مستقبلان في انتظار أوروبا

 

 

يوشكا فيشر

 

إن أوروبا اليوم تقدم لنا صورة متناقضة

فهي أرض السلام، والديمقراطية، وحكم القانون. وهي أيضاً أرض الرخاء, فاقتصادها قادر على المنافسة، وعملتها قوية، ومعدلات التضخم لديها منخفضة، ومستويات المعيشة في بلدانها من بين أعلى المستويات في العالم. كما ينعم الأوروبيون بمستويات عالية للغاية من الحماية الاجتماعية، والتعليم الجيد بتكاليف بسيطة، والمعايير البيئية الصارمة، والبنية الأساسية الممتازة.

فضلاً عن ذلك فإن أوروبا تتمتع بتنوع ثقافي لا مثيل له وجمال طبيعي رائع. كل ذلك يبدو في الحقيقة وكأنه حلم المدينة الفاضلة وقد تحقق.

فبتعداد سكانها الذي بلغ 500 مليون نسمة، وسوقها الموحدة الأضخم في العالم، تحولت أوروبا إلى عملاق اقتصادي، حتى ولو لم يكن العالم ينظر إليها باعتبارها اتحاداً حقيقياً, إلا أن أوروبا على الصعيد السياسي عبارة عن قزم متضائل.

فنحن نعيش الآن قرن الدول الضخمة، والحقيقة أن المزيد من نهوض الصين، الهند، الولايات المتحدة، واليابان سرعان ما سيجعل أعظم القوى الأوروبية تبدو ضئيلة.

وحتى في وقتنا الحاضر، لا تتمكن الدول الأعضاء الثلاثة الأضخم في الاتحاد الأوروبي إلا بالكاد من معادلة خسارة أوروبا ثقلها السياسي.

وفي غياب اتحاد أوروبي قوي فلسوف يتفاقم هذا الميل.

إن العالم خارج أوروبا يتغير بسرعة، ولن ينتظر أوروبا الغارقة في عملية تنظيمية معقدة من اكتشاف الذات.

ولقد باتت البدائل واضحة: إما أن نلحق بالركب أو نتخلف عنه.

في أمريكا، وعلى الرغم من الهوس الحالي بالعراق، ثمة نظرة استراتيجية تمر بمرحلة التبلور.

وهذه النظرة الاستراتيجية تُـعَـرِّف القرن الواحد والعشرين أساساً من خلال الانتباه إلى ثالوث الصين، والهند، والولايات المتحدة.

كما تعد هذه النظرة دور اليابان كحليف للولايات المتحدة أمراً من المسلمات.

أما العلاقة مع روسيا فإنها تأتي في مكان ما بين الشراكة والخصومة المتجددة، إلا أن روسيا لا يُـنْـظَر إليها في الحقيقة باعتبارها تحدياً استراتيجياً.

أما بقية العالم فإنه يلعب دوراً صامتاً على الصعيد الاستراتيجي ـ وهذا ينطبق أيضاً على أوروبا.

خلاصة الأمر بالنسبة إلى أمريكا أنه على الرغم من أن أوروبا لم تعد تسبب المشكلات، إلا أنها نظراً لافتقارها إلى الوحدة، لن تكون راغبة أو قادرة في المستقبل المنظور، على الإسهام في حل مشكلات العالم. والحقيقة أن مشاركة أوروبا ضمن جهود حلف شمال الأطلنطي الرامية إلى إحلال الاستقرار في أفغانستان تؤكد هذا الدور الملتبس.

فمن ناحية، نجد أن الولايات المتحدة تقدر الدور الذي تلعبه أوروبا في أفغانستان، إلا أن هذا الدور يفضح من ناحية أخرى الضعف الأوروبي والقدرات المحدودة لهذا التحالف. ورغم أن النخبة السياسية في الولايات المتحدة لم تنفض أيديها بعد من حلف شمال الأطلنطي، إلا أن التوقعات الخاصة بكفاءة الحلف في حل المشكلات تتدهور بسرعة.

وهذه النظرة إلى أوروبا باعتبارها كياناً سياسياً مهملاً أصبحت واضحة أيضاً في بكين، موسكو، ونيودلهي.

هذه هي نقطة البداية التي يتولى عندها جيل جديد من الزعماء حكم الدول الأعضاء الثلاثة الأضخم في الاتحاد الأوروبي.

فقد أصبح جيرهارد شرودر، جاك شيراك، وتوني بلير جزءاً من التاريخ. وأمضت حكومة أنجيلا ميركل في الحكم ما يقرب من العام ونصف عام, وتسلم نيكولا ساركوزي الرئاسة الفرنسية للتو, وقريباً سيتولى جوردون براون رئاسة وزراء المملكة المتحدة.

في غضون أسابيع قليلة سيُـطْـلَب من هذا الثلاثي أن يتخذ قراراً حاسماً يتصل بمستقبل الاتحاد الأوروبي. إنه القرار الخاص بالمعاهدة الدستورية وما سيترتب على ذلك القرار من تبعات.

وأياً كان اسم الوثيقة التأسيسية الجديدة فهو أمر غير ذي أهمية في النهاية؛ ذلك أن ما يشكل أهمية كبرى بالنسبة إلى مستقبل أوروبا هو أن يتم إحياء عملية الإصلاح الدستوري كي تجد أوروبا أساساً راسخاً تقف عليه.

السؤال المطروح هنا إذاً هو إذا ما كان الزعماء الجدد سينجحون في أقرب وقت ممكن في التنسيق لبذل جهود جديدة لتبني الإصلاحات المؤسسية الحاسمة التي يحتاج إليها الاتحاد الموسع.

إن أفضل وسيلة لإحراز التقدم على هذا المسار تتلخص في التركيز على الأساسيات.

فالقسم الثالث من المعاهدة الدستورية المعلقة ليس أكثر من خلاصة وافية لمعاهدات الاتحاد الأوروبي القائمة، الذي يمكن فصله عن بقية أقسام المعاهدة الدستورية ـ لأن هذه المعاهدات ستظل سارية سواء كانت تشكل قسماً من الدستور الجديد أو لم تكن.

أما القسم الثاني من الدستور المعطل، وهو ميثاق الحقوق الأساسية، فمن الممكن أن يؤجل, وسيكون هذا مؤلماً بلا أدنى شك. فمع اكتساب الأجهزة البيروقراطية في الاتحاد الأوروبي المزيد من السلطات، وفي غياب حقوق أساسية محددة بوضوح، فلا بد أن يتفاقم العجز الديمقراطي في الاتحاد الأوروبي. وعلى هذا، فإذا ما تم تأجيل القسم الثاني من المعاهدة الدستورية، فلا بد أن تتصدى المحكمة الأوروبية لتعريف هذه الحقوق الأساسية في الوقت الحالي, وهذا يشكل ثاني أفضل حل، إلا أنه أفضل من لا شيء.

إلا أن القسم الأول من المعاهدة الدستورية لا غنى عنه، مثله في ذلك كمثل إجراءات الاقتراع الجديدة، التي تلعب فيها قاعدة "الأغلبية المزدوجة" دوراً موازناً لدور دول الاتحاد الأوروبي وشعوبها.

والحقيقة أن إعادة فتح هذا الجزء من المناقشة، وبالتالي السماح بتبديد جوهر المعاهدة الدستورية، سيشكل فشلاً تاريخياً لأوروبا وكبوة هائلة بالنسبة إلى مستقبلها.

وإذا كان هذا ثمن تطبيق المعاهدة، فمن الأفضل ألا نفعل أي شيء وأن ننتظر ما سيأتي به المستقبل.

إن الأسابيع المقبلة تحمل كماً هائلاً من المخاطر بالنسبة إلى أوروبا.

وإذا ما حرصت أوروبا على صيانة جوهر المعاهدة الدستورية، فسوف تتحول بالتدريج إلى قوة فاعلة على الصعيد العالمي, وآنذاك فقط يصبح لحلف الأطلنطي مستقبل. ومن المؤكد أن هذه العملية ستستغرق وقتاً طويلاً، وستتعرض أوروبا لكبوات أخرى, إلا أن التوجه الأساسي سيظل سليماً، الأمر الذي سيجعل للتفاؤل مبرراً.

أما إذا كان الفشل من نصيب هذه المحاولة أيضاً، أو إذا ما انتهى الأمر إلى تسوية خاملة عديمة الجدوى، فسوف يتسارع انحدار أوروبا، ويتفاقم التوتر في العلاقات بين ضفتي الأطلنطي.

لقد أصبحت الكرة الآن في ملعب ميركل، ساركوزي، وبراون، وبات عليهم أن يثبتوا ـ على الرغم من كل الخلافات التي قد توجد بينهم ـ إدراكهم التحديات التي تفرضها العولمة على أوروبا, ذلك أن مدى نجاح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في حماية مصالحها في عالم القرن الواحد والعشرين يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى قوة الاتحاد الأوروبي ذاته.

*يوشكا فيشر كان وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها في الفترة من 1998 إلى 2005. وهو أحد زعماء حزب الخضر منذ ما يقرب من الـ 20 عاماً، ويعمل الآن أستاذاً زائراً لدى كلية وودرو ويلسون في جامعة برينستون.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:الإقتصاد السعودية نقلا عن بروجيكت سنديكيت-4-5-2007