مشكلة الصين.. ازدهار المدن ومعاناة الريف

 

  

محمد الخولي 

 

عيون بلا حصر ظلت ترمق الصين خلال سنوات العقد الماضي بنظرات يخالطها العجب والإعجاب، إزاء ما أصبح يوصف في أدبيات السياسة الدولية بأنه «المعجزة الصينية». لقد أصبحت منجزات هذه المعجزة في مجال التنمية.

ومن ثم القفزات الاقتصادية حديث الأوساط المالية والإنمائية في العالم، خاصة حين سجلت بكين معدلاً سنوياً غير مسبوق في مجال التنمية بلغ 12 وأحيانا 13 في المئة، ولكن يبدو أن العيون التي كانت تتابع هذه الإنجازات الصينية كانت تضم بين جموعها عيون الحاسدين إن صح التعبير.

إن حقيقة هذا الإنجاز، المبهر على السطح وقد تجلت معالم ازدهاره في عواصم البلد الآسيوي الكبير ومدائنه، كانت وما زالت تخفي تحت هذا السطح عوامل من التخلف والحرمان ومن الفقر المدقع إلى حد المسغبة.

وبالتالي من مشاعر الإحباط وافتقاد الشعور بالمساواة أو تكافؤ الفرصة، مما يهدد موضوعياً بترجمة كل هذه المشاعر السلبية إلى حركات رفض وتمرد تحدق بخطر واسع وجسيم على النظام السياسي القائم في بكين بأكمله.

كل هذه الإحباطات، كل هذه المخاطر يعيشها سكان الأرياف في الصين الذين يصل عددهم إلى نحو 800 مليون نسمة من فقراء الريف ومعدمي الفلاحين، لقد نجحت المدينة الصينية ولكن لم تصل ثمار هذا النجاح إلى القرية الصينية.

وتقدمت بل وازدهرت الحاضرة الصينية، ولكن ظلت الأرياف في ذلك البلد تعاني التخلف والفقر والشقاء، ذاق سكان المدن كل ما جادت به حضارة القرن الحادي والعشرين.

ولكن ظل سكان الريف يرسفون في غائلة البؤس لأن التحولات الاقتصادية (وبعضها يحمل وصف الإصلاحات) انحازت إلى المدن وسكانها الذين اشتغلوا في المصانع وقاموا بتصدير منتوجاتهم واستثمروا عائد إنتاجهم في أنشطة البورصات والحوافظ المالية السخية.

فيما ظل فلاحو الصين، يعانون تحولات مجتمع الصين من النشاط الزراعي الكفافي في بعض الأحيان إلى النشاط العقاري، فكان أن ضاعت عليهم أرضهم الزراعية لصالح كبار المستثمرين العقاريين.

بل خسروا فوق البيعة كل ما سبق أن التزمت به الدولة (الشيوعية أو الاشتراكية) في العهود التي تلت ثورة الصين الكبرى في عام 1949 من ضمان الحد الأدنى إنسانياً ـ اقتصادياً، من مجانية التعليم أو مجانية الرعاية الصحية، مما كان يعين تلك الملايين الحاشدة الفقيرة من الفقراء الآسيويين على مشقة الحياة ومشاكلها.

وسط هذه الملابسات انعقد في أوائل مارس الحالي «مؤتمر الشعب الوطني»، وهو بمثابة برلمان الصين الذي يجتمع مرة واحدة سنوياً، وتستغرق اجتماعاته 10 أيام متتالية.

وأمام هذا الحشد من مندوبي الشعب الصيني وممثليه ألقى رئيس الوزراء «ون جيابو» خطاب «حالة الأمة» السنوي التقليدي، فإذا بالخطاب يكشف عن أن الأمة الصينية تعاني حالة من الانقسام الحاد بين سكان المدن ونظرائهم ومواطنيهم من سكان الأرياف. ويُحمد لحكام الصين الحاليين أنهم اعترفوا بما وصفه خطاب رئيس الوزراء بأنه «معاناة الصين الريفية».

في حين وعد الخطاب بمواصلة مسيرة التنمية متوخياً زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8 في المئة وهي نسبة متواضعة (في ضوء مقاييس الصين المرموقة موضوعياً)، في حين أن النسبة الحقيقية كما يتوقعها خبراء الاقتصاد العالمي تصل إلى 9,9 في المئة (انظر الايكونوميست البريطانية، عدد 13 ـ 3).

ثمة خبراء عالميون، سياسيون هذه المرة، يحذرون من مغبة استمرار شعور الاستياء والإحباط بين ملايين الريفيين الصينيين، بعضهم يستعيد ذكريات تاريخ منتصف القرن الماضي قائلاً:

لا تنسوا أن ثورة ماو تسي تونغ، التي دمرت نظام كاي شنغ القديم، وغيرت كل مرافق الحياة في الصين، كانت في جوهرها ثورة فلاحين، وإن أرياف الصين كانت قاعدة انطلاق المسيرة الكبرى لزعيمها ماو ورفاقه وتعاليمه.

ولا يفوت المراقب السياسي أيضاً أن سكان المدن الصينية، ومنهم طبعاً الطبقات النافذة في صفوف الحزب والحكومة، لها مصلحة أكيدة في إصلاح، بل المسارعة إلى إصلاح الريف.

وإلا فإن فرص العمل وأسباب الرزق التي كادت تنقطع سوف تدفع ملايين الريفيين للنزوح إلى المدن، ومن ثم تصبح الهجرة إلى الحضر كابوساً، وربما كارثة تؤدي إلى خلل التوازن الديموغرافي ومن ثم المعيشي والاقتصادي.

بل والأمني في كل ربوع الصين، صحيح أن لديهم قوانين تقيّد الهجرة من القرية إلى المدن، لكن من يستطيع أن يقف بوجه جحافل من ملايين النازحين التماساً لرفاهية السيارة أو المكيف أو التلفاز أو الحاسوب، بل بحثاً ببساطة عن لقمة العيش التي تقيم أَوَد الحياة، يبقى السؤال المطروح هو: هل تعاني الصين أزمة فادحة وشيكة الوقوع؟

وربما تكون الإجابة على النحو التالي: الصين بلد أصبح من الضخامة السكانية، ومن القدرة الإنمائية، ومن المهارة في إدارة الشأن الاقتصادي ـ السياسي لدرجة تصعب معها الإجابات الحاسمة أو القاطعة على مثل هذه التساؤلات.

صحيح أنه يعاني أزمة إحباط وتوترّ في الريف، لكن الصحيح أن عجلة التنمية الاقتصادية ما برحت تدور بصورة مرموقة بكل المقاييس: بكين تتاجر مع أميركا فإذا بها تغمرها بمصنوعاتها وإذا بالميزان التجاري يتحول لصالح الصين بمعدل 200 مليار دولار.

وكانت الصين قوة مكروهة أو على الأقل غير مريحة في منطقتها الإقليمية (جنوب الشرق الأقصى وجنوب الباسيفيكي الممتدة من إندونيسيا إلى استراليا ونيوزيلندا)، فإذا بها وقد أصبحت، كما يقول الخبير السياسي الاسترالي ملتون أوزبورن، «القوة الإقليمية الأولى في جنوب شرقي آسيا»، وليست المسألة بالدعاية أو الطنطنة السياسية:

إنها المنجزات الاقتصادية واتفاقات التعاون التي أبرمتها بكين مع دول المنطقة وفي مقدمتها إندونيسيا (زادت صادراتها إلى الصين في العام الماضي بنسبة 232 في المئة)، وخاصة من البترول (تأمل هنا سياسة الصين في تنويع مصادرها النفطية حتى لا تعتمد على المصدر الإيراني وحده كما كان متصوراً).

أما استراليا فهي بسبيل تصدير خامات الحديد واليورانيوم (اللازم للطاقة النووية)، فضلاً عن الغاز الطبيعي الذي سيبدأ ضخه في شهر إبريل المقبل.

وقد بلغ من ازدهار العلاقات أن أصبحت الصينية هي اللغة الأجنبية الأولى في استراليا (جين بيرلتز ـ نيويورك تايمز عدد 14 مارس 2006).

وسط هذا كله يعقد رئيس الوزراء الصيني مؤتمراً صحافياً بعد اجتماعات البرلمان، يبادره صحافي مشاغب بسؤال عن الإصلاحات السياسية، وعن الديمقراطية وعن مآل الحريات والانتخابات.. الخ. يرد السيد جيابو في هدوء آسيوي مطبوع قائلاً: سيدي، سوف أحيلك إلى أديبكم الكبير جورج برنارد شو حين قال لا معنى للحرية بغير المسؤولية.

*كاتب مصري

 وكل ذلك بحسب رأي محمد الخولي في المصدر المذكور.

المصدر: البيان الإماراتية-23-3-2006