مقالات و محاضرات

 

 

صفقة مع إيران

 

عبدالعظيم حماد

 

تحققت النبوءة‏,‏ أو تحقق جزء منها على الأقل بأسرع مما كان صاحبها نفسه يتوقع‏,‏ فمنذ أكثر من شهر تقريبا كان الدكتور غسان سلامة وزير الثقافة اللبنانية السابق ومستشار الأمم المتحدة فيما بعد في العراق يحاضرنا في المجلس المصري للشئون الخارجية‏,‏ وبينما كان عنوان المحاضرة هو الأوضاع العربية‏,‏ فإن العرض الذي قدمه خلص إلي نتيجة سبقه إليها وزير خارجية ألمانيا الأسبق يوشكا فيشر‏,‏ وهي أن إيران كانت هي أكثر الأطراف الإقليمية إفادة من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير في السنوات الثلاث الماضية‏,‏ وأن الفوائد التي جنتها طهران أهلتها لكي تكون الطرف الرئيسي في حرب باردة إقليمية مع الولايات المتحدة ميدانها الخليج والمشرق العربي وغرب آسيا‏.‏

لكن ذلك كان تحليلا وصفيا لنمط الصراع الاستراتيجي في المنطقة العربية وماحولها‏,‏ ومن ثم كان ينقصه عنصران مهمان في رأيي هما تحليل ميزان القوي الإقليمي أيضا بين طرفي الصراع‏,‏ ثم محاولة التنبؤ بمآلاته‏,‏ وردا علي تساؤلي هذا‏,‏ وبعد أن استعرض الدكتور سلامة‏,‏ وهو في الأصل أستاذ علوم سياسية بجامعة السوربون الفرنسية‏,‏ عناصر معادلة القوة الشاملة لكل من إيران والولايات المتحدة في الإقليم توقع أن أرجح السيناريوهات لتسوية هذا الصراع ـ أو نزع فتيله ـ هو صفقة أمريكية إيرانية علي حساب العرب ولمصلحة إسرائيل‏.‏

كانت النبوءة مفاجئة لأغلب الحضور‏,‏ بمن فيهم كاتب هذه السطور‏,‏ إذ كنا لانزال مأخوذين بمنطق التصلب الأيديولوجي والدعايات الشعبوية المتبادلة بين بوش ومحافظيه الجدد والقدامي‏,‏ وبين أحمدي نجاد‏,‏ ونسخته الخاصة من المحافظين الجدد من شباب الجيل الثاني للثورة الإيرانية‏,‏ وهو منطق يرجح ـ إن لم يكن يحتم ـ الانتظار حتي تتغير الإدارات في واشنطن وطهران ليمكن البحث عن طريق جديد‏,‏ فضلا عن الحديث عن صفقة آتية لاريب فيها‏.‏

كيف أصبحت الآن ممن يأخذون هذا الاحتمال مأخذ الجد؟

ليس الاتفاق الأمريكي ـ الإيراني المفاجئ علي التفاوض المباشر حول مستقبل العراق هو السبب في هذا التحول‏,‏ فقد كان من الممكن تصديق الرئيس بوش ووزيرة خارجيته في أن الحوار مع إيران سيقتصر علي العراق‏,‏ ولن يتطرق إلي بقية موضوعات الخلاف مع إيران‏,‏ لولا أن الحقائق والمعلومات تكذبهما‏,‏ وتؤكد أن ذلك الحوار حول العراق هو جزء من كل آخذ في التشكل طبقا لدبلوماسية الربط التي اخترعها الأمريكيون علي أيام نيكسون‏/‏ كيسنجر‏,‏فما إن مضت بضعة أيام حتي سربت وزارة الخارجية البريطانية مشروعا شاملا لتسوية الأزمة النووية الإيرانية‏,‏ ومع أن المبرر الذي قدمه البريطانيون لهذا الجهد هو إسقاط ذرائع روسيا والصين لمعارضة دور قسري لمجلس الأمن في الأزمة‏,‏ إلا أن قصة إسقاط الذرائع تبدو أقرب لقنابل الدخان‏,‏ أي أنها غطاء يستخدمه الثعلب البريطاني العجوز لإخفاء الهدف الحقيقي‏,‏ بما أن المشروع يحتوي علي مجموعة من الحوافز السياسية والاقتصادية والأمنية لإيران علها لا تحتاج إلي تخصيب اليورانيوم بنفسها لأغراض سلمية توفر إمكان التحول عند الطلب إلي الأغراض العسكرية‏,‏ ووفقا لنص المشروع البريطاني فستعرض هذه الصفقة علي إيران في جولة مستأنفة من مفاوضاتها مع الترويكا الأوروبية‏(‏ بريطانيا وفرنسا وألمانيا‏).‏

ما يجعل هذا المشروع البريطاني مؤشرا علي تحول في الموقف الأمريكي في نظري ليس هو علاقة بريطانيا الخاصة بالولايات المتحدة ووقوفها المسلم به دائما في معسكرها في كل القضايا الدولية‏,‏ ولكن لأني كنت شاهدا علي رفض دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي لتقديم أي حوافز أو ضمانات ـ خاصة الأمنية ـ إلي إيران‏,‏ من أجل التخلي عن طموحاتها النووية‏,‏ عندما اقترح ذلك المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر في مؤتمر موينيخ لسياسات الأمن الدولي في فبراير عام‏2005.‏

في غضون هذه التطورات خرج ستانلي فايس مؤسس ورئيس مجلس مديري الأعمال للأمن القومي بمقال يوم‏15‏ مارس الحالي بصحيفة هيرالد تريبيون يطالب إدارة الرئيس بوش بالقيام بتحرك دبلوماسي جريء نحو إيران‏,‏ يتضمن عرضا دراماتيكيا‏,‏ يتضمن بدوره ضمانات أمنية كتلك التي عرضت علي كوريا الشمالية‏.‏

ويبرر فايس هذا المطلب باستعراض دواعي احتياج كل من واشنطن وطهران لهذه الصفقة‏,‏ ويشرح فوائدها للطرفين اقتصاديا واستراتيجيا غير أن أهم مبرر في رأيه هو أن المصالحة الأمريكية مع نظام الجمهورية الإسلامية في إيران سينزع من يد المتشددين في هذا النظام أهم أسلحتهم للتعبئة الوطنية‏,‏ وسيسقط حجمهم في مواجهة الإصلاحيين ومطالب التغيير‏,‏ فضلا عن إعلاء مكانة الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية للجماهير الإيرانية في الحياة السياسية للبلاد‏,‏ وهكذا يتحقق الهدف الأصلي وهو تغيير النظام ولكن من داخله‏.‏

ما يهمني في مقال ستانلي فايس أكثر من مبرراته وتنبؤاته‏,‏ أنه من الكتاب الذين لديهم صلات تمكنهم من الحديث عما يدور في عقل صانعي السياسة الخارجية الأمريكية‏,‏ مثله مثل كثيرين أقربهم زمنا إلي ضرب المثل توماس فريدمان الذي ظل يطالب باستراتيجية طويلة المدي للتحرر من التبعية النفطية للشرق الأوسط والخليج حتي تبني الرئيس بوش هذه الاستراتيجية في خطابه الأخير عن حالة الاتحاد‏.‏

فإذا كان منطق الصفقة مع إيران هو الذي يحكم السياسة الأمريكية الآن طبقا للشواهد الثلاثة التي ذكرناها‏,‏ وهي المفاوضات حول العراق‏,‏ والمشروع البريطاني‏,‏ ومقال فايس‏,‏ فإن ما يجب أن نبحث عنه هو الشروط المتوقعة لهذه الصفقة‏.‏

هنا نعود إلي حديث الدكتور غسان سلامة‏,‏ فقد أصبح من حقه أن ننتبه إلي كل كلمة قالها‏.‏

لكن المساحة لا تسمح بمثل ذلك‏,‏ لذا نكتفي بنبوءاته أن مثل هذه الصفقة إن حدثت بين واشنطن وطهران ستكون لمصلحة إسرائيل‏,‏ وعلي حساب العرب‏,‏ ولن تتضمن نزع سلاح حزب الله لأن إسرائيل لم تعد مهمته بذلك‏,‏ ويكفيها فقط امتناع حزب الله عن تدريب المقاتلين الفلسطينيين وتزويدهم بالسلاح‏.‏

أما الخسارة الأكبر فهي أن الاحتكار الإسرائيلي للسلاح النووي سيظل مستبعدا عن أي صفقات إقليمية‏,‏ لأن الضمانات الأمنية التي ستقدم إلي إيران لن تكون جزءا من نظام للأمن الجماعي في المنطقة‏,‏ مادام الغرب ليس لهم حساب‏,‏ وماداموا لا يرون خطرا عليهم سوي البرنامج النووي الإيراني‏,‏ مع أن إيران لاتزال بعيدة بما لا يقل عن عشر سنوات من إنتاج القنبلة النووية‏.‏

والكلام هنا لستانلي فايس نفسه في مقاله المستشهد به أعلاه‏.‏

و كل ذلك بحسب رأي عبدالعظيم حماد في المصدر المذكور.

المصدر: الأهرام المصرية-27-3-2006