إيران والعودة إلى المستقبل!
محمد الرميحي
يكثر هذه الأيام الحديث عن إيران و ملفها النووي الذي بات أحد أهم إنشغالات الساسة على المستويين الدولي و الإقليمي و في هذا السياق كتب الكاتب الكويتي محمد الرميحي مقالاً بعنوان إيران و العودة إلى المستقبل. يفتتح مقاله قأئلاً: كيف تكون العودة إلى المستقبل؟ أليس ذلك تعبير متخالف في المعنى؟ هو كذلك، كما هي مسيرة الثورة الإيرانية. لعل أهم ما يميز هذه الثورة الإيرانية منذ أن قامت حتى حينه هو التغيير المفاجئ وغير المتوقع. لم يكن احد يتوقع أن ينفرط حكم الشاه محمد رضا بهلوي بهذه السرعة وبهذا التوجه. لقد قال عنه الرئيس الأميركي جيمي كارتر، فقط قبل شهور من سقوطه، انه واحة «الاستقرار في الشرق الأوسط». ومع ذلك لم تمر شهور حتى كان الرجل العجوز قائد ائتلاف لم يأتلف من قبل، من الإسلاميين والليبراليين واليساريين في سدة الحكم والسلطة. ومقارنة مع كل الثورات السابقة فقد شارك في الثورة الإيرانية ما يقارب عشرة في المئة من الإيرانيين، إذا قارنا هذا العدد بمن شارك في الثورة الأميركية عام 1776 والفرنسية عام 1789 والروسية 1918 فإن جميع هذه الثورات لم يشارك فيها أكثر من واحد في المئة من المواطنين. فهي إذاً اكبر ثورة شعبية في القرن العشرين وما قبله. أما إذا قارناها «بالثورات» التي شارك فيها اقل من واحد من عشرة في المئة من العسكر... فلا مقارنة! و عن الأسباب الداخلية للثورة الإيرانية يقول الكاتب: لم يكن الشاه رجلاً غائباً عن البصيرة، إلا أن السلطة المطلقة غيبته حتى أصبح بعيداً عن كل ما يجري في إيران، وأصبح التغريب الذي سار في ركابه سُبة في جبين كل سياساته، ويبدو أن الغياب عن الشارع يكرر نفسه بشكل آخر بعد أربعة عقود تقريباً من إرهاصات الثورة الكبرى. لقد تسببت الثورة الإيرانية بتغيير جذري وضخم في البناء الاجتماعي لإيران، محوّلة التوجه الغربي الذي ساد منذ تسلم رضا شاه السلطة في وسط العشرينات من القرن الماضي إلى عكسه، وأرسلت الثورة قشعريرة عالمية، وخصوصاً في الشرق الأوسط «المسلم»، بأهمية شعارات الدين في الانقلاب على الواقع المتردي أو الذي يمكن رسمه لدى كثيرين بأنه مترّدٍ، إلا أن هذه المسيرة «العكسية» لم تقف على ارض سياسية صلبة، أو تصور مغاير للاقتصاد أو تغيير في سياسة «الجوار» رغم بعض المحاولات منذ رفسنجاني حتى خاتمي. و بعد هذا يصل الكاتب إلى التاريخ الأحدث للثورة الإيرانية و هو عهد الرئيس خاتمي فيقول: فترة السيد خاتمي في «السنوات الثماني التي بدأت كأنها سمان» انتهت على أسوأ مما بدأت به، في الموضوع الاقتصادي أولاً ومن ثم في بقية مجالات التنمية. لقد تسلم خاتمي رئاسة الجمهورية، لكنه لم يتسلم السلطة. بقيت السلطة في يد المرشد ومن بقربه، فغياب المؤسسة هنا يذكرنا بغيابها لدى الشاه المركزي، رغم المفاجأة التي استبشر بها كثيرون عند الانتخاب الأول لخاتمي الذي حمل عشرين مليون صوت من أصوات الإيرانيين، ضد احد أعمدة الحكم التقليدي وقتها ناطق نوري. وعلى رغم هذا التصويت العارم إلا أن المقربين من خاتمي كانوا يعرفون أن إبحارهم في اليم الإصلاحي لن يطول ولن يصل إلى ضفاف، وقد كان لخاتمي خطاب مشهور قال فيه أن حكومته تواجه «أزمة ما» كل تسعة أيام! وثم يتطرق الرميحي إلى إلى الإنتخابات الرئاسة الإيرانية الأخيرة و ما حملته من مفاجئات حسب رأية فيقول: وعلى طريقة الثورة الإيرانية كانت انتخابات عام 2005 مفاجأة جديدة، فقد كان كل الرهان إما على رفسنجاني وأما على محمد باقر قاليباف (النساج)، ليصبح رئيساً سادساً للجمهورية، فكان أن اخترق ذلك ابن الحداد البسيط في ممارسة الحياة وممارسة السياسة ليصبح رئيساً سادساً للثورة الإيرانية، وكان تياره (البنائيين) نتاج الحريات التي اتاحها عهد خاتمي. فترة خاتمي تركت آثاراً ثلاثة ايجابية، الأولى أنها راكمت احتياطياً مالياً، وصرفت على البنية التحتية، وأرادت أن تحقق حريات واسعة في الانتخابات، خلفت نقيضها. المفاجآت هي مسار متوقع، اذ فقد الناس في إيران رهانهم على «الإصلاح» وقرروا ربما أن يعوضوه بـ»نظافة اليد». لقد توفى الخميني ولم يترك شيئاً خلفه من حطام الدنيا، وما لبث كثير ممن خلفهم في الحكم حتى اغتنوا إلى قمة رأسهم، فأصبح الفساد والفشل الاقتصادي هما السمة السائدة في الحياة السياسية، تلاها بالطبع القمع، لذا التفت رجل الشارع إلى الأكثر نظافة، يذكره بالمؤسس، لكن وربما «الأقل قدرة على الإدارة» وهي معادلة صعبة، بل تشكل معضلة في الحكم في عالم ثالث ينوء تحت تخلف طويل. و عن أسباب التعنت و التششد الإيراني (حسب رأيه) في الملف النووي يقول الكاتب: من هنا فإن المعركة الدائرة اليوم حول «امتلاك إيران للقدرة النووية» تبدو في جزء كبير منها صرف نظر عن الاستحقاقات الاقتصادية والسياسية المطلوبة، شعار خاتمي في «الحريات والحقوق المدنية، والحوار بين السياسة والدين» اختفى، ورغبة رفسنجاني في تنشيط الاقتصاد تلاشت، بقي الصراع مع الغرب على قاعدة معركة «كسب المعرفة النووية» و»الوقوف في وجه الشيطان الأكبر»! و عن مدى قدرة إيران على إنتاج الشلاح النووي و نيتها لفعل ذلك يقول الكاتب: لا توجد وثائق تجعل المراقب يقرر بشكل قاطع بين ادعاء إيران بأنها تسعى الى امتلاك قدرة نووية سلمية وبين ادعاء آخرين بأنها تسعى الى امتلاك قدرة إنتاج «سلاح نووي»، إلا أن المؤكد أن المعركة هذه ليست جديدة. فقد قدمت الولايات المتحدة، وقت الصفاء مع الشاه، برنامجاً نووياً تعليمياً لإيران، لكنها سرعان ما سحبته وتراجعت عن المساعدة لسببين: الأول توجه لمسته لدى الشاه بالتطوير «الخطر» لهذه المقدرة، والثاني خوف تأكدت صحته بعدئذ، بأن مثل هذا السلاح، اذا تم إنتاجه، يمكن أن يقع في أيدٍ «معادية»! حتى الموقع الجغرافي «بوشهر» كان موقعاً اختارته إدارة الشاه ولم يُخترع في ايام الجمهورية. السلاح الذي جربته إيران أخيراً في مياه الخليج يدل الى سلبية ارادتها رغم ان المعلن انها تريد أن تكون ايجابية، فليس هناك «عالم ثالث» استطاع حتى اليوم اختراع سلاح باهر، خصوصاً إذا تذكرنا أسلحة حاول آخرون في المنطقة أن يتفاخروا بها وجاءت وبالاً عليهم، اذ لم تكن كما قيل عنها، واستخدمها الغرب ذريعة لإقناع الرأي العام عنده بـ»خطورة» تطوير أسلحة هجومية، وهذا ما يحدث اليوم تجاه سلاح إيران الذي يضخم الغرب المخاوف منه! إذا أضفنا إلى ذلك أن تخصيب اليورانيوم في روسيا، وهو الاقتراح المقدم على الطاولة، ارخص في الكلفة واقل قدرة على التحول الى سلاح، وضعت أمامه عقبات إيرانية زادت الشكوك، فإن الجهد المبذول اليوم من جانب إيران قد يفسر انه صرف الأنظار عن الاستحقاقات الداخلية المتعاظمة. ثم يكتب الرميحي عن أسباب إثارة الملف الننوي في فترة أحمدي نجاد مجدداً بعد ما كادت ان تذهب إلى ارشيف ملفات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عهد خاتمي, فيقول: والاستحقاقات كثيرة، إذا عرفنا أن أكثر من نصف الشعب الإيراني، البالغ سبعون مليوناً تقريباً، هم إما ولدوا بعد وصول السيد الخميني إلى طهران (1979) أو نضجوا بعد ذلك، وفهمهم للحياة قبل الثورة يعتمد أكثر على التخيل المريح منه على الخبرة المباشرة. نسوا الفساد والفوارق في الدخل، ويتذكرون التواصل مع العالم والاستفادة من منجزات العلم الحديث. وإذا نظروا إلى واقعهم الذي تحاصره البطالة تزداد الازمة تعقيداً، فالتوقعات تعتبر ان 23% من قوة العمل الإيرانية ستعاني البطالة بعد أربع سنوات فقط. الإحباط السياسي والاقتصادي يفرز مشكلات اجتماعية عميقة منها تعاطي المخدرات وتشغيل النساء في ما حرمته الشرائع، فربيع الثورة لم يحل، وشتاؤها قد طال. انجازات الثورة تأتي بأكلها بشكل ضاغط على الإدارة الإيرانية الحالية، فالنجاح في التعليم، خصوصاً تعليم المرأة، زاد الطلب على العمل، وفرض رؤيةً للانفتاح الاجتماعي. وكما حدث وقت الشاه، حيث لم تستطع أجهزته القمعية مسايرة نسخ «الكاسيت» التي كانت يؤجج ثورة الفقراء، لا تستطيع الأجهزة الجمهورية، على صرامتها، أن توقف التقنية الحديثة. فالانترنت رغم حجب مئات المواقع يجري التحايل للدخول عليها، ومعظمها سياسي، كما انه يقدر أن هناك مئتي ألف «ويب لوغ» بجانب عشرات آلاف المواقع التي يدخلها ملايين الزوار على الانترنت. و في النهاية يطرح الكاتب الحل لهذه الأزمة و هو العنوان الذي إختاره لمقاله و يقول: لذا فمن الأفضل طرح فكرة العودة إلى المستقبل، وتعني التفكير في تصور بديل لما يحدث، المواجهة مع العالم تعرض إيران لخسارة فادحة قد تغير اتجاه الثورة الإيرانية مرة أخرى في الوقت الذي يبدو أن المطلوب والملح وهو التنمية الاقتصادية الحثيثة لإطعام وإيواء ملايين الإيرانيين، خيار الزج بالإيرانيين في أتون معركة لا يعرف احد ما هي نتائجها، هو خيار «يوم القيامة» والصراع في إيران هو بين التشدد المطلق، والمرونة المعقولة. واخشى ما يخشاه العقلاء في إيران هو حصار اقتصادي طويل ينهك القوى الداخلية حتى تضعف، وفي غياب تحالف قوى العقل في إيران يبدو أن السيناريو المتاح هو ذاك. منذ الشاه حتى اليوم لا يزال الإيراني البسيط يحلم بتنمية تغذيه وتعلم اولاده وبفرص عمل بعيدة عن الفساد والقمع، إلا انه لا يزال يحلم! *كاتب كويتي. وكل ذلك بحسب رأي محمد الرميحي في المصدر المذكور. المصدر: الحياة اللندنية-12-4-2006
|