"الحل الوسط"...فكرة لا بُدَّ منها
د. إبراهيم عباس نـَـتــُّـو
يمكن التوقع دوماً في المجالات البشرية أن تختلف الآراء و المصالح و الدوافع؛ بل و يتوقع أيضاً أن يتمسك كل طرف في الخلاف برأيه؛ و لكن، يتوقع أيضاً أن تظهر الحاجة إلى الوصول إلي "حل"!؛ و هنا يدخل دور و فكرة "الحل الوسط"، و الحلول "التوافقية"،استعانة بمبدأ "الحل الوسط" و التركيز على "الوسط" و "الوسطية"، مع الابتعاد عن "الطرفانية" و "التطرفية". ومع أن في ثقاتنا و تنشئتنا بعض المقولات و شيئاً من المحفوظات الإيجابية، مثل: "خيرُ الأمور الوسطُ الوسيطُ ... و شرُّها الإفراطُ والتفريطُ"؛ و كذلك: "خير الأمور أوساطها"، إلخ، ..إلا إنه يبدو لي أن في ثقافتنا إشكالية معينة حيال مبدأ "الحل الوسط".. إذا ما ولجنا حيز التطبيق و التنفيذ و الواقع. و إضافة إلى ذلك، فإننا غالباً ما نجد في المشهور في تراثنا ما يدفعنا إلى التطرف أكثر من دفعنا صوب التوافق، و إلى التوتر إلى مرحلة القطع والانقطاع، بدلاً من"الوصول إلى حل". و مما يبدو أثره علينا بصفة سلبية متجذرة ما كان في بعض مقولاتنا المتداولة مثل: "نحن أناس لا توسط عندنا لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ"!(و في هذا –في رأيي- يكمن جذرُ المشكلة و مصدرُ البلاء.) كما نجد أن مما ينفخ في زامور التطرف بيننا، و يزيد في شد أوتار التوتر عندنا، أن لغتنا اليومية عامرة بالإطلاقية في التعبير و التفكيرالحدي؛ ففي مكان الحاجة إلى استخدام كلمة "بعض" أو "معظم".. تجدنا بشيء من السلاسة نستعمل كلمة "كل"؛ كما يكثر استعمال كلمات مثل: "طبعاً!" و 100% "مِيَّة في المِيَّة!"؛ "هيّ كِده، و ما يبغىَ لها حكي!"؛ و تجدنا نواصل في مثل هذه العبارات الإطلاقية، فنقول: "هذا شيء لا يختلف عليها اثنان"، و في عبارةٍ: "لا ينتطح عليها عنزان"(!) ..و هلم جرا. و تجدنا حتى حينما نستعمل العبارة المطلوبة، "الحل الوسط"، فبدل أن نقدم لفظة "الحل"، كما في تلك العبارة.. تجدنا نشير إلى العبارة بشيء من الاستخفاف و التهكم، فنقول: "هذه أنصاف حلول!" بتقديم النصف، و كأننا نقول: هذا ليس بالحل، بل ما هو إلا نصيفه..و بالتالي، فهو غير مقبول! ثم ما نلبث أن نقفل عائدين –للأسف-- إلى: "لنا الصدرُ…"! ولا أدري كيف ننسى أن لفظة "الإنصاف" ذاتها في أصلها العربي قد كانت --في أيام عقلانية و صفاء و الفكر البدوي- تعني "النصف"! فظلت فكرة "الحل الوسط" بلفظتيها غريبة في اللغة العربية للأسف؛ و نجدها تأتي كفكرة مترجمةً و في لفظتين اثنتين، بينما هي في الإنكليزية-مثلا- في كلمة واحدة (Compromise) و لها في تلك اللغة – و في تلكما الثقافة-- تعريفٌ شعبي طريف يقول: فكرة الحل الوسط ("الكومبرومايز") هي "فنُ تقسيمِ الكعكةِ و تقديمها إلى عدة أشخاص أو جهات.. بطريقةٍ يَشعرُ(بل يَجزمُ) معها كلُ طرفٍ بأنه حصلَ على القطعة الأكبر!" ومن المجال العالمي، أود سرد فقط مثالين مختصرين لتطبيقات فكرة "الحل الوسط"، يشيران إلى حادثة وقعت أثناء تأسيس منظمةالأمم المتحدة فكانت حركة مفصلية كأن تكون المنظمة أو لا تكون؛ والمثال الآخر يتصل بنشأة الولايات المتحدة.. أيضا بصفة مفصلية حاسمة في أن تقوم الولايات المتحدة أو لا تقوم. أما المثال التاريخي الأول، فكان حينما أشار ستالين إلى عدد "الجمهوريات"(16) الواقعة في "الاتحاد السوفيتي" ، و رأى لزوم أن يحصل كل منها على عضوية المنظمة الجديدة المنشأة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وخاصة بعد أن كان للإتحاد السوفيتي الباع الطويل -إن لم يكن الأطول- في كسب الحرب و حسم النتيجة. و جاءت نتيجة المفاوضات بين الاتحاد السوفيتي و أمريكا و حلفائها أن قبلت أمريكا بمنح العضوية -في الجمعية العمومية- لاثنتين من "الجمهوريات" --أوكرانيا و روسيا البيضاء-- إضافة بالطبع إلى عضوية الإتحاد السوفيتي – مع منحه "حق الفيتو" في مجلس الأمن. و بذا تم التوافق،.. و على هذا قامت الأمم المتحدة. أما المثال المفصلي الثاني، فكان في نشأة و تكوين الولايات المتحدة ذاتها. فلقد كان هناك خلاف عميق بين "المناطق" /"لولايات" الـ13؛ و موضوع الخلاف كان في مسألة "تمثيل" مختلف الولايات في "الكونغرس"؛ فكانت هناك الولايات الكبيرة ذات الكثافة السكانية الكبيرة ..مفارقةً ببعض الولايات الصغرى التي لا تعادل مدينة واحدة في إحدى الولايات الكبرى. و جرى الجدل و النقاش، و تبين أن تمثيل الولايات كلها بنفس "الوزن" في الكونغرس هو حل جائرٌ و قِسمةٌ ضِِيزَى. و بعد جدال طويل توصل المؤتمرون إلى حل وسط -سجَّله التاريخ باسم "توافقية كونيتكيت"، اقترحها وفد ولاية "كونيتكيت"؛ و فحوى ذلك الحل "الوسط" أن يكون هناك مجلسان اثنان: مجلس النواب و مجلس الشيوخ /الأوصياء؛ فيضم الأول أعضاء منتخبين يعكس عددهم كثافة السكان، بينما يضم الثاني عضوين اثنين منتخبين عن كل ولاية (مهما صغرت أو كبرت). و بذا حصل التوافق.. و تم حفظ مصير الإتحاد الوليد، و التمَّ شمله، و عُصم من النفاد. فنحتاج نحن إلى انتشار فكرة "الحل الوسط" في ثقافتنا بعامة، و في تطبيقاتنا الحياتية، حتى اليومية منها، فنتحاشى الحدية والتطرف.. و حتى لا يفوتنا الكثير من فرص العيش في وئام، و حتى نكثر من مجالات التعايش في نماء و سلام. المصدر : العربية نت - الثلاثاء 6 سبتمبر2005
|