البطالة في المجتمع العراقي و تغذية الإرهاب!
ضياء الجصاني
صار بوسع المراقب والباحث في الشأن العراقي، ان يلمس لمس اليد حجم البطالة، التي ضربت أطنابها في المجتمع والاقتصاد في العراق، وتحسس نتائجها وآثارها المدمرة في مجالات الحياة كافة، وليس من باب المبالغة القول، انها قد اصبحت اليوم تمثل مأساة حقيقية، وهي تهدد جوانب مهمة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية كافةً. وقد أدمت الشخصية العراقية، وهي تهدر باستمرار حقوق الفرد وإنسانيته، التي كفلتها له الشرائع السماوية، والقوانين الوضعية وجميع المواثيق والاتفاقيات الدولية كافة بخاصة منها ما يتعلق بحقوق الإنسان، بعد ان ضربت شرائح واسعة ومهمة، من فئات القادرين على العمل والمؤهلين له، من مختلف الأعمار وفي المجالات والتخصصات جميعها. وكان خريجو الجامعات والمعاهد وذوو المؤهلات الفنية والتقنية، من الشباب بمختلف الفئات العمرية، اكثر من عانى وما زالوا يعانون من البطالة، بعد ان تعذرت عليهم فرص العمل التي أعدّوا لها، على مدى سنوات طويلة من الدراسة والتدريب والتأهيل. وظهرت البطالة المقنعة، وهي الوجه الآخر لأزمة البطالة في مجتمعنا، والذراع الثانية لهذه الازمة (المستدامة)، لتمسك بخناق من وجد فرصةً بائسةً للعمل على الارصفة، او في اعمال خدمية ومهن تافهة ولا تتناسب ومؤهلاتهم. وكانت الهجرة هي البديل الأكثر مرارةً لشريحة أخرى من الشباب، الذين وجدوا لهم بصيصاً من الأمل، خارج حدود الوطن، فسعوا له وهم يولون الادبار اهلهم ومجتمعهم مضطرين لا مختارين. وتعكس جميع الحالات السابقة امثلةً مؤلمةً، لما يتكبده المجتمع من خسائر قد لا تعوض، تطال ثروته البشرية وطاقة العمل وقواه النشطة، التي اهدرت بتعطلها او بزجها في مجالات، غير منتجة وفي مجالات تافهة وفي غير ما اعدت له هذه القوى. او انها قد أعطيت للغير خارج الوطن وبالمجان، بعد ان تحمل الاقتصاد الوطني، تكاليف تعليمهم واعدادهم ليكونوا جزءاً حيوياً من الثروة الوطنية. يتضح مما تقدم ان البطالة بكل اشكالها البشعة، هي في حقيقتها انموذج سيئ من نماذج الهدر المتعسف والمفرط للموارد البشرية الفاعلة، وهي الظاهرة السلبية الأكثر ايلاماً للفرد وللمجتمع وللدولة على السواء، وهو ما يضعها في مكان الصدارة من جميع البرامج والخطط الوطنية، التي تهدف الى النهوض بالمجتمع، وتأهيل الاقتصاد الوطني وخلق المقدمات الضرورية، لتنمية مستدامة والتصدي لمعضلاتنا المزمنة بجدية وبحزم مؤكدين.ولعل العمل على مواجهة ( الظاهرة ) والحدّ منها، وخفض معدلاتها الى معدلات مقبولة نسبياً، وتعدّ معقولةً على وفق المعايير الدولية المعمول بها، سيتطلب وقتاً غير قصير تعززه جهود صادقة ودائبة وعزم مؤكد، بخاصة ونحن نمرً بمرحلة صعبة، من مراحل التحول نحو العالمية واقتصاد السوق والتعددية السياسية، وهو ما يفرض علينا خيارات صعبة ومحدودة للغاية، لمواجهة واحدة من أكثر مشكلاتنا تعقيداً ولا مناص لنا من مواجهتها.ولمتابعة الآثار المدمرة للبطالة، ورصد ما يترتب عليها من نتائج خطرة، تنعكس سلباً على السلوك والشخصية في المستويين الفردي والاجتماعي، سوف نعمد الى معاينة الظاهرة في أطرها العامة المتوقعة، والتي هي بتقديرنا شخصية الفرد العاطل نفسه، ومن ثمً الاسرة كواحدة لأشمل، اطار العلاقة بين الدولة والمجتمع والفرد، بعدها شرطاً لتحقيق المستوى الضروري من ( الرضا) والرفاهية لدى الفرد. ولعل توفر الرضا أو (العيش الرضي) كما يسمى ايضاً، وفي بحبوحة من الكفاية المعاشية اللازمة لرفاهية الفرد، هما الاساس الذي يقوم عليهما ( الأمن المجتمعي)، وتتعزز بهما ثقافة التسامح و (اللاعنف)، وتزدهر في رحابهما الثقة بين افراد المجتمع، وبين المجتمع من جهة والسلطة من جهة أخرى، بما يؤدي بالضرورة الى تكريس هيبة الدولة، وتعزيز قوة القانون واستقرار النظام السياسي كمحصلة نهائية للعناوين السابقة. من المؤسسات المجتمعية المؤثرة، لنتحول بعد ذلك الى معاينة النسيج الاجتماعي العام ومناشط الاقتصاد الوطني، وبعد هذا وذلك سنبحث الظاهرة، في اطارها الأشمل، اطار العلاقة بين الدولة والمجتمع والفرد، بعدها شرطاً لتحقيق المستوى الضروري من ( الرضا) والرفاهية لدى الفرد. ولعل توفر الرضا أو (العيش الرضي) كما يسمى ايضاً، وفي بحبوحة من الكفاية المعاشية اللازمة لرفاهية الفرد، هما الاساس الذي يقوم عليهما ( الأمن المجتمعي)، وتتعزز بهما ثقافة التسامح و (اللاعنف)، وتزدهر في رحابهما الثقة بين افراد المجتمع، وبين المجتمع من جهة والسلطة من جهة أخرى، بما يؤدي بالضرورة الى تكريس هيبة الدولة، وتعزيز قوة القانون واستقرار النظام السياسي كمحصلة نهائية للعناوين السابقة. أولاً : المجال الشخصي للفرد العاطل يعد حق العمل واحداً من الحقوق الاساسية للإنسان، وهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المواطنة، اذ يمثل مركز الثقل ونقطة التوازن، بين حقوق الفرد (المواطن ) من جهة، وبين واجباته وما هو ملزم به لمجتمعه، وملتزم به من جهة أخرى. ولعل ( حقً الحصول على العمل المناسب )، هو في النهاية شرط لا مناصً منه، لضمان مستوى معاشي لائق ودائم، يضمن للفرد قدرته على تلبية مطالبه اليومية، ويؤمن له ما يكفي من الشروط الضرورية، اللازمة لإشباع حاجاته الحياتية المتنوعة، بشكل دائم ومتوازن وبما يحقق له مستوى من(الكفاية ) لا (الكفاف ). ويبدو من المؤكد ان العيش بمستوى الكفاية وليس الكفاف، فضلاً عن كونه احد الحقوق الأساسية للإنسان، فهو من الناحية الأخرى يعد شرطاً جوهرياً، من الشروط التي تنهض عليها (المواطنة)، وهو شرط لا لبس فيه ولا جدال حوله، ولقد ( كاد الفقر ان يكون كفرا). وأزاء هذه المواضعات فان فقدان العمل، او تعذر الحصول على الوظيفة المناسبة، لأسباب خارجةً عن ارادة الفرد، يعني في النهاية فقدان الفرد لمصدر دخله، الذي يعد ضرورياً لتأمين شروط الحياة الكريمة، له شخصياً أو لمن يعيلهم، وهو ما قد يضعه امام خيارات صعبة، فقد يلجأ تحت ضغوط الحجة الملجئة، الى الاعتماد على الغير في تدبير بعض مفردات حياته اليومية، أو لتغطية تكاليف حاجاته المعيشية، وفي هذه العوامل ما يكفي لإيقاعه تحت تأثير مشاعر الدونيةInferiority ))، والانتقاص من الذات، فضلاً عما يصاحب هذه المشاعر المؤلمة من الاحباط والاحساس بالفشل، وهي جميعها مشاعر وأحاسيس سلبية، تؤدي بالفرد الى حالة دائمة من التوتر والشعور بالضيق، والعجز عن التكيف مع متغيرات الحياة الاجتماعية، وحالات يتعذر التنبؤ بها من اضطرابات السلوك والشخصية. وفضلاً عما تقدم فإن الفرد العاطل عن العمل، غالباً ما يفقد الشعور بالرضا عن الذات وعن الجماعة، وهو يفقد احساسه بقيمة ( الحياة المنتجة )، مستسلما لمظاهر انفعالية مؤذية كالحسد والغيرة، وكراهية الذات والآخرين واليأس وإساءة الظن بالهيئة الاجتماعية بشكل عام، هذا الى جانب ما هو متوقع في مثل هذه الحالات، من نوبات الاكتئاب التي تمسك بتلابيب الفرد العاطل، لتشل ما بقي من نشاطه وفاعليته.ان خطورة هذه المشاعر والاحاسيس التي تستحوذ على الفرد العاطل، وان بدرجات مختلفة، تكمن في كونها من وجهة نظر علم النفس وعلم الاجتماع، مقدمات خطيرة من شأنها ان تمهد لتفكك المنظومة القيمية لديه، ليكون مستعداً على المستوى النفسي / القيمي، للانخراط بانواع من (السلوك المضاد للمجتمع )، والتورط في أشكال يصعب التنبؤ بها من الانحرافات السلوكية، والتورط في انواع من الجريمة لا تعد ولا تحصى. ثانياً : في المجال الأسري يظهر هذا المجال في الحالات التي يكون فيها العاطل مسؤولاً عن اعالة آخرين،وهو ما يعني ان مسؤولية الفرد ستتعدى ما ذكرناه في المجال الشخصي، وان ما يترتب على البطالة من نتائج سلبية، سيتجاوز حدوده الشخصية، الى ما قد يلحق الاسرة برمتها من اضرار بالغة الخطورة، لعل من ابرزها وقوع العائلة في دائرة (الفقر)، بكل ما قد يترتب على ذلك من نتائج ومردودات سلبية معروفة، من بينها (التفكك الاسري)، وما قد يفضي اليه من التشرد أو التسول، واللجوء الى اساليب الكسب غير المشروع، أو السقوط في وهاد السلوك الاجرامي والبغاء. وتؤشر جميع الحالات السابقة من تصدع (نظام العائلة) والتفكك الأسري، الى تحول العائلةعن أدوارها الاجتماعية والانسانية البناءة، كمؤسسة للتنشئة والتربية السليمة، الى واحدة من مصادر الانحراف والجريمة، التي تهدد الهيئة الاجتماعية ككل والسلم الأهلي بخاصة، وهي تضخ للمجتمع المزيد من المتسكعين والمنحرفين والمتعطلين عن العمل. ثالثاً : في المجال الاجتماعي الاقتصادي يعدّ المجتمع وبناه الاقتصادية، السلة التي تتلقى كل مفرزات البطالة، سواء منها ما كان في المستوى الشخصي او في المجال الاسري، وما يرشح عن هذين المجالين من نتائج ان خيراً أو شراً، فان مآلها الهيئة الاجتماعية وبناها الاقتصادية، التي هي بمثابة العمود الفقري لها. وان مقذوفات المجالين السابقين، مما يترتب على البطالة من نتائج تعنيهما، انما ينتهي اخيراً الى السلة الاجتماعية، ومن المعروف ان هذه النتائج في معظمها، تشكل تهديداً جدياً ومباشراً لـ (النمو الاقتصادي) و( السلم المجتمعي). وفضلاً عما تقدم فان ما ينتج عن البطالة من تدنٍ في معدلات الدخل، وما يؤدي له من تدهور في القدرات الشرائية، يحمل معه الكثير من النتائج غير الحميدة، بخاصة منها تلك التي تنعكس على النشاط الاقتصادي العام، لعل من بينها تباطؤ نمو الاقتصاد، وتراجعه كلياً فيما بعد وتلكؤ التنمية، وهو ما يعني فقدان المزيد من الوظائف وفرص العمل، بما يؤدي الى ضخ افواج جديدة من العاطلين، واتساع دائرة الأزمة وتفاقم نتائجها. ومن النتائج الوخيمة على المستوى الاجتماعي، ما شهدنا على عهد النظام المنحل وما نشهده اليوم، من ظاهرة الهجرة الى خارج الوطن، اذ اننا اذا اسثنينا الآن العوامل المرتبطة بظاهرة العنف، وما جلبه التكفيريون والمتشددون، وما استحدثوه من ثقافة الكراهية والشقاق الاجتماعي، وهي ظواهر للبطالة اليد الطولى فيها، فان السعي وراء (لقمة العيش)، والبحث عن فرص العمل (النظيف)، هي في الواقع من اهم دوافع المهاجرين خارج الوطن. ولا يخفى ما للهجرة من من نتائج سلبية سواء على المستوى الاجتماعي، بما فيه المستوى العائلي، او على المستوى النفسي الشخصي، اذ يجد الفرد نفسه بعيداً عن محيطه الاسري والاجتماعي، وهو يفتقد الكثير من مصادر (الدعم) والشعور بالامان، وسيحتاج فترة غير قصيرة لإعادة تأهيل نفسه، وتمثل خصائص محيطه الجديد والتكيف لها، كما ان اخفاقه في هذه المهمة وهو محتمل جداً، سيعني المزيدمن معاناته، وقد يكون كافياً لإضطرابات متنوعة في الشخصية والسلوك، بما يقربه من مصادر الانحراف والعنف والجريمة. ولعل الوجه الآخر للهجرة لايقل ايلاماً عما تقدم ذكره، من نتائجها على المستوى الشخصي والأسري، اذ ان نزوح هذه الأعداد الكبيرة من القادرين على العمل والمؤهلين له، هو في النهاية تفريط جائر بقوة عمل مؤهلة، يكون المجتمع قد خسرها وهو يمنحها بالمجان لدول المهجر. ولعل من بين أشد مفرزات البطالة ونتائجها وطأة على المجتمع العراقي، هي تلك التي ترتبط بالجوانب الأمنية البحتة، اذ البطالة وكما ذكرنا فيما تقدم، تعدّ واحدة من أسوأ مصادر السلوك المضاد للمجتمع، فتحت وطأة الحاجة وضغوط الفراغ، وما يترتب جراؤهما من مشاعر (الاغتراب) والضياع، فضلاً عن عوامل سبق ذكرها في المجالين الشخصي والأسري، يكون العاطلون عن العمل أكثر ميلاً وأشدّ استعداداً من غير العاطلين، للسقوط في شراك والتورط بها، وهم غالباً ما يكونون هدفاً سهلاً، وصيداً في متناول اليد، بالنسبة لشبكات العنف والارهاب والجريمة المنظمة، بكل ابعادها واتجاهاتها وبما تمثله من مخاطر مؤكدة. رابعاً : في مجال العلاقة بين السلطة والمجتمع تمثل البطالة في تداعياتها المتنوعة، مصدراً نشطاً من مصادر التوتر الاجتماعي، وهي في الوقت نفسه، واحدة من أسوأ مصادر ( أزمات ) العلاقة بين السلطة والمجتمع، وهي بجملتها نذير شؤم، يتهدد الروابط والبنى المؤسسية لكليهما، وهو ما ينبئ بتفككهما. فبدلاً من ان تكون العلاقة، بين هذين المكونين الحيويين للدولة وكما هو مأمول، علاقة تفاعل بنّاء وإيجابي، قوامه التعاون والثقة المتبادلة، والنزعة نحو المشاركة المعززة بروح المواطنة، وبروح المسؤولية المشتركة لكل من الفرد والمجتمع والسلطة، فانها تنقلب الى علاقة حذرة، تحكمها عوامل الشك والريبة والتردد، وتسيرها تجاذبات غير متوازنة. اذ غالباً ما تضطر السلطة لتعزيز امنها، تحت ذريعة الحفاظ على النظام العام، وتحقيق الأمن المجتمعي، الى القيام باجراءات امنية لا تخلو من العنف، وغالباً ما تعمل هذه الاجراءات على تصعيد بؤر الصراع، واتساع الهوة بين الفرد والسلطة، وبالتالي بينها وبين المجتمع ككل، ما يؤدي في حالات كثيرة، الى تفكك عرى العلاقة بين مؤسسات الدولة وسلطاتها، وبين شرائح هامة وفاعلة من المجتمع. ولعل تورط السلطة بالمزيد من الفعاليات الأمنية (الاستثنائية)، سيعني فيما يعنيه ارهاق الخزينة العامة بالمزيد من الاعباء المالية، لتمويل برامجها الأمنية، وسعيها الدائب لملاحقة الجريمة والحد منها، او بهدف اصلاح من تورط بها، وهي خسائر ثقيلة يتحمل اعباءها اقتصادوطني نصف مشلول. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر:جريدة الصباح-26-8-2007
|