من يشق الطريق ومن يعبّده؟

 

علي بن طلال الجهني

 

 

هناك تعبير شائع مشتق من تاريخ الغرب الأميركي، يصف من يمشي في طريق لم يسلكه غيره من ذي قبل، وهو «شق الطريق».

والطريق ليس بالضرورة طريقاً بالمعنى المألوف للطرق. وإنما هو كل ما يحقق فتحاً في جميع النشاطات الإنسانية.

فالطبيب الانكليزي فلمنغ الذي اكتشف «البنيسلين»، والعالم الفرنسي باستور مكتشف التطهير عن طريق رفع درجة حرارة المواد بسرعة ثم تبريدها، وإسحاق نيوتن صاحب «الجاذبية»، واينشتاين صاحب «النسبية»، وغيرهم المئات في مجال العلوم الطبيعية فقط، كلهم سلكوا طرقاً لم يسلكها إنسان آخر من ذي قبل.

غير انه أتى من بعد هؤلاء الفاتحين من عبّدوا الطرق ورفعوا كفاءتها وزادوا مساراتها، وأضافوا لوحاتها... إلخ.

ويمكن تسمية المعبّدين بـ «المديرين». أما من يشقونها أو يسلكونها للمرة الأولى فهم «القادة». وهذا لا يعني أن «القائد» بالضرورة أذكى من «المدير»، أو العكس.

إن مواهب القيادة لها علاقة مباشرة بقوة العزيمة والثبات، وحد أدنى من عدم «الخوف المرضي» من عدم تحقيق الكمال. والكمال هو عدو «النجاح» كما يعرف العاملون الفاعلون في جميع الميادين.

ومعروف انه أتى بعد العلماء «القادة» علماء من فئة «المديرين» الذين أتقنوا وعبّدوا. فنيوتن اكتشف قوانين الجاذبية على كوكب الأرض، ثم أتى بعده من سار على دربه فسهل عليه التحسين والإضافة، حتى يتم تطبيق قوانين «الجاذبية» على كل آلة تتحرك فوق ماء أو يابسة في كوكب الأرض، بل تمت الاستفادة منها لتسيير المركبات الفضائية. وكذلك الحال بالنسبة إلى «بنيسلين» الطبيب القائد فلمنغ. فقد سار على طريقه آلاف المسافرين من المديرين، حتى تعددت مشتقات البنيسلين وأضيفت إليها أدوية أخرى من المضادات الحيوية.

وحينما كنت في مدينة سياتل لإجراء «نقل النخاع» في عام 1997، التقيت الدكتور دونالد توماس أول من اخترع هذا الإجراء، وظفر بجائزة نوبل في عام 1969 بسبب هذا الاختراع الذي توصل إليه في عام 1959. المهم انه ذكر لي أنه حينما كتب عن هذا «الإجراء» في دورية طبية مشهورة، ثار عليه الأطباء وتساءلوا: كيف تريدنا أن نتفق معك على إجراء يتطلب إخضاع المريض للأشعة المحرقة والكيماوي السام، قبل أن يتم نقل نخاع مطابق؟ فكان رد الدكتور توماس: نعم، الإشعاع والكيماوي يقتلان، ولكن المريض الذي سيموت من دون علاج، وقد يكون هناك احتمال بنسبة متدنية انه سيُشفى، ماذا يضره لو خاطر بأخذ علاج خطر؟

في البدء كان نقل النخاع لا يُجرى إلا لمن يقل عمره عن العشرين. والأفضل الأطفال دون العاشرة. والآن يتم هذا الإجراء في مئات المستشفيات حول العالم، لجميع الأعمار تقريباً. وحينما خضعت لهذا الإجراء في عام 1997 كنت تجاوزت الخمسين.

وسبق للدكتور توماس، الذي تجاوز الثمانين ولا يزال يذهب إلى مختبره في المستشفى الجامعي في سياتل مرة أو مرتين في الأسبوع، أن اخبرني أن الذي سيتولى إجراءات علاجي، كما سبق ان تولى علاج غيري من المرضى منذ بضع عشرة سنة، أطباء آخرون يعرفون أفضل مما يعرف، ويثق بهم أكثر من ثقته بنفسه في تطبيقات اختراعه.

والقصد ليس أمراً شخصياً، وإنما القول إن أمثال الدكتور توماس هم القادة المكتشفون لطرق لم يكتشفها، وبالطبع لم يسر عليها، أحد من ذي قبل. اما بقية الأطباء المعبّدين المحسّنين لطريق الدكتور توماس فهم مديرون لا قادة.

وفي صيف 2006، رأيت الدكتور توماس في مكتب المدير الطبي في المركز الذي جمع التبرعات لإنشائه الدكتور توماس ومرضاه منذ ثلاثين سنة، وسألته عن مخاوفه من نقده من زملائه ومن السلطات التنظيمية حينما تجرّأ ونشر ما كان يفكر في تطبيقه في عام 1959. وكان جوابه: بكل تأكيد كنت أعرف أنني سأقرأ من سيقول: ولكن الإشعاع يحرق الأبدان والكيماوي يسمّمها، وكيف تحمي المريض من العدوى بعدما خفضت بعلاجك درجة مقاومته إلى الصفر، وكيف وكيف... إلى آخر أقوال الشطار الباحثين عن الكمال.

والله من وراء القصد

* أكاديمي سعودي.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر نصا و دون تعليق.

المصدر: الحياة اللندنية-23-1-2007