ايجابيات التفاهم مع إيران في وجه الفراغ الاستراتيجي العربي

 

صلاح سالم

 

دار الجدل في بداية التسعينات الماضية بين خطابي «نهاية التاريخ» الذي نظَّر لتيار العولمة، و «صدام الحضارات» الذي تنبأ بالمواجهة بين الإسلام والغرب، وكان المركز الأميركي هو منطلق كلا الخطابين، ولكن الطرف الذي توجه اليه الخطاب كان مختلفا في الحالين، فكان الشرق الآسيوي وتحديدا النمور الآسيوية هي المخاطبة بفكرة «نهاية التاريخ»، فيما كان الشرق الأوسط العربي والإسلامي هو المخاطب بنبوءة «صدام الحضارات»، وكان ذلك ناجماً عن إحساس بتهديد مزدوج، أول مصادره هو الخطر البنيوي الذي كانت تفرزه تجربة الصعود الحضاري لآسيا الجنوبية والشرقية، أما الثاني فهو الخطر الذي كانت تفرزه التيارات الإسلامية المتطرفة احتجاجاً على الصيغ المختلة للعلاقات القائمة بين العالم الإسلامي والغرب على أكثر من صعيد.

ومع نهاية التسعينات ادت الأزمة الاقتصادية الآسيوية إلى التقليل من حجم الشعور بالخطر البنيوي، كما أدت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) مع بداية القرن الحالي الى تعميق الشعور بخطر التطرف، وكانت تلك التحولات الطارئة في إدراك مصادر الخطر هي البيئة التي سمحت للمحافظين الجدد باختطاف السياسة الخارجية الأميركية في الاتجاه الذي سارت فيه نحو غزو أفغانستان ثم العراق، والضغط المستمر على إيران وسورية وحركة «حماس»، والدعوة الجامحة الى إعادة صوغ المجتمعات العربية، وتجديد الفكر الديني، خصوصاً في الفترة بين 2003 - 2006 على نحو أدى الى محاصرة نخب الحكم العربية في أكثر من بلد، وأفقد القوى الكبرى التقليدية في العالم العربي شعورها بالجدارة ودفعها الى العكوف الى داخلها تجتر إحباطاتها وهواجسها وتبحث عن موارد لحفظ البقاء وتحقيق التكيف مع الموجة الهادرة، بدلاً من محاولة التأثير في مجريات الأحداث داخل الإقليم وحوله، ما أفقد المنطقة محاور قيادتها وأحالها الى فراغ استراتيجي شاسع، وصولا الى العدوان الإسرائيلي على لبنان والذي لم يكن ليتم من دون دعم اليمين الأميركي، أو ليطل على النحو الذي كان لولا حال الفراغ الاستراتيجي العربي.

وربما كان عام 2006 انتقالياً للموجة المحافظة إذ شهد بداية انكسارها وتهدم أركانها في بنية القرار الأميركي بفعل وضوح المأزق الأميركي في العراق، والهزيمة المعنوية لاسرائيل في لبنان، غير أن الفشل الأميركي في العراق يبقى أمراً نسبياً، فأميركا فشلت سياسياً في بناء «دولة ديموقراطية» على نحو يحتذى عربيا، ولكنها نجحت عسكريا في إسقاط النظام واحتلال البلاد، ولعل ما نجحت فيه هو الأكثر تعبيراً عن روح المحافظين الجدد، التي قد ترى في تقسيم العراق إلى دويلات طائفية تعود به إلى قرن مضى نجاحا «إمبراطوريا» لهم وهو النهج الذي عبرت عنه توصية الكونغرس غير الملزمة بتفكيك العراق الى ثلاث ولايات شيعية وسنية وكردية على منوال ما كان قبل عشرينات القرن المنصرم.

والمؤكد أن التيار الأساسي في العقل الأميركي سيعود الى مركز القرار بعد أكثر قليلا من العام، وسوف يتبرأ من الإرث المحافظ في المجمل، ويخرج على نهجه الإمبراطوري، ولكنه في الوقت نفسه قد يرى في تفتيت العراق - تطورا «استراتيجيا» إيجابيا يُسَهّل عمل سيناريوهات الهيمنة «الليبرالية» الأقل عنفا ولكن الأكثر بنيوية، على منطقة عربية كبيرة، تمثل بدورها القلب الجيو سياسي، والقبلة الروحية والثقافية للأمة الإسلامية الأكبر التي يقع بعضها في الشرق الأوسط المحيط بإسرائيل، والبعض الآخر في الشرق الآسيوي الضالع في عملية نهوض حضاري لم تنجز تماماً، ولكنها لم تتوقف بعد.

وهنا يتحول الفشل الأميركي الى مجرد حدث طارئ يخرج المحافظين من مركز القرار، ويسهل من حضور التيار الأساسي الى موقع القرار ناقداً للإرث اليميني ومستفيداً منه في الوقت نفسه، بينما يستمر العرب في هجاء اليمين الأميركي، ولكن مع اجترار «فشله» في العراق، تفتيتا للوطن وإضعافا للأمة.

ولعل الطريق الوحيد لتجنب هذه الفوضى هو تجاوز حال الفراغ الاستراتيجي العربي، وأخذ المصير العراقي بيدي الأمة كلها وعدم تركه بيدي أهله وحدهم، فالوقت فات على مجرد توجيه رسائل الى الطوائف العراقية المتقاتلة لإقناعها بأن مصلحتها الأساسية هي في وطن عراقي موحد ومستقر، لأن الأزمة صارت أكثر تعقيداً واتساعاً من جغرافية العراق وتوجهات فرقائه، والحاجة أصبحت ماسة الى عملية سياسية خلاقة من جانب القوى الإقليمية الكبرى للدفاع عن وحدة العراق حتى لو بأثمان باهظة ومواقف سياسية مختلفة عن المواقف المرسومة سلفا والتي تشهدها اجتماعات دول الجوار على منوال ما جرى في شرم الشيخ، وقد يجري في اجتماع مماثل قريبا قد يضم الأطراف الإقليمية المحورية في الشأن العراقي، إلا أنه لن يغير من الواقع قيد أنملة لأن المطلوب من هذه الأطراف أن تعمل معا كقوة طرد مركزي، وأن تقدم بديلا للدور الأميركي لا أن تكون في خدمته، وتقنع من ثم القوى الوطنية العراقية الرافضة للاحتلال الأميركي بأن كل ما سوف يتم لإنقاذ العراق ليس جزءاً من سيناريو أميركي يلعب فيه الآخرون دوراً مرسوماً سلفاً، وتقنع القوى السنية خصوصاً بأن مواقع ارتكازها الحالية لن يحتلها الأميركيون، الأمر الذي يسهم في كسر كل الروابط بينها وبين التنظيمات العنيفة والعبثية المنضوية تحت لواء «القاعدة»، والتي ارتبط حضورها في العراق بالحضور الأميركي، وستظل فاعلة في المشهد العراقي طالما استمر النفوذ الأميركي مهيمنا، ولن يبدأ دورها في الذبول إلا في خضم عملية طاردة تعري التناقض بين القوى الوطنية والقوى العدمية، أو بين المقاومة السنية وتنظيم «القاعدة».

ولعل نقطة البداية الصحيحة على طريق هذه العملية الخلاقة تتمثل في تفاهم عربي - إيراني حول صيغة لمواجهة تحدياتهما المشتركة وخصوصا كارثة تفكيك العراق من جانب، واحتمالات العدوان العسكري على إيران وربما سورية من جانب آخر، فمن يراقب المشهد الإقليمي يلاحظ عمليات استعداد واختبارات قوة واستطلاع نيات واكتشاف ثغرات تجري على قدم وساق من قبل التحالف الأميركي - الإسرائيلي استعداداً لعاصفة جديدة تمهد لتفكيك العراق الذي ربما طرح كبالون اختبار لاكتشاف حجم ردود الفعل، وترتيب كيفية التعامل معها.

ومن ثم فقد آن الأوان لحوار مباشر وبناء مع إيران التي صارت في قلب السياسة العربية بامتياز، بغرض الوصول إلى نوع من التوافق معها قد يمنحها بعض المزايا التي تستحقها كدولة كبيرة لها مصالح لا بد من احترامها طالما كانت مشروعة ولا تنقص من سيادة جيرانها، ولكنه في المقابل يشكل قيدا يفرض عليها ضرورة احترام مصالح باقي الأطراف ويحتم عليها الحوار معهم.

وفي هذا السياق يمكن عقد صفقة تبادلية بين الدور الإيراني الذي يبقى حاسما في تقرير مستقبل العراق، وبين الدور العربي المؤثر في الملف النووي الإيراني، فسلبيا يمكن للعرب تسهيل الخيار العسكري الأميركي بتقديم دعم لوجستي فضلا عن اسباغ الشرعية الإقليمية، وإيجابيا يمكنهم خلخلة الحصار حول إيران بإعلان تأييدهم لحقها الأصيل في امتلاك التكنولوجيا النووية طالما أن إسرائيل تملك السلاح النووي، وأنهم يدعمون تخليها عن هذه التكنولوجيا فقط في حال تخلي إسرائيل عن سلاحها لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، بل ويمكنهم صياغة موقفهم هذا في مبادرة الى الأمم المتحدة.

هذه الصفقة تنبع معقوليتها من اعتبارات عدة أهمها:

1- ان حماية العراق من التفكك هي بمثابة حماية لنحو قرن من التاريخ السياسي العربي، والذي يأخذ مع حدث التفكيك منحى عبثيا، ويولد من التوترات والإحباطات والنتائج ما يفوق نكبة فلسطين، وهزيمة يونيو 1967، فشتان بين الانكسار على صعيد مسار واع يمكن استئنافه، وبين الخوض في مجاهل عدمية سياسية لا نتصور حدودها، ومن ثم يكون على الأمة أن تتحالف ولو مع الشيطان من أجل وحدة العراق، ولا تعدو إيران في الجوهر شريكاً حضارياً وجغرافياً للعرب.

2- القدرة النووية الإيرانية، حتى في حالة امتلاكها للسلاح النووي، لا تمثل أدنى خطورة على العالم العربي وبالذات مناطق الاحتكاك مع ايران في الخليج، كما أن ايران برغم خطابها السياسي المتشدد تبدو عقلانية بما يكفي لكبح جماح نفسها عن الاستخدام العدمي لهذا السلاح، إذ تبرر شرعيته الداخلية بالدفاع عن الأمة الإسلامية، كما تدرك أن استخدامه في غير أغراض الردع يكفي مبرراً لأن تقوم الولايات المتحدة بإبادتها نوويا.

3- ان التوافق العربي - الإيراني يضع قيوداً على احتمال عقد صفقة إيرانية - أميركية لن تتوانى عنها الولايات المتحدة إذا تهيأت ظروفها، ضد المصالح العربية، سواء لأن التنسيق العربي مع إيران سوف يقوي من موقفها التفاوضي ويقلل من حاجتها الى تقديم تنازلات أو دفع أثمان غالية للولايات المتحدة، أو لأنه سوف يدفع الأخيرة الى إعادة تثمين المواقف العربية المعتدلة التي صارت مهملة باعتبارها من البديهيات، ويضغط عليها نحو عدم التجرؤ على المصالح العربية الأساسية.

4- ان هذا التوافق يكسر حال الاستقطاب الجاري داخل عدد من الدول العربية منذ احتلال العراق، واغتيال الحريري ثم نجاح «حماس» في الانتخابات وتشكيل حكومة فلسطينية، ثم إعادة صوغ الاصطفاف العربي في مواجهة القضايا الأساسية المثارة الى وضعه الطبيعي بحيث يكون هناك موقف عربي مشترك يتسم بالعقلانية والاعتدال والإيجابية من القضايا الأساسية في فلسطين ولبنان.

5- ان المنطقة لا يمكن أن تبقى بكاملها حكراً على السلاح النووي الإسرائيلي ورهينة له، فإذا كان ذلك يمثل مصلحة إسرائيلية أميركية فهو بالقطع لا يمثل مصلحة عربية إيرانية، ولا شك في أن الخروج من مأزق الانفراد الإسرائيلي النووي يبقى أمراً مطلوباً، ولكنه غير متصور إلا عبر طريقين:

- إما تحييده من خلال امتلاك طرف عربي له، وفي ظل تعذر وجود مالك عربي ربما يكون الخيار الإيراني الإقليمي هو البديل الممكن الآن.

- أو المطالبة بنزع السلاح النووي الاسرائيلي لإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وهو خيار مثالي لا يمكن لإسرائيل القبول به.

*كاتب مصري

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب  في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الحياة اللندنية-14-10-2007