مقالات و محاضرات

 

 

إقصاء السياسة نحر للديموقراطية وتقويض لمفهوم الدولة

 

ماجد الشيخ

 

الديموقراطية منظومة قيم قانونية وحقوقية ينظمها عقد اجتماعي سياسي وثقافي يقوم على احترام التعددية ونبذ الاحادية الاستبدادية، وكما كانت على الدوام فهي مجموع القيم وحاصل خبرة وتجربة الناس ومسارات سلوكهم. ولم تتأسس الديموقراطية كمفهوم أيديولوجي، قدر ما اكتسبت جوهرها ومضامينها بالممارسة والتجربة الانسانية. فهي كمفهوم ثقافي ذات أبعاد اجتماعية سياسية، تلازمت مع منظومة حقوق قانونية، في إطار تعاقدي اجتماعي ثقافي مازال يؤسس لثقافة الديموقراطية في كل زمان ومكان.

ولهذا فإن البناء الديموقراطي لا يمكن له أن يستقيم، أو يستمد شرعيته، من قرارات فوقية أو شكلية استناداً إلى طلب خارجي، من دون الطلب الداخلي ومدى مطابقته لخصوصيات واحتياجات وقدرة المجتمع المحلي وقابليته للتطور وتطوير مسارات حياته وفقاً لحاجاته، ومن دون أن يترافق كل ذلك مع البنية الثقافية، كمساهم أول في إرساء أساساتها، ومواصلة بناء مداميكها وتطويرها، وسط بنية اجتماعية تتماسك هي الأخرى، ويتماسك معها ديموقراطيون حقيقيون، يشكّلون البنية الأساس لخيارات الناس، ونموذج الاختيار الحر المباشر بما يدعّم الحرية الفردية والاجتماعية على حد سواء.

ومن دون قيم الحرية لا تقوم قائمة للديموقراطية، ومن دون ديموقراطية لا تقوم قائمة للسياسة، ومن دون سياسة ديموقراطية لا تقوم قائمة لتراتبية السلطة ولتداولها، ومن دون تداول للسلطة لا تقوم قائمة للديموقراطية. ومن دون كل ذلك لا تقوم قائمة للدولة. فإقصاء السياسة عن الحياة السياسية والحزبية إقصاء لمفهوم الدولة، وإحلال للمفهوم الاقطاعي واحتلاله الفضاء العام. في حين يذهب تماهي السلطة والمعارضة في عملية إقصائهما للسياسة إلى خلق أزمة قيم، تمتد آثارها لتطال المجتمع، في قطيعة حادة مع قوى المجتمع على اختلافها، مما يدفع إلى انفلات صمامات أمان الموروثات العنفية وانفجارها، كونها رد فعل طبيعي وناتج تراكمات تاريخية من قبل السلطة على إختلاف مواقعها في مواجهة سلطات أخرى نقيضة، متحققة وغير متحققة تستشعر مخاطرها مسبقاً.

وما جرى في حزب الوفد المصري أخيراً من ممارسة عنفية، تجلت في انفجار أزمته الداخلية، مؤشر إلى هشاشة البنى الحزبية في الواقع العربي عموماً وانعكاس لأزمات تعيشها هذه البنى في دواخلها وبين أطرافها، وفي خارجها بين أطراف الحياة السياسية الحزبية بشكل عام ومن ضمنها السلطة، أزمات تكوينية في الأساس لم يقو النظام الداخلي للحزب ولا الأنظمة الداخلية الناظمة للحياة الحزبية خصوصاً وللحياة السياسية عموماً، أن تقدّم حلولاً ناجعة لها. فالأزمات المتراكمة في افتقادها وافتقارها إلى مسارب ديموقراطية جدية وحقيقية، لا يمكنها أن تقود إلاّ إلى أشكال من التصادم العنفي، أو إلى أشكال موازية من التصادمات الانشقاقية، في سياق التصارع أو التنازع على السلطة الداخلية، فيما هي تضمر أشكالاً أوسع من عنف التنازع على السلطة مع الاحزاب الاخرى، أو حتى مع السلطة الحاكمة نفسها.

غياب المسارب الديموقراطية الداخلية، لا يعكس في تجلياته إلاّ الغياب الأكبر للديموقراطية، كممارسة حياة وكمنهج عمل تثاقفي متبادل بين أطراف العقد الاجتماعي والحزبي والسياسي. وبالعنف أو الانشقاق والتسلط، نكون قفزنا خطوات إلى الوراء، نحو تكريس ما يستجلبه التخلف، ونحو تأبيد ما تبتغي السلطة ادامته من مسلكيات الخضوع لأواليات الغريزة.

وما الردة التخلّفية التي تشهدها النخب السياسية الحاكمة والمحكومة، سوى المؤشر الابرز إلى انحطاط في مسارات ومسلكيات هذه النخب، في استعادتها «مجد الهمجيّة»، وإلاّ ما معنى أن يتنزّل العنف السلطوي الاستبدادي من «علياء» الدولة/ السلطة إلى أروقة بعض الاحزاب، بل ويتسرّب إلى ثنايا المجتمع السياسي والمدني، حيث ثقافة العنف لا تفرّق بين سلوك عنفي وارد ومتنزّل من فوق، وعنف صادر في انتشاره الافقي من تحت، ما دامت منظومة العنف واحدة، وإن تعدّدت مصادرها، واستندت مبرراتها إلى حال الفوضى الايديولوجية، وحال التزييف في استطالتها وعي الذات الفردي ووعي الذات الاجتماعي على حد سواء.

هكذا بتنا أمام واقع عنفي تحكمه البلطجة، بديلاً لما ينبغي أن يُحتكم إليه في أروقة الدولة وأحزابها ومجتمعها من قوانين وآليات تنظيمها للحياة السياسية والحزبية. وقد ذهبت الديموقراطية ذاتها ضحية ممارسة سياسية وحزبية معاكسة ومناهضة للحرية. فيما ذهبت الاحزاب أو بعضها إلى ممارسة أشكال من البلطجة أصبحت تبزّ فيها بلطجة السلطة واجهزتها الساعية إلى الحفاظ على ركود وتحجّر الحياة السياسية، وتحويل الاحزاب إلى تابع من توابع هذه السلطة وأجهزتها وحزبها الحاكم وميليشياتها و «جبهاتها الوطنية». الأحزاب ذاتها هي الضحية الابرز لأشكال البلطجة تلك، فماذا يتبقى إذن من الحياة السياسية أو الحزبية، إذا كانت الديموقراطية ومن يتحتم عليهم التزام قيمها وضوابط وآليات اشتغالها، يقومون بنحرها بكل هذه البساطة، بساطة التنازع على الحزب من داخله، وبساطة التنازع على السلطة من خارجها، وبسيوف من خشب وبجماهير على شكل فزّاعات وسط حقول التصحّر الذاتي؟

إقصاء السياسة هو النحر المعلن للديموقراطية. وإقصاؤها من داخل السلطة أو في داخل الحزب أو في المجتمع، هو نحر مضمر لا يستهدف سوى ديمومة استبدادية السلطة وديمومة أحاديتها ورهن استمراريتها بنحر الديموقراطية، كونها العملية البغيضة لكل أولئك الذين يتشبثون بكل ما يعاكسها ويناهضها من آليات الحفاظ على سلطتهم، والاحتفاظ بمفاعيل ممارستها ومصادر إشاعتها وتكريس استبداديتها وأحاديتها لمصلحتهم ولمصلحتهم فقط.

لهذا فإن التعددية السياسية/ الحزبية في بلادنا وفي دول العالم الثالث بشكل عام، لم تتأسس كخيار استراتيجي في اعتماد الديموقراطية. فالنخب التي هللّت للتعددية، لم تربط ممارستها الديموقراطية بمستلزماتها الضرورية، الملازمة لها أساساً كخبرة تراكمية، وصولاً إلى الحرية وتداول السلطة، وجملة الحقوق الاساسية التي يكفلها عقد اجتماعي/ سياسي/ ثقافي يقوم على قواعد ومعايير الانضباط للروح والذات الاجتماعي لمجتمع مواطنين أحرار، تحترم فيه حقوق الأفراد، وتصان القوانين الاساسية الناظمة للحقوق والواجبات، بل بقيت السلطة حتى في ظل التعددية السياسية واحدة أحادية في هيمنتها على مقدرات الدولة والمجتمع. حتى الاشكال التعددية، السياسية/ الحزبية التي عايشناها عبر العقود الاخيرة لم تعبر عن جوهر ومضامين العملية الديموقراطية، إنما استندت إلى «مبدأ» تحديث السلطة من دون حداثتها، و «المبدأ» ذاته انسحب على أشكال من التحديث الاقتصادي والتعليمي، من دون المساس بثوابت نهج التخلف والرثاثة التي احتكم إليها الاقتصاد الريعي ومناهج التعليم، في احتكامها إلى آلية توظيف خدمت السلطة وتوجهاتها، في الإبقاء على روح القيم والاخلاقيات المهيمنة والسائدة في مجتمعاتنا منذ مئات القرون.

وكل ذلك بحسب راي  ماجد الشيخ  في المصدر المذكور .

المصدر : الحياة اللندنية – 13-5-2006