الآلة العظيمة للأروبيين في إنتاج فرص العمل

 

 

إميلي فلين فينكات

 

على الرغم من سمعتها بأنها بطيئة الوتيرة، فإن أوروبا تستمر في النمو على نحو أسرع من أمريكا، وتخلق فرص عمل أكثر منها

نموذج أمريكا للتوظيف موضع حسد العالم بسبب قدرته على خلق فرص العمل تقريبا بالسرعة نفسها التي يتوسع فيها عدد السكان. أما أوروبا القديمة، من جهتها، فإنها تربك قوتها العاملة بقدر كبير من الروتين الإداري إلى درجة أن المعدل المرتفع للبطالة وخلق فرص العمل بوتيرة بطيئة بطء انسياب دبس السكر، هما أمران حتميان. صحيح؟

هذا هو لسان حال الحكمة التقليدية. ومنذ مطلع هذا العقد، بلغ المعدل الوسطي السنوي لنمو فرص العمل في الولايات المتحدة 0.7 بالمائة. وفي أوروبا الغربية، بلغ معدله الوسطي قدرا أعلى بكثير حيث بلغ 0.9 بالمائة، مع احتلال إسبانيا الخاضعة لقدر كبير من التنظيمات لموقع الصدارة في الجداول البيانية عند الـ4 بالمائة. وهذه الأرقام الجديدة، التي نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الشهر الماضي، تضع معدلات نمو فرص العمل طويلة الأجل في أوروبا في موقع متقدم كثيرا على معدلات أمريكا، أكثر من أي وقت مضى في التاريخ حديث العهد. والأكثر من ذلك: إن آلة فرص العمل في أوروبا قد سدت الفجوة عبر الأطلسي في مجال التوظيف تقريبا. فقبل ست سنوات فقط، كان 81 بالمائة من سكان أمريكا منخرطين بشكل نشط في القوة العاملة، بالمقارنة مع 76 بالمائة من سكان أوروبا. والآن فإن هذه الفجوة قد تقلصت إلى 1 بالمائة. بمعنى آخر، فإن نحو 80 بالمائة من كل من الأمريكيين والأوروبيين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 25 إلى 54 عاما، موظفون على نحو يعود عليهم بمكاسب. ويقول جون شميت، كبير الاقتصاديين في مركز أبحاث الاقتصاد والسياسة الذي يتخذ من واشنطن العاصمة مقرا له: "الحجة هي أن البلدان الأوروبية يجب أن تكون حالات ميئوس منها [عندما يتعلق الأمر بخلق فرص العمل]، ولكنها في واقع الأمر تؤدي أداء أفضل منا".

والحكمة التقليدية لم تكن مخطئة على الدوام، بالطبع. ففي التسعينات من القرن الماضي التي كانت ترفل بالازدهار في أمريكا، بلغ المعدل الوسطي السنوي لنمو فرص العمل مستوى مرتفعا قدره 1.4 بالمائة، بالمقارنة مع معدل أوروبا البالغ 0.4 بالمائة. ولكن فيما بعد، في بداية العقد الجاري، انخفض نمو إجمالي الناتج المحلي العائد لأمريكا بمعدل النصف من 4.4 بالمائة إلى 2.2 بالمائة، وهو ما شكل ضربة قوية لفرص العمل. وفي حين أن أوروبا عانت أيضا انخفاضا في نمو إجمالي الناتج المحلي فإنها لم تحز أبدا على المعدلات المرتفعة العائدة للتسعينات من القرن الماضي في أمريكا لكي تنزل منها. وفي الوقت عينه، تلقت أوروبا دعما من واقع أن نموذجها للعمل ذا الكلفة المرتفعة والقيمة العالية بدأ في إنتاج فرص عمل في حقول ريادية في التطور مثل تكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا البيئية والأبحاث والتطوير. وفي الولايات المتحدة في المقابل، جعلت الخسائر الدائمة في التصنيع، من بين عوامل أخرى، من أمر النهوض السهل مستحيلا.

واليوم، فإن الصناعات الرئيسية الثلاث التي تدفع محرك فرص العمل في أوروبا هي البرمجيات، وعلوم الأحياء (مثل أنظمة المستشفيات) وتكنولوجيا الطاقة البديلة. ويقول مارك لهرميت، وهو شريك في "إرنست آند يونغ" للاستشارات يتخذ من باريس مقرا له: "هذه صناعات ذات قيمة مُضافَة مرتفعة حيث لا يزال من الممكن لأوروبا أن تكون تنافسية فيها على المسرح العالمي". وبينما يحتكر اقتصادا الصين والهند الناشئان الصناعات التي تعتمد اعتمادا كثيفا على اليد العاملة والتي ركزت عليها أوروبا تقليديا، فإن هذا الأمر يمثل نقلة مهمة  متأخرة ــ إلى قطاعات تتمتع فيها أوروبا بأفضلية طبيعية. ويقول لهرميت: "إنهم يعيدون اختراع ما يعنيه أمر كون الشركة «شركة أوروبية»"، وفي الربع الثاني من العام الجاري، خلقت الشركات الأوروبية ما مجموعه 702

000 فرصة عمل جديدة.

وتصنيف الشركات الـ500 ذات النمو السريع في أوروبا لعام 2006، الذي نشرته الشهر الماضي جماعة "أصحاب مشاريع استثمارية من أجل النمو" غير الربحية في بروكسل، يسلط الضوء على بعض نجوم القارة. فصانع البرمجيات الفرنسي "غيملوفت" احتل الموقع الرقم واحد في تصميم ألعاب الهواتف النقالة. وحتى هذا التاريخ، فإن غيملوفت لديها صفقات مع شركات للهواتف الخليوية في 70 بلدا، مع أعمال ناجحة مثل "دريك جتر برو بيسبول" في أمريكا و"برينس أوف بيرجيا" في آسيا. والشركة توسعت من 81 موظفا فقط مطلع عام 2003 إلى أكثر من 2000موظف في يومنا الحاضر. وعائداتها السنوية ارتفعت بسرعة الصاروخ من ثلاثة ملايين يورو في عام 2002 إلى 46.8 مليون يورو العام الماضي. وتقول دي أوسوليفان، وهي مديرة في جماعة أصحاب مشاريع استثمارية من أجل النمو: "النتائج تُظهًر أنه حتى في بيئة خاضعة لقدر كبير من التنظيمات، يمكنك أن تحصل على نمو استثنائي في فرص العمل".

وبالفعل، فحتى الشركات الأمريكية تعكف على الاستفادة من قوة أوروبا في تطوير البرمجيات. وتقدر دراسة جديدة من "آي دي سي" لأبحاث السوق العالمية أنه عندما يُطلَق نظام تشغيل ويندوز فيستا الجديد من "مايكروسوفت" في يناير، فإنه سيخلق 50000 فرصة عمل جديدة في تكنولوجيا المعلومات في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والدنمارك وإسبانيا وبولندا. والعام الماضي، موّلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ومعظمها من الولايات المتحدة، 363 مشروعا في مجال البرمجيات في أنحاء أوروبا. وعلى وجه الإجمال، فإن الاستثمارات الفيدرالية المباشرة (أف دي آي) قد خلقت أكثر من 197000 فرصة عمل العام الماضي في عدد قياسي من المشاريع.

وقائمة الـ500 الساخنة تسلط الضوء أيضا على النمو في شركات الطاقة البيئية. فأصحاب المشاريع الاستثمارية قد تشجعوا جراء الحوافز الضريبية السخية على تطوير تكنولوجيات خضراء، فضلا عن كونهم تشجعوا جراء تشريع يفرض عقوبات ثقيلة الوطأة على الشركات والأفراد فيما يتعلق بانبعاثات الكربون. ففي ألمانيا، شهدت ثلاث شركات للطاقة الشمسية، هي "كيو سلز"، و"إليوتك سولار" و"كونرجي"، نموا في عائداتها بمعدل وسطي قدره 920 بالمائة لتصل إلى ما مجموعه 884 مليون يورو خلال السنوات الثلاث الماضية. وقد رفعت "إي في أن" في النمسا، وهي مجموعة خدمات في مجال الطاقة والبيئة توزع الغاز في أنحاء البلاد، جهاز موظفيها بأكثر من 200 بالمائة في الفترة نفسها ليبلغ قرابة 7000 تقريبا وهي تتباهى بعائدات قدرها 1.6 بليون يورو ، ما يشكل ارتفاعا بمعدل 44 بالمائة.

والنمو في الأبحاث والتطوير في التكنولوجيا البيولوجية، والأجهزة الطبية وعلوم الأحياء قد تلقى تمويلا إلى حد كبير بواسطة شركات خاصة ذات أسهم عادية وممولة برأس مال مغامر. وتدفق الأموال هذا خلق مليون فرصة عمل جديدة في أوروبا بين عامي 2000 و2004، وفقا للجمعية الأوروبية لرأس المال المغامر. وقد زاد 73 بالمائة من الشركات المدعومة برأس المال المغامر من أجهزة موظفيها بمعدل وسطي يربو على الـ25 بالمائة منذ عام .2001

وبغية تحقيق الاستفادة القصوى من نقاط القوة لديها، تعكف صناعات بأكملها على نحو متزايد على التجمع في مدن وبلدان معينة. فمعظم قطاع الطاقة الشمسية في ألمانيا، على سبيل المثال، يستوطن في مدينة ثالاهايم. ويحاكي هذا الأمر الطريقة التي نجح فيها وادي السيليكون وبوسطن في تأسيس نفسيهما كمركزين عالميين للكمبيوتر وعلوم الأحياء، على التوالي. وخذ بعين الاعتبار ليون، في فرنسا، حيث هناك حاليا أكثر من 500 مختبر أر آند دي للأبحاث والتطوير لشركات من بينها "آريفا"، و"سانوفي باستور" و"رينو" وهو ما يشكل ارتفاعا بمعدل 24 بالمائة في غضون عامين. أو لندن، حيث خدمات الأعمال من قبيل شركات المحاسبة والإعلانات تشهد ازدهارا وشركات خدمات التوظيف البريطانية شهدت معدل حركة مرتفعا ارتفاعا قياسيا هذا العام قدره 24.8 بليون جنيه إسترليني، وهي تتوقع أن يتم خلق 11000فرصة عمل جديدة على الأقل العام المقبل في الحي المالي في لندن فقط.

وبعض القطاعات الأكثر تقليدية، والتي تركب على ظهر النمو الاقتصادي القوي نسبيا في منطقة اليورو عموما، تواصل أيضا توليد فرص عمل جديدة. فالتصنيع في ألمانيا، الذي يعج بمهندسين ذوي مهارات رفيعة المستوى، يشهد ازدهارا في كل شيء من السيارات إلى الرقائق الصغيرة. وانخفضت البطالة هناك إلى ما دون مَعلَم الـ10 بالمائة الذي يكتسي أهمية من ناحية نفسية، وذلك للمرة الأولى في أربع سنوات الشهر الماضي. وفي أسبانيا ــ حيث انخفضت البطالة إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1979 في الربع الثالث من العام الجاري فإن شركات البناء التي تعمر السواحل تؤدي أداء جيدا إلى درجة أنها تشكل حاليا 12 بالمائة من الاقتصاد.

وتتوقع المفوضية الأوروبية لهذا التوجه إلى الأعلى أن يتواصل. فالأسبوع الماضي، تنبأ مفوض الشؤون الاقتصادية والمالية في الاتحاد الأوروبي جواكوين آلمونيا بأن الاتحاد الأوروبي سيخلق سبعة ملايين فرصة عمل جديدة بحلول عام .2008 والقوة العامة لأوروبا الغربية في النمو في فرص العمل هي أمر مفاجئ أيضا بالمقارنة مع أوروبا الشرقية والوسطى، حيث الاقتصادات ما زالت تنمو بسرعة ولكن النمو في فرص العمل متخلف عن الركب. ففي البلدان الثمانية الجديدة في الاتحاد الأوروبي والتي هي في أوروبا الشرقية والوسطى، فإن النسبة المئوية للسكان الذين هم في سن العمل، والذين هم موظفون هي حاليا أقل مما كانت عليه قبل الدخول إلى الاتحاد في معظم المناطق. والنسبة المئوية للعاطلين عن العمل الذين ما زالوا من دون عمل منذ أكثر من سنة وهي راية تحذيرية من مشكلة مستوطنة هي أعلى من 50 بالمائة. في بداية التحول، افترض الخبراء على نطاق واسع أن البطالة ستكون مشكلة مؤقتة، بحيث إنها ستُحَل حالما يخطو القطاع الخاص الناشئ بخطى متئدة. ولكن الحقيقة هي أن العمال الذين هجروا من مواقع البناء وطوابق المصانع التي تشغل العمال الكادحين، لا يمتلكون المهارات اللازمة للحصول على مناصب في صناعات جديدة ساخنة، أو حتى في مراكز الاتصال.

وبالطبع، لا يبدو أن كل شيء في طور التصاعد في أوروبا الغربية أيضا. فبعض البلدان لا تزال غير قادرة على تزويد ما يكفي من فرص العمل لمواكبة النمو الأسرع من ذلك حتى في عدد السكان، جراء المعدلات غير المسبوقة للهجرة من أوروبا الشرقية والوسطى. ففي بريطانيا، بلغت البطالة أعلى مستوى لها في سبع سنوات الشهر الماضي حتى بينما بلغ إجمالي عدد الأشخاص الذين لديهم أعمال 31 مليونا مستوى مرتفعا لم يسبق له مثيل في أي وقت. والتناقض الظاهر مرده إلى حد كبير واقع أن بريطانيا تحاول التغلب على أكبر تدفق عليها للعمال الأجانب حتى الآن ، 1.5 مليون العام الماضي، ما يساوي 5.4 بالمائة من عدد السكان الموظفين.

فضلا عن ذلك، يجادل الكثير من الخبراء بأن مقارنة معدلات نمو فرص العمل في أمريكا بتلك العائدة لأوروبا خلال السنوات الخمس الماضية ليست منصفة. ويقول جون مارتين، مدير قسم التوظيف، والعمل والشؤون الاجتماعية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» إن واقع أنه تعين على أمريكا أن تتعافى من ازدهارها في التسعينات من القرن الماضي والكساد الذي أعقب ذلك، يعني أن أعداد فرص العمل فيها على مدى السنوات القليلة الماضية كانت قاتمة على نحو مفهوم، ويجب ألا تستخدم للتوصل إلى استنتاجات شاملة. وبالفعل، فإن المؤشرات الدالة على النهوض تتعاظم أصلا. فمعدل البطالة في أمريكا انخفض على نحو غير متوقع الشهر الماضي إلى أدنى مستوى له في خمس سنوات وقدره 4.4 بالمائة، مع خلق أرباب العمل زهاء 92000 فرصة عمل في أكتوبر. ويقول مارتين: "والآن بما أن آلة فرص العمل الأمريكية قد تدبرت وأخيرا أمر أن تعيد تشغيل نفسها، فإنني أعتقد أنه من الممكن للولايات المتحدة أن تتجاوز أوروبا مرة أخرى في الفترة التي تتراوح ما بين العام المقبل والأشهر الـ18 المقبلة".

ومع ذلك، فإن آلة فرص العمل في أوروبا تقدم لأمريكا أرباحا على أموالها. وهي تقوم بذلك عبر تطوير نقاط القوة ذات القيمة المرتفعة والكلفة العالية لديها. فبريطانيا تعتمد على سمعتها كمركز مالي عالمي، والفرنسيون على نزوعهم إلى التصميم، وألمانيا على مهندسيها. وهذه كلها حقول تقف في شأنها الحكمة التقليدية فيما يتعلق بأوروبا على المحك إلى حد كبير.

و كل ذلك بحسب المصدر المذكور.

المصدر: نيوزويك العربية-21/11/2006