سياسة الإسلام في المجال الاقتصادي
الإمام الصادق عليه السلام : «الاقتصاد هو الكسب
كله»(1)
إن الاقتصاد لـه الأهمية الكبرى في السياسة، وكلما كان
التوازن الاقتصادي أقوى كانت السياسة أكثر سداداً ورشداً.
فلننظر إلى الإسلام كيف جعل من الدولة الإسلامية
البعيدة الآفاق، الشاسعة(2) الأراضي، الكثيرة النفوس، أمة غنية كاد أن
يصبح الفقر فيها خبراً لكان..ولا فقير واحد
..انظر
إلى القصة التالية وتدبر في أبعاد دلالتها.
ذكر الشيخ الحر العاملي رحمة الله في كتاب (وسائل
الشيعة) :
أن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
كان يمشي في سكك الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس: فوجه الإمام
السؤال إلى من حولـه من الناس قائلاً:
ما هذا؟
فقالوا: إنه نصراني كبر وشاخ ولم يقدر على العمل، وليس
لـه مال يعيش به، فيكتنف الناس..
فقال الإمام ـ في غضب ـ : استعملتموه على شبابه حتى إذا
كبر تركتموه؟
ثم جعل الإمام عليه السلام لذاك النصراني من بيت مال
المسلمين مرتباً خاصاً ليعيش به حتى يأتيه الموت(3).
وهذا يدل على أن الفقر كاد أن لا يرى لنفسه مجالاً في
الدولة الإسلامية حتى إذا رأى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فقيراً
واحداً كان يستغرب، ويعتبره ظاهرة غير طبيعية وغير لائقة بالمجتمع
الإسلامي، والنظام الاقتصادي الإسلامي.
ثم يجعل لـه من (بيت مال المسلمين) مرتباً يرتزق به مع
أنه نصراني لايدين بالإسلام، لكيلا يكون في البلد الإسلامي مظهر واحد
للفقر والجوع.
ولكي يعرف العالم، والمسلمون أنفسهم أن الحكومة
الإسلامية تقضي على الفقر وترفع مستوى الفقراء لا بالنسبة للمسلمين
فحسب، بل تنفي الفقر حتى عن الكفار ماداموا تحت رعاية الدولة
الإسلامية.
لا فقر في أفريقيا
القارة السوداء التي لا تزال حتى اليوم ـ رغم كل التقدم
الاقتصادي في مختلف الميادين في العالم ـ ترزح تحت وطأة الجوع والفقر
والبؤس، والتي يموت فيها يومياً المئات والألوف.
هذه القارة التي تربض على مخازن الثروة الضخمة، والتي
يسرق الطغاة في العالم ثرواتها دون أن يعطوها خبزاً وقمحاً يسدان
الجوع.
هذه القارة كانت ـ قبل أكثر من عشرة قرون ـ تنعم بالغنى
والثروة نتيجة حكم الإسلام عليها.
فقد نقل المؤرخون: أن والي أفريقيا في العهد الإسلامي ـ
وبالضبط في عهد أبي جعفر الإمام محمد الباقر عليه السلام خامس أئمة أهل
البيت عليهم السلام مفتتح القرن الثاني الهجري ـ بعث رسالة إلى العاصمة
الإسلامية يستفسر عن الصدقات والزكوات المتضخمة عنده ماذا يصنع بها؟
فصدر الجواب: أصرفها على الفقراء والضعفاء.
فكتب: عملنا ذلك وزادت صدقات كثيرة فماذا نعمل بها إذن؟
وصدر الجواب: اجعل من يعلن في البلاد على رؤوس الناس:
(ألا من كان محتاجاً فليأت الوالي وليأخذ حاجته من الصدقات) واجعل من
يبحث عن الفقراء وأهل العوز، فلعل هناك بعض من يمنعه الحياء أن يأتي
الوالي..
فكتب الوالي إلى العاصمة الإسلامية: فعلنا ذلك وزادت
الصدقات.
فصدر الجواب: اصرفها في عامة مصالح المسلمين.
فهل رأت أفريقيا مثل ذلك في كل تاريخها وبعد الإسلام؟
وهل رأى العالم أو قرأ أو سمع نظاماً اقتصادياً يستطيع
أن يقتلع جذور الفقر عن الناس حتى يكون من بواعث العجب والدهشة رؤية
فقير واحد في طول البلد الإسلامي وعرضها، ولو كان ذاك مسيحياً غير
مسلم؟ وهل استطاع العالم المعاصر، والتجارب الاقتصادية الكثيرة من وضع
نظام اقتصادي كهذا؟
والجواب على ذلك كله: النفي طبعاً.
فاليوم وقد بلغت الحضارات قمتها، والأنظمة الاقتصادية
ذروتها، لاتكاد تجد بلداً واحداً إلا والفقر قد نشر أجنحته السوداء،
والفقراء ملأ الأرض، والجوع والحرمان شملا الشرق والغرب والجنوب
والشمال.
ولعل بالحجاز
الحجاز واليمامة(4) بلاد جافة وأرض جرداء لا زرع فيها
ولا ضرع غالباً، خصوصاً في التاريخ الغابر حيث كان يقل ماؤها، ولا عيون
فيها إلا نادراً.
ومثل هذه البلاد من الطبيعي أن يشكو أهلها الجوع
والبؤس..
لكن لم يكن قد مضى على تأسيس الإسلام بعدُ نصف قرن حيث
قال زعيم الدولة الإسلامية وإمام المسلمين أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام في خطبة خطبها على جماهير المسلمين وهو يذكر سبب
تقشفه وزهده: «ولعل بالحجار أو اليمامة من لا طمع لـه في القرص ولا عهد
لـه بالشبع»(5).
فالإمام عليه السلام وهو زعيم أكبر دولة على وجه الأرض
ذلك اليوم، لايلقي الكلام بجزم أن هناك في زوايا دولته المترامية
الأطراف شخصاً فقيراً واحداً لم يشبع طيلة حياته، ولا إنساناً واحداً
لا يطمع في تحصيله على قرص خبز، من أجل عدم التأكد لهذه الدرجة من
الفقر، فيلقي الكلام بـ(لعل) وبذلك يذكر السبب لزهده وعدم شبعه من
الأكل، لأن الإمام ينبغي لـه أن يواسي أضعف الرعية، وكيف يشبع الإمام
عليعليه السلام وربما يوجد في الرعية من لم يشبع.
(أما) مسألة الموت من الجوع مثل هذا الذي كثر اليوم في
بعض بلاد العالم، فذاك ما لا يذكر تاريخ الإسلام الصحيح لـه مورداً
واحداً.
وفي السويد
تعتبر (السويد) اليوم من أرقى بلدان العالم حضارة
وتقدماً، ولكنها لا تزال تعاني فقراً شديداً، ويعيش فيها فقراء في
منتهى الجوع والبؤس.
ففي (استوكهولم) عاصمة السويد، يقول عنها بعض الصحف:
« في برد السويد ينام البعض من الفقر تحت الثلج، وبعضهم
يلتحف بأوراق الصحف ليجدهم الكناسون صباحاً موتى من البرد»(6).
فإذا كان أرقى بلاد العالم ـ كما يقولون ـ يعيش هذه
الحالة التعيسة من الفقر فكيف بباقي بلاد العالم..
أليس عظيماً اقتصاد الإسلام الذي ينفي الفقر ـ قبل
ثلاثة عشر قرناً ـ حتى لايعتبر زعيمه مسألة الفقر ووجود فقير واحد في
طول البلاد وعرضها شيئاً مؤكداً وحتمياً؟
نصوص الشريعة
النصوص الكثيرة في الشريعة الإسلامية، والأحكام
الشرعية، وعمل زعماء المسلمين من النبي والأئمة الطاهرين (عليه وعليهم
الصلاة والسلام) هي التي خلقت ذاك الجو الذي لم ير الجوع فيه موضع قدم
واحدة، وإليك نماذج من الكثير الكثير:
فعن النبي صلي الله عليه و آله أنه قال: «ما آمن بي من
أمسى شبعاناً وأمسى جاره جائعاً»(7).
وجاء في (نهج البلاغة) من كلام الإمام أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام: «إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء
أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتع به غني، والله تعالى سائلهم
عن ذلك»(8).
وقال الإمام الصادق عليه السلام في حديث لـه: «…وإن
الناس ما افتقروا، ولا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا إلا بذنوب
الأغنياء»(9).
وقال الإمام الباقر عليه السلام في حديث لـه: «… ولأن
أعول أهل بيت من المسلمين أشبع جوعتهم وأكسو عورتهم وأكف وجوههم عن
الناس أحب إليّ من أن أحج حجة، وحجة.. حتى انتهى إلى عشر وعشر مثلها،
حتى انتهى إلى سبعين»(10).
الكرامة الاقتصادية
هناك قاعدة معروفة تقول: (الكرامة الاقتصادية تورث
الكرامة الاجتماعية).
هذه حقيقة ثابتة في المجتمعات التي لم يكتمل فيها الوعي
والفهم في كل الأبعاد.
ولأن الكثير من المجتمعات في العديد من مقاطع التاريخ
هكذا كانت… ولاتزال.. وربما ستكون أيضاً.
فلم يتغافل الإسلام الاهتمام بها لكي لا يكون المؤمنون
والأخيار في ذيل المجتمع لا يعبأ بهم؟ ولا يقدر جانبهم.
من أجل ذلك نرى التحريض الكبير والمؤكد في المتواتر من
روايات أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) على تحصيل الكرامة الاقتصادية
أكثر وأكثر، وأبواب التجارة من كتب (وسائل الشيعة) و(مستدرك الوسائل)
و(بحار الأنوار) و(جامع الأحكام) ونحوها من موسوعات الحديث الشريف تطفح
بهذه الروايات الشريفة المروية عن النبي وأهل بيته الطاهرين (عليه
وعليهم الصلاة والسلام).
وهناك ملاحظات لطيفة ودقيقة في هذا المجال ـ في ثنايا
الأحاديث الشريفة ـ نذكر واحدة منها.
تجارة الموالي
أخرج حجة الإسلام الكليني قدس سره في الكتاب الشريف
(الكافي) بسنده عن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام قال:
«أتت الموالي أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: نشكو
إليك هؤلاء العرب، إن رسول الله صلى الله عليه و آله كان يعطينا معهم
العطاء بالسوية.
وزوج سلمان، وبلالاً، وصهيباً.
وأبوا علينا هؤلاء، وقالوا: لا نفعل.
فذهب إليهم أمير المؤمنين عليه السلام فكلمهم فيهم.
فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن، أبينا ذلك.
فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول:
يا معشر الموالي: إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود
والنصارى، يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم.
ولا يعطونكم مثل ما يأخذون.
فاتجروا بارك الله لكم.
فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله يقول:
الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في
غيرها»(11).
هذا الحديث الشريف يحتوي على عدة مواضيع إسلامية في
الصميم ومهمة بالغة الأهمية وهي بإيجاز كما يلي:
1: شعبية الرئيس الإسلامي الأعلى حتى ليأتيه الموالي
وهم مستضعفون في المجتمع لا قدر لهم ولا قيمة، فيفتح الرئيس صدره،
ويستمع إليهم، ويفسح المجال لهم، كما يفسح المجال لغيرهم.
2: المساواة الإسلامية العظيمة، على أساس العدل
والإنسانية حتى ليجرأ غير العرب، في بلاد العرب أن يرفعوا الشكوى إلى
الرئيس الأعلى من أجل استحقارهم من قبل العرب، وهذا ما لا يوجد إلا في
الإسلام.
3: قيام أمير المؤمنين عليه السلام وهو الرئيس الأعلى
للدين والدنيا، بالوساطة لهم بنفسه ودخولـه على العرب لينصحهم في هذا
الحكم الإسلامي المهم، وهو المساواة في الزواج بين العرب وغير العرب
على أساس الإسلام والإنسانية.
4: الحرية الإسلامية الرائعة التي تسمح لأناس عاديين أن
يردوا وساطة مثل أمير المؤمنين عليه السلام.
5: العدل الإسلامي العظيم الذي يتجلى في عدم قيام أمير
المؤمنينعليه السلام برد فعل تجاه رد هؤلاء لـه، وعدم قيامه بعتابهم،
أو عقابهم، أو منعهم عن بعض حقوقهم، ونحو ذلك مما يفعله معظم الرؤساء
في مثل هذه المواقف.
6: تشبيه أمير المؤمنين عليه السلام أولئك العرب الذي
ردوا العمل بحكم إسلامي عظيم جداً أو سياسي خطير باليهود والنصارى في
هذا الموقف القومي البغيض الذي جاء الإسلام لرفضه ورفض أمثاله، تعميقاً
من الإمام عليه السلام لهذه النقطة السياسية المهمة في الإسلام التي
تجمع المسلمين على صعيد واحد ويبنى عليها الاتحاد الإسلامي الشامل.
7: تعليم الموالي طريق الكرامة الاجتماعية، الذي هو في
مثل تلك المجتمعات غير المتشبعة بعد بروح الإسلام في كل الأبعاد: هو
تحصيل الكرامة الاقتصادية..
لكي يتماسك المسلمون، وتتحد القوميات في ظل الإسلام،
ولو عن طريق الكرامة الاقتصادية..
لأن القوميات تعشعش غالباً في المحيطات الفقيرة، فإذا
كان الغنى وكانت الأراضي والسيارات، والتجارات والقصور.. ونحوها فإن
القومية تنهار كالملح في الماء والحطب في النار.
وبالفعل تعلم أولئك الموالي من أمير المؤمنين علي (عليه
الصلاة والسلام) هذه الحكمة الاجتماعية وساروا طريق التجارة، حتى أصبح
الكثير منهم تجاراً، وأصحاب أموال، وتزوجوا ـ بعد ذلك ـ من العرب،
وتزوج منهم العرب، وتماسك التلاحم العربي العجمي في ظل الإسلام العظيم.
...............................................
المصادر :
(1) سفينة البحار: ج2 ص431 باب القاف بعده الصاد
(2) يتحدث جرجي زيدان في كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي)
وغيره ممن كتبوا عن سعة الدولة الإسلامية وحضارة الإسلام: أن الدولة
الإسلامية توسعت وتوسعت حتى بلغت خلال قرنين قرابة ثلاثة أرباع
المسكونة إلى مفتتح القرن الثالث الهجري أي في عهد الإمام محمد بن علي
الجواد عليه السلام، فأفريقية والهند وقسم كبير من الصين وإسبانيا وقسم
كبير من روسيا… وغيرها كانت تحت سيطرة المسلمين وحكم الإسلام
(3) راجع وسائل الشيعة: ج15 ص66 ب19 ح19996
(4) اليمامة: بلاد شرقي مكة، وقيل: من اليمن، راجع
القاموس، ومجمع البحرين
(5) سيأتي نقل بعض الخطبة التي هذه الفقرة منها إن شاء
الله تعالى
(6) مجلة (الوطن العربي) الصادرة في فرنسا: العدد 94
عام 1978م
(7) راجع وسائل الشيعة: ج9 ص52 ب7 ح11501 وفيه عنه صلي
الله عليه و آله : «فما آمن بي من بات شبعاناً وجاره المسلم جائع..»
(8) نهج البلاغة، قصار الحكم: 328
(9) وسائل الشيعة: ج9 ص12 ب1 ح11392
(10) وسائل الشيعة: ج373 ب2 ح12273
(11) الكافي: ج5 ص318-319 باب النوادر ح95
المصدر : كتاب السياسة من واقع الإسلام - سماحة أية
الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي - مد -
|