لأي دور سياسي أو يبحثون عن بطولات زائفة، إلا أنني أعتقد أن قطاعات عريضة من الشعب باتت ترى فيهم الزعماء الطبيعيين والمؤهلين لقيادته في هذه المرحلة الحساسة.

فهل نبالغ، في سياق كهذا، إذا قلنا إن الدور الذي يلعبه نادي القضاة على المسرح السياسي في مصر الآن يشبه إلى حد كبير الدور الذي لعبه نادي ضباط القوات المسلحة في حياة مصر السياسية قبيل اندلاع ثورة 1952. لا أظن ذلك، فالتشابه بين الدورين هو من الوضوح بحيث لا تحتاج رؤيته إلى عين خبيرة!. المثير في الأمر أن أيا من هاتين المؤسستين، أي نادي الضباط ونادي القضاة، لم يخطط أو يسعى أو يطمح للعب أي دور سياسي مباشر في أي مرحلة من المراحل. فالواقع أن تطور الأوضاع المجتمعية في مرحلتين مختلفتين تماما من حياة مصر السياسية هي التي حولتهما إلى وعاء تصب فيه تفاعلات الحركة الوطنية الثائرة على نظام حكم أصابه الترهل وفقد شرعيته ومبررات وجوده، وإلى رمز تأنس له وترتاح إليه وتطمئن إلى صدق تعبيره عن مجمل أشواقها وطموحاتها. وكما أصبح الجيش، خصوصًا بعد حريق القاهرة في كانون الثاني (يناير) 1952، هو مركز تفاعلات القوى الراغبة في تغيير نظام ما قبل تموز (يوليو)، أصبح المجتمع المدني، خصوصًا بعد اتضاح نية التوريث وانطلاق حركة كفاية، هو مركز تفاعلات القوي الراغبة في تغيير الأوضاع الراهنة والنظام الذي يعبر عنها. ولأنه كان من الطبيعي أن يتحول نادي الضباط إلى ساحة مثلى لإدارة الصراع بين القوى الطامحة للتغيير والقوى الرافضة له في مرحلة بدت فيها القوة المسلحة هي أداة التغيير المتاحة لإسقاط النظام القديم، فكان من الطبيعي أيضا أن يتحول نادي القضاة إلى ساحة مثلى لإدارة الصراع بين القوى الطامحة للتغيير والقوى الرافضة له في مرحلة يبدو فيها القانون هو الأداة الوحيدة المتاحة لإحداث التغيير المنشود.

كاتب مصري.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الحياة اللندنية-17-5-2006