العصر الإليكتروني و"تهجير" العقل البشري
ديفيد بروكس
مثل الكثيرين
غيري ممن شرعوا في استخدام نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس"، فقد
وقعت في علاقة غرامية رومانسية معه، ومع صوت تلك الفتاة المسجل عليه،
بإرشاداتها اللطيفة الحنونة التي تدلك بنبرة إنجليزية عذبة إلى المكان
الذي تريد الوصول إليه.
بقي أن أقول إن
كل هذه القصة الغرامية الجامحة قد بدأت إثر شرائي لسيارة مزودة بهذا
النظام. وقد شعرت بكثير من الاطمئنان والراحة وأنا أتابع الخطوط
الزرقاء الرقيقة الإرشادية لهذا النظام بل
شعرت أكثر من مرة بحنوه عليّ، إذ لم تزد ردة فعله على طيشي وفقداني
للاتجاهات التي أقصدها على إرشادي بالقول: انعطف وعد راجعاً إلى نفس
الطريق إن أمكن. ولم تمض سوى بضعة أسابيع فحسب على بدء تعاملي مع هذا
الجهاز العجيب، حتى اكتشفت أنه يستحيل عليّ الذهاب إلى أي مكان دون
مساعدته وإرشاده لي. فإذا ما قصدت أي اتجاه لم أذهب إليه من قبل، فما
عليّ إلا أن أكتب عنوان الجهة التي أقصدها على النظام، وأعتمد اعتماداً
كلياً على الإرشادات المفيدة التي يقدمها لي عبر المعلومات التي
يتلقاها خارجياً من الأقمار الاصطناعية
وسرعان ما تبين لي أنني بدأت التخلص من جميع هموم تحسين معرفتي
الجغرافية بالمواقع المختلفة.
وفي الحقيقة، فقد
أثار هذا الجهاز أعصابي بعض الشيء في أول الأمر، إلا أنه سرعان ما تحول
إلى مصدر راحة بال لا توصف وكما نعلم، فقد
ظل هاجس البشرية المستمر، كيفية الوصول من مكان إلى آخر منذ بزوغ فجر
نشأة المجتمع البشري وقد استخدمت في حل هذه
المعضلة قوى ذهنية جبارة في حفظ واختزان المعلومات عن الاتجاهات وتذكر
الانعطافات ومواقعها ... إلى آخره.
وقد سبق لي أن
وجدت نفسي في أكثر من مناسبة أو مأدبة عشاء، حبيس أنس طويل لا أول له
ولا آخر، كرّس كله أو جله للحديث عن المواقع والاتجاهات وكيفية الوصول
إلى هذا المكان أو ذاك. لكن ولحسن حظي فقد خلصني جهاز "جي بي إس" من كل
هذه الهواجس والهموم الجغرافية أما كيف حدث لي هذا الخلاص؟
فذلك ما تجيب عنه
عملية تحويل معرفتي الجغرافية إلى مصدر خارجي، بنقلها من دماغي إلى عقل
آخر هو الأقمار الاصطناعية ولعلنا نقدر
جميعاً كيف يكون هذا الشعور أقرب إلى حالة الخلاص والسعادة المطلقة
اللذين تحققهما "النيرفانا" البوذية ومن
خلال تجربة الهجرة الخارجية للدماغ البشري هذه، أدركت مدى قدسية وأهمية
ذلك العقل الخارجي وفي مسعى مني لتعميم هذه
التجارب على نواح أخرى من الحياة، تبين لي أنه أصبح بوسعي تهجير كل
العمليات الذهنية التي لا أرغب في القيام بها، من دماغي إلى دماغ خارجي
ما وبما أنه يمكن تعريف الحياة كلها على
أنها ليست سوى مشكلة رياضية في نهاية الأمر، فقد احتفظت لنفسي دائماً
بآلة حاسبة صغيرة أحملها في جيبي وحتى تلك
اللحظة، خيل لي أن سحر عصر المعلومات هذا، أنه أتاح لنا قدراً أكبر من
المعرفة.
ولكن تبين لي
لاحقاً أنه يسمح لنا بالحصول على معرفة أقل مما تصورت. والسبب أن وفر
لنا عدداً أكبر من المعينات الإدراكية مثل نظم ذاكرة السليكون،
والمرشحات الإلكترونية المساعدة، وكذلك نظم لوغريثمات المستهلك
التفضيلية، فضلاً عن توفيره لأشكال المعرفة الشبكية
وبالنتيجة فقد أضحى ممكناً لنا تحميل هذه المساعدات كل العبء
المعرفي الواقع على عواتقنا أصلاً، وتحرير أنفسنا من هذا العبء للقيام
بأنشطة ومهام أخرى. ولنضرب لهذا التحرر مثلاً بالذوق الموسيقي، الذي
تعرض هو الآخر للتهجير الخارجي.
فكل الذي ينبغي
عليّ عمله لتحديد ما أحبه في مجال الأغاني والمقطوعات الموسيقية هو
تشغيل جهاز "آي تيون" الذي يتولى هو تحديد ما أحب سماعه
والذي أعلمه على وجه التحديد هو النقر على ما يقترحه عليّ وذلك
بتشغيل عدد من النماذج الموسيقية القصيرة التي لا يتجاوز عرضها مدة 30
ثانية فحسب لكل أغنية، ثم يتولى عني مهمة تحميل الأغنيات التي أحببتها.
وفي كل مرة ألقي
فيها على قائمة الأغاني المحملة على جهاز "آي بود" الخاص بها، أدرك أن
الكثير منها لم أستمع إليه مطلقاً أذكر هنا
أنني كنت حتى إلى وقت قريب بين أولئك الذين أبدوا ميولاً موسيقية
لأغاني "رامونز"، غير أني تخلصت من كل تلك المعرفة الموسيقية السابقة
اليوم، وبدوت أكثر ميولاً وانجذاباً للتجارب الجديدة المجهولة في
معظمها، مثل تجربة مجموعة "رينديار سكشن" وغيرها
وبالطريقة نفسها فما الذي يمكن لنا قوله عن الذاكرة؟ هذه
هجّرتها أيضاً وأحلت مهامها الوظيفية من دماغي إلى العالم الخارجي
وفيما أذكر فقد كنت يوماً من أبناء ذلك الجيل من الأطفال الذين
أجادوا حفظ جميع المعلومات الجديدة عن ظهر قلب، حتى وكأن الكلمات تبقى
حاضرة في طرف لساني لأنطقها على الفور من فرط رسوخها في ذهني وذاكرتي.
أما اليوم فلم
أعد بحاجة لأي ذاكرة من أي نوع وما عساني
أتعب نفسي بمهمة الحفظ وقد توفرت لي أقوى محركات البحث الإلكتروني مثل
"ياهو" و"جوجل" وموسوعة "ويكيبيديا" وقد زودت جميعها بذاكرة أسطورية
متجددة وقادرة على اختزان ما يعجز عنه أي عقل بشري؟
وليست السعة
التخزينية وحدها هي العامل المهم في سحر المحركات الإلكترونية هذه،
وإنما سهولة التعامل مع المعلومات واستدعاؤها خلال جزء من الدقيقة
فحسب فما أن يحتاج أحدنا إلى معلومة ما عن أي مجال، حتى ينقر على بضعة
أزرار فتنفتح أمامه كنوز السحر الإلكتروني جميعها
وربما تدفع هذه الاعترافات عن تهجير العقل البشري إلى الاعتقاد
بأني بدأت أفقد خصوصيتي وإنسانيتي. غير أن الرد على مثل هذا القول هو
أنني ما زلت على قدر كبير من الخصوصية والإنسانية والوعي بهويتي كفرد.
أما الشيء الوحيد الذي تغير في ممارسة هذه الخصوصية والهوية، فهو كيفية
تحقيقها في عصرنا الإلكتروني هذا.
*كاتب
ومحلل سياسي أميركي
و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر
المذكور نصا و دون تعليق.
المصدر:الإتحاد
الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع "نيويورك تايمز-3-11-2007
|