مفارقة التقدم الصيني: اقتصاد يتجاوز مجتمعه!

 

آلفن توفلر

 

 

بعد مضي وقت طويل على انطلاقة نموها الاقتصادي السريع، شرعت الصين مؤخراً بتسريع برنامج آخر، مواز لسرعة نموها الاقتصادي، ألا وهو برنامجها الخاص بالتغيير الاجتماعي، والذي يرمي إلى تحقيق "المجتمع المتوازن" الذي اختطه الرئيس هو جينتاو. غير أن ما يستبطنه هذا الإلحاح الرئاسي الصيني على تنفيذ برنامج "المجتمع المتوازن"، هو ذلك الاعتراف الضمني من جانب هو جينتاو، بحقيقة أن البلاد باتت تواجه اليوم أكثر من أي وقت مضى، تزايداً ملحوظاً في الاختلالات الاجتماعية السائدة، وهي حالة خطيرة تنذر بهز بنى السلطة وهياكلها، إضافة إلى خلخلتها لمؤسسات المجتمع الرئيسية الأخرى، مهددة بذلك تماسك وانسجام المجتمع الصيني نفسه.

وفي الوقت الذي أشارت فيه التقارير السنوية الصادرة هذا العام حول مستوى أداء الاقتصادي الصيني، إلى تحقيقه أرقاماً مضاعفة في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الأخيرة الماضية، حيث بلغت نسبتها 10.7 في المئة للعام الماضي، إلا أن الحزب الشيوعي الصيني وجهاز الدولة الحاكم الموالي له، قد تشاركا معاً في إهمال سلسلة طويلة من المشكلات الداخلية الأخرى. وقد أدى انعدام التجانس هذا في مستويات الاهتمام والتطور، إلى حالة من التنافر والتناقض بين الاقتصاد القومي والبنية الاجتماعية الداعمة له. وللحقيقة فقد سجل تقرير "أندي روثمان" لعام 2007، المحلل المالي بشركة CSLA المالية ذات التوجهات الآسيوية، الكثير من هذه المشكلات والمصاعب، أثناء تناوله للمستقبل الاقتصادي المالي للصين. وفي مكتبه بشنغهاي، أمضى "روثمان" سنوات طويلة من إقامته في بكين، في مراقبة هذا اللاتجانس الذي بات يهدد تماسك المجتمع الصيني نفسه.

ومن أهم ما خرج به روثمان من ملاحظات واستنتاجات، أن مثل هذه الظواهر والمصاعب التي تواجهها الصين اليوم، لا تنشأ عادة إلا في تلك النظم الاجتماعية التي فشلت في مواكبة تسارع النمو الاقتصادي الجاري فيها. بعبارة أخرى، فإن ظواهر الفقر والتفاوت الاجتماعي وضعف القطاع الخدمي المعني بخدمة المواطنين ورفاههم الاجتماعي... أو بعبارة أخرى انعدام التوازن بين التقدم الاجتماعي ومعدلات النمو الاقتصادي القومي، إنما هي ظواهر خاصة بتلك المجتمعات التي تتخلف اجتماعياً في موازاة التقدم الاقتصادي. ومن هنا ينشأ التناقض وتبرز المفارقة.

وعلى سبيل المثال، ومن أجل الوقوف على حالات محددة في إبراز هذه المفارقة، فقد تأكد أن نظام الرعاية الصحية الصيني، يعاني من مشكلات كبيرة وعميقة، ليس أقلها ما تبيّن من سوء استجابته لأزمة وباء "سارس". والجديد الذي أضافه روثمان إلى ملاحظته هذه، أن نظام الرعاية الصحية هذا، يعاني أوضاعاً سيئة في الريف الصيني النائي، مقارنة بما هو عليه من سوء وتدن في المدن والمراكز الحضرية الكبيرة. وبالنتيجة هي أن يستمر اتساع الهامش أو الفجوة الفاصلة بين الريف والمدينة في مستوى الخدمات الصحية، بحيث يرتفع معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة في الريف، بحوالي مرتين إلى ثلاثة أمثال ما هو عليه معدل الوفيات نفسها في المدن. ليس ذلك فحسب، بل تكاد نسب وأرقام التفاوت نفسها تنطبق كذلك على حالات الإصابة بسوء التغذية والأعراض والمضاعفات المرضية المرتبطة بها، وذلك بين الريف والحضر. أما في مجال توفير خدمات مياه الشرب النقية للمواطنين، فقد أشار التقرير إلى أن نسبة 20 في المئة من سكان الريف يستهلكون مياهاً غير آمنة صحياً، في حين لا تتوفر المراحيض الصحية لنسبة تصل إلى 80 في المئة من سكان الريف الصيني. والأسوأ من ذلك كله أن نسبة 70 في المئة من أطباء القرى والأرياف الصينية، لا يزيد مستوى تأهيلهم الدراسي على المرحلة الثانوية، إضافة إلى تلقيهم تدريباً وتأهيلاً طبيين لا تتجاوز مدتهما القصوى 20 شهراً فحسب.

إلى ذلك أشار التقرير إلى تعرض الأنهار والبحيرات الصينية إلى درجة عالية من درجات التلوث البيئي. وضمن هذه الملاحظات على الجبهة البيئية، أوضح التقرير أن نسبة 90 في المئة من المياه الجوفية في المدن والمراكز الحضرية الصينية تعد ملوثة، وأنه ليس مستبعداً، وذلك وفقاً للمعطيات والمؤشرات البيئية الراهنة، أن تقود الصين ركب العالم كله في مجال انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات السامة الأخرى بحلول عام 2010.

وإلى ذلك كله، يمكن أن نضيف أيضاً تفشي ظاهرة الفساد، وضرورة زيادة الإنفاق بما يصل إلى أرقام فلكية على النظام التعليمي في الريف بصفة خاصة، إلى جانب الحاجة الملحة والمتزايدة لاستحداث تحسينات واسعة وشاملة بهدف الارتقاء بنوعية وسلامة الصادرات الصينية... فإن كل ذلك مما يستوجب الوقوف والدراسة، متبوعاً في ذات الوقت بإعادة النظر في ذلك الاعتقاد الساذج والواهم بقدرة استمرار الصين في المضي بخط تصاعدي على نمط نموها الاقتصادي الحالي.

وفي كتابي الأخير "الثروة الثورية"، كنت قد لفت النظر إلى مخاطر تنامي الاضطرابات الداخلية التي ستهدد تماسك المجتمع الصيني في المستقبل. وحسبما أشارت تقارير وإحصاءات المسؤولين الصينيين أنفسهم، فقد سجلت 84 مظاهرة من المظاهرات الشعبية العامة التي شهدتها مختلف أنحاء الصين، بينما اتسم بعضها بالعنف والفوضى، في حين ارتبطت أخرى بدوافع الاحتجاج الديني.

وعند الأخذ بكل هذه الاعتبارات مجتمعة، فقد استنتج روثمان حتمية وضرورة حدوث تراجع في أداء الاقتصاد الصيني خلال السنوات الخمس أو العشر المقبلة. والأكثر لفتاً للانتباه، المقارنة التي أجراها تقرير "روثمان" بين اضطراب الأوضاع الداخلية في الصين، بسلسلة الثورات والاضطرابات التي شهدتها أوروبا في عام 1848 واشتعلت نيرانها من باريس إلى برلين، ومن وارسو إلى فيينا وصولاً إلى البندقية، مع صعود المد الثوري الفوضوي، واهتزاز العروش وخواء البلاطات الحاكمة من قادتها وملوكها. وبينما يحف الخطر عادةً مثل هذه المقارنات التاريخية غير المؤسسة، فربما بدت هذه المقارنة التي عقدها روثمان بين الأوضاع الحالية في الصين، وتلك التي سادت أوروبا قبيل اندلاع الثورات الفوضوية، مبالغاً فيها نوعاً ما... فإنه ليس من عجب أن تبادر القيادة الصينية غير المشكوك في ذكائها، نحو الدعوة إلى تحقيق مجتمع صيني أكثر توازناً في المستقبل!

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"-18-10-2007