مقالات و محاضرات

 

 

العرب يقرأون علامات الأزمنة بعين واحدة

 

د. محمد الرميحي

 

خلق الله في الانسان فماً واحداً وانفاً واحداً، وخلق له عينين وأذنين، ربما ليضاعف البصر والسمع، والانسان العربي خلق له مثل ما خلق للآخرين، انما زاد على ذلك بان حضاه بمعلًقين وكتاب في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة، أكثرهم يُصر كل يوم على ارغامه بان يسمع بأذن واحدة، ويرى بعين واحدة الأحداث الساخنة المحيطة به.

ولضرب المثل فان هناك قضيتين تداولتا في الأسابيع الأخيرة في وسائل اعلامنا، وكان لمعظم من كتب أو تحدث فيهما رؤية أراد لنا من خلالها أن نرى جميعا بعين واحدة، أما تجاهلا واما جهلا, القضية الأولى مقارنة الانتخابات الفلسطينية بالانتخابات العراقية، والثانية ما يحدث من أزمات في الحلبة السياسية الغربية (أوروبا)، خصوصا أزمة الحكم في بريطانيا والتغيير الذي تم في ايطاليا، ويربطه بأحداث عربية، فيقرر بقطعية يحسد عليها أن تلك الأحداث السياسية على الجانب الغربي، هي عقوبات لا غير على ما يرتكبونه من سياسيات خاطئة تجاهنا!

في المقارنة بين الانتخابات الفلسطينية والانتخابات العراقية، نجد أن معظم ما نقرأ لا يخرج عن القول أن الانتخابات الفلسطينية كانت انتخابات حرة ونزيهة، ونتج عنها وصول قوى سياسية هي «حماس» التي يفضلها الشارع الفلسطيني لتقوده في هذه المرحلة من مراحل نضاله المشروع، وذلك كله حق، ولكن التحليل ذاك يضيف، أن هناك عقبات تقف أمام هذه القيادة السياسية الجديدة وهي عقبات تعبر عن «صلف» الغرب بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، ذلك الموقف يحول دون أن تقوم الحكومة الحماسية بدورها المرتقب والمرجو, لذا، يضيف التحليل، أن هذا الغرب يسقط في اختبار أخلاقي ذريع، فمن جهة يطالب بديموقراطية وصناديق انتخاب، ومن جهة يحجر على من انتخبهم الشارع الفلسطيني أن يقوموا بدورهم.

ومن جهة أخرى، ينتقدالأشخاص انفسهم تقريبا بمرارة الانتخابات التي تمت اخيرا في العراق، ويصف تلك الانتخابات، التي سعى اليها نحو ثمانية ملايين عراقي،أنها تمت تحت نير الاحتلال، فهي، من وجهة نظر ذلك التحليل، لا تساوي ثمن الورق الذي صوت به الناخبون العراقيون.

في هذا المنظور التحليلي غير المتوازن، يرى ذلك البعض بعين واحدة فقط، فهم لا ينتبهون، أو لا يريدون أن ينتبهوا، أن المقارنة لا تتفق مع العقل، فأن كانت مثالب التصويت العراقي في الانتخابات الأخيرة أنها تمت تحت «نير الاحتلال الاميركي» فان الانتخابات الفلسطينية تمت تحت «نير الاحتلال الاسرائيلي»، والذي ربما يكون أكثر صلافة وقسوة، لانه منع بعض الفلسطينيين في أماكن عديدة حتى من الاقتراب لصناديق الانتخاب من اجل التصويت لمرشحيهم؟ فكيف يتسنى لنا القول أن هنا انتخابات «حرة ونزيهة» وهناك غير ذلك؟!

لا يعني هذا القول أن الموقف الغربي من نتائج الانتخابات الفلسطينية هو موقف مقبول، ولكن يعني أن المقارنة هي التي تقع تحت طائلة اللاعقلانية, الموقف الغربي المعلن من نتائج الانتخابات الفلسطينية له دوافع أخرى (غير عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات) بل له علاقة بشروط الحكم العقلاني، فأي حركة سياسية لا تستطيع أن تشكل «المعارضة والحكومة» في الوقت نفسه, ولعل ما كثر الحديث عنه في الأسبوع الماضي والخاص باكتشاف أسلحة مهربة للأردن، قامت بها بعض «فصائل حماس» يكشف عن بعض ذلك التناقض، ويشكل المعضلة التي سوف تبقى معنا لفترة وتتجلى في أشكال عديدة،حتى يبدأ العقلاء بمناقشة المعضلة على رؤوس الأشهاد، وحتى لا تسقط «حماس» في بعثرة المجهود الفلسطيني بين داخل وخارج، وبين غرف مغلقة وميكرفونات مفتوحة، وبين اشتباك وهدنه بين الفصائل المختلفة، وهناك خيارات سياسية متاحة لحكومة «حماس» يبدو أنها تفرط بها، اقلها التمسك العلني بالمبادرة العربية، من بين خيارات أخرى.

ليس في الأمر خيار لتوصيف الواقع فهناك احتلال اسرائيلي صلف وقامع للفلسطينيين، هذا أمر واقع ويومي، الا أن الخيار السياسي هو اما السعي، مع المجتمع الدولي، لدحر هذا الأمر واما التخفيف منه، واما خلق الظرف الموضوعية لزيادته صلفه وتبريره أمام العالم، في عصر يعرف الجميع أنه عصر يحتاج الى قوتي العقل والمنطق والحشد، كما يحتاج الى قوة المقاومة، التي قد تأخذ أشكالا مختلفة حسب الظروف المتغيرة.

على المقلب الآخر يريد بعض المحليين أن يفهمونا أن ما حدث من نتائج انتخابية في ايطاليا بخسارة بيرلسكوني ونجاح غريمه السياسي، أو الصعوبات التي تواجه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، هي نتاج موقف واحد وحيد هو «موقف حكومتيهما» من احتلال العراق! وهو أمر عندما يقرأه المواطن العربي الفطن يشعر أن هناك توجها مسبقا للتسطيح والتضليل, حتى لو افترضنا أن عامل «الحرب على العراق» له بعض التأثير في ما حدث في ايطاليا وما يحدث في بريطانيا، الا أن بعض التأثير هذا لا يتجاوز نسبة ضئيلة من أسباب الأحداث التي خسرت بيرلسكوني الانتخابات، أو التي تواجه بلير, وهناك أزمات مشابهة تواجه جاك شيراك في آخر اعوام حكمه، كما واجهت السلطة الألمانية السابقة، أي ألمانيا وفرنسا اللتين لم تشاركا في حرب العراق!

هناك ديموقراطية غربية تعمل بالآليات الساعية للتغيير والتجديد، وهناك عناصر داخلية في تلك المجتمعات تتصادم وتختلف، أساسها اقتصادي ينتج عنها التغيير المطلوب سياسيا .

في الحال البريطانية وضوح أكثر يقنع العاقل بعدم تلازم ما يحدث بالحرب على العراق، فقد خاض حزب العمال بزعامة السيد توني بلير انتخابات عامة منذ أكثر من عام فقط، وحصل على غالبية مريحة في البرلمان الحالي، ولو كان الناخب البريطاني يريد أن يعاقب حزب العمال والسيد بلير على ما قام به في العراق، لكانت نتائج الانتخابات تلك قد أظهرت ذلك الغضب، فقد خيضت بعد الحرب بما يقارب العام، وكانت أخبار الحرب ساخنة ومقصدها ضبابي أكثر منه الآن.

ينسى بعض المحللين أو يتناسون أن المجتمعات الغربية تمر بمرحلة «فوق ديموقراطية» أن صح التعبير، وهي التي تعني انه حتى لو تسنى لزعيم خوض انتخابات ناجحة، أو حتى تحقيق نصر مؤزر في حرب (كما حدث لونستون تشرشل بعيد الحرب الثانية أو للسيدة مارغريت تاتشر بعد حرب الفوكلاند) فان الشعب يضيق بالزعامات الدائمة, لهذا السبب النفسي ربما قرر رجال التأسيس الاميركي، بعد فترة قصيرة من تجربة، الرئاسات التي ليس لها سقف زمني، أن يحددوا السقف الزمني للرئيس الاميركي بأعوام ثمانية متعاقبة لا غير!

مثل تلك التحليلات التي يقرؤها البعض على أنها حقيقة كاملة ونهائية، تغري المتلقي العربي بان ينظر بعين واحدة، وتوظف على غير ما هو حقيقي وواقعي، والانكأ من ذلك كله أن يصدق بها المسؤول العربي ويرتاح اليها، وهي مبنية على وقائع متخيلة وتكيف مصلحي، وسوء قراءة في علامات الأزمنة، فيتكئ عليها في اتخاذ قراراته، كونها حقائق غير قابلة للجدل.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: جريدة الرأي العام الكويتية-17-5-2006