|
سنغافورة : كيف أصبحت "معجزة آسيا
الإقتصادية" ؟
عماد صباغ
حين كنت في الحكم, اعتدت قراءة وتحليل كل خطاب يلقيه لي كوان يو, فلديه
أسلوب فذ في التعبير بشكل مقنع وفريد, عن قضايا عصرنا..(مارجريت تاتشر,
رئيسة وزراء بريطانيا 1976 إلى 1990م.) لي
كوان يو, واحد من ألمع وأقدر الرجال الذين قابلتهم, و"قصة سنغافورة"
ينبغي أن تقرأ من قبل المهتمين بقصة نجاح آسيوية حقيقية, نتعلم من هذا
الكتاب كذلك الكثير عن تفكير أحد رجال الدولة المثاليين في هذا القرن.(
جورج بوش الأب,رئيس الولايات المتحدة 1989 - 1993.)
يعد لي كوان يو, بذكائه المتوقد وفكره الثاقب واحدا من أعظم رجالات
الدولة وأكثرهم صراحة, وأوفر من حظي بالتوقير والاحترام..( هنري
كيسنجر, وزير خارجية الولايات المتحدة 1973 إلى1977م.)
من خلال هذه المذكرات, سيكتسب القارئ رؤية عميقة لشخصية
سنغافورة المميزة, وسيكتشف الفوارق المهمة بين الشرق والغرب, بين
أوروبا وآسيا.(جاك شيراك الرئيس الفرنسي السابق.)
ليس من قبيل المبالغة, إطلاق لقب "معجزة" على تجربة سنغافورة, التي
نهضت من نقطة قريبة من الصفر, لتقف بين عمالقة آسيا الصناعيين الكبار,
فهذه الدولة – الجزيرة التي لا تتعدى مساحتها 214 ميلا مربعا,
والمحرومة من النفط والثروات الباطنية, استطاعت خلال أربعة عقود,
بقيادة لي كوان يو المتبصرة, أن ترفع دخل الفرد من 400 دولار عام 1959,
إلى 22 ألف دولار عام 1999, وتصبح حاضرة متلألئة, تبهر أنظار حتى هؤلاء
الذين يتربعون على عروش السلطة والمال في الغرب الرأسمالي
و"قصة سنغافورة", هي الجزء الأول من مذكرات لي كوان يو, وهي
تؤرخ للمرحلة الأولى, مرحلة التأسيس, التي تبدأ في عشرينيات القرن,
وتنتهي بالاستقلال 1965, أما الجزء الثاني من المذكرات والذي عنونه
المؤلف باسم "من العالم الثالث إلى الأول", فهو كتاب مرحلة البناء التي
استمرت حتى عام 2000, وهو عام تنحي المؤلف عن منصب رئيس الوزراء, الذي
شغله بالانتخاب الديمقراطي الشرعي طيلة 40 عاما.
ولد لي كوان يو في سنغافورة عام 1923, لأبوين من أصول صينية, ودرس
المرحلة الثانوية في إحدى الكليات البريطانية في الجزيرة, وتزامنت
مرحلة شبابه الأولى مع اندلاع الحرب العالمية الثانية, والاحتلال
الياباني للبلاد وقد تركت تلك الفترة ذكريات لا تمحى من ذهن الفتى, عن
وحشية الحرب وقسوة الجنود اليابانيين, كما أدى الانهيار السهل
للإمبراطورية البريطانية في شرق آسيا على يد القوات اليابانية التي
تبلغ نصف تعداد نظيرتها من قوات الحلفاء, إلى طرح تساؤلات مهمة حول
مصداقية الإمبراطوريات القديمة وقدرتها على البقاء, وقد ترك كل هذا
بصماته على أسلوب ومنهج تفكير السياسي المقبل
وبعد انتهاء الحرب, وعودة البريطانيين إلى الجزيرة, سافر المؤلف
لدراسة المحاماة في جامعة كامبريدج في إنجلترا, حيث بدأ بتكوين أولى
أفكاره عن العمل السياسي, وبدأ إثر عودته للوطن في 1950م بالمشاركة
النشطة في العمل السياسي, حيث قام مع مجموعة من السياسيين الشبان
بتأسيس حزب جديد هو حزب" العمل الشعبي" (1954), ذي التوجه الاشتراكي
على الطريقة الغربية, وبسرعة أصبح لي كوان يو زعيما للمعارضة, وتمكن
حزبه من الفوز بانتخابات 1959م بأغلبية ساحقة (43 من أصل 51 مقعدا),
وتم اختياره من قبل الحزب ليصبح رئيسا للوزراء, وبدأت بذلك مرحلة
التأسيس, التي بدأها بنجاح, بتنفيذ عدد مهم من الإصلاحات الإدارية
والمالية ومحاربة الفساد, وتدارك العجز المالي للحكومة وتحقيق وفر جيد
بعد عام واحد فقط من توليه السلطة.
وبدأت منذ ذلك الوقت معركته السياسية مع الشيوعيين, الأقوياء في
الجزيرة والمدعومين من الصين, واستطاع السياسي الحاذق الاستفادة من
تكتيكات خصومه وتبنيها, لاجتذاب الكتلة الجماهيرية الموالية لهم, ومن
هذه التكتيكات, النزول إلى الشارع والإسهام في الأعمال التطوعية مثل
تنظيف المدينة وصيانة المرافق العامة, ولم يكن من غير المألوف في تلك
الفترة رؤية رئيس الوزراء ممسكا بمكنسة وهو يقوم برفقة وزرائه وكبار
المسؤولين في الدولة بتنظيف الشوارع القذرة والتقاط القمامة, كما
استطاع رئيس الوزراء الشاب توجيه ضربة قاصمة للشيوعيين باستمالة
النقابات العمالية في الجزيرة, مستفيدا من خبرته السابقة كمستشار
قانوني نقابي من جهة, وعبر رفع شعارات الخصوم وتبنيها من جهة ثانية في
العديد من المجالات السياسية والاقتصادية الأمر الذي ترك هؤلاء في وضع
لا يحسدون عليه, وتضمنت حملاته السياسية والإعلامية الهادفة لكسب
الشارع الشعبي كذلك رفع لواء تحرير المرأة وإعطاءها كامل حقوقها وهي
النقطة التي كان الخصوم يعتمدون عليها بشدة لكسب نصف المجتمع, وترافق
ذلك مع حملات جدية وصارمة لمحاربة مظاهر الانحطاط الأخلاقي في الجزيرة
وأهمها الدعارة المنظمة وتحجيمها إلى أبعد حد ممكن.
وقد أثمرت هذه السياسة النشطة بشكل سريع, لكن الخصوم لم يستسلموا
بسهولة, واضطر لي كوان يو إلى التراجع التكتيكي مرات عدة, لكنه استطاع
أن يكسب جميع الجولات, وقد وصل الأمر إلى طرح الثقة بالحكومة على
التصويت في البرلمان في إحدى المرات, وفازت بالثقة مجددا, ولم يقتصر
الأمر على مقارعة الخصوم في الخارج, فقد كان على الرئيس الجديد خوض
صراعات قاسية داخل حزبه الذي تعرض لانشقاق قامت به إحدى الكتل التي
انفصلت لتأسيس حزب جديد هو حزب (باريسا سوسياليس), كما تعرض حزب العمل
الشعبي لهزة أخرى إثر إخفاق مشروعه للاندماج ضمن الاتحاد الماليزي
(1963), واضطرت الحكومة للإعلان عن ولادة جمهورية سنغافورة المستقلة,
وسط محيط معاد من 300 مليون إندونيسي وماليزي تحيط دولهم بالجزيرة
الصغيرة إحاطة السوار بالمعصم, وقد كان من الواضح للعيان أن المرحلة
المقبلة, مرحلة بناء الدولة, بعد خروج البريطانيين, ستكون محفوفة
بالمصاعب.
الجزء الثاني من مذكرات لي كوان يو يغطي هذه المرحلة, مرحلة البناء
الصعب في الأرض اليباب, وكانت الدولة الحديثة الاستقلال حينها تواجه
ثلاثة تحديات رئيسة, الأول هو انتزاع الاعتراف الدولي بسنغافورة
وقبولها بشكل رسمي في الأمم المتحدة, والثاني هو بناء جيش عصري قوي
يضمن الحفاظ على الأمن والقانون, أما التحدي الثالث وهو الأكثر أهمية
وصعوبة فهو بناء اقتصاد وطني قوي في بلد صغير يفتقر إلى الثروات
الطبيعية, وكل ذلك دون المساس بالطبيعة الديمقراطية البرلمانية للدولة
وبدأ استقطاب الشركات العالمية الكبرى لاستثمار أموالها في
سنغافورة, وكانت أولى هذه الشركات هي "جنرال إلكتريك" الأمريكية, وشركة
فيليبس الهولندية, ثم توالت سلسلة من العقود الكبرى مع شركات أجنبية من
جميع الجنسيات, والتي أمكن اجتذابها إلى الجزيرة, بفضل السياسة الذكية
والعملية للقيادة السياسية التي يرأسها لي كوان يو, الذي حرص منذ
البداية على تأسيس القاعدة الأساسية من أبنية ومنشآت أقيمت بمواصفات
عالمية ممتازة, بدءا من مستودعات التخزين, وأبنية المصانع, وانتهاء
بمساكن المهندسين الأجانب والخبراء التي تحيط بها الورود وملاعب التنس,
بحيث كانت العروض المقدمة من الحكومة السنغافورية شيئا يصعب رفضه من
قبل الشركات التواقة إلى التوسع عالميا في بيئة تتوافر فيها اليد
العاملة الرخيصة, والمنشآت الجاهزة, والاستقرار الأمني والسياسي في ظل
حكم ديمقراطي برلماني, معروف بنزاهته, وانخفاض معدلات الفساد في أجهزته
الإدارية. ونجحت التجربة بشكل فاجأ أصحابها أنفسهم, وتحولت سنغافورة
إلى مركز تجاري وصناعي وتخلصت من هاجس الزوال أمام تحدي الدول المجاورة
العملاقة وبعد أن أنجز الحاكم العبقري ما
أنجز, أضاف لمسة جميلة أخرى إلى لوحته الأخاذة, عندما قرر التنحي عن
منصبه كرئيس وزراء منتخب, بعد 40 عاما من الحكم, ليقدم لبلده هدية
أخيرة وهي تحرير أنصاره ومحبيه الكثير من شبح عبادة الزعيم, ولو كان
هذا الزعيم قد وصل إلى سدة الحكم بالانتخاب الشرعي والديمقراطي.
وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر
المذكور نصا ودون تعليق.
المصدر:aleqt-1-1-2007
|
|