وظائف شاغرة في الصين!

 

 

 

د. عبدالله المدني

 

 

للوهلة الأولى، قد يبدو الحديث عن نقص الأيدي العاملة، وبالتالي وجود وظائف شاغرة لا حصر لها في دولة يصل عدد سكانها إلى أكثر من 1.3 مليار نسمة كالصين مجرد مزحة. غير أن هذه هي الحقيقة طبقاً للإحصائيات والدراسات الرسمية وغير الرسمية الأخيرة.

فالبلد الأكبر في العالم من حيث عدد السكان، صار يواجه اليوم فعلاً مشكلة العثور على الأعداد المناسبة من العمالة بأنواعها المختلفة، بدليل وجود ما لا يقل عن مليوني وظيفة شاغرة، الأمر الذي ساهم في ارتفاع الأجور في القطاع الصناعي، طبقاً لقانون العرض والطلب، وبالتالي ارتفاع الكلفة النهائية للمنتج التي هي أصلاً في حالة صعود بسبب الزيادات المتتالية في أسعار الطاقة المستوردة. ومما لا شك فيه أن هذا سيؤدي، إن لم يكن قد أدى فعلاً، إلى فقدان المنتوجات الصينية المخصصة للتصدير لميزة المنافسة السعرية في الأسواق العالمية.

وفي بلد اعتمد طويلاً على وفرة الأيدي العاملة ورخصها في جذب الاستثمارات والشركات الأجنبية إلى قطاعاته الصناعية، فإن للمشكلة جانبا سلبيا آخر يتمثل في احتمال انتقال المزيد من المستثمرين المحليين والأجانب في المدى القصير إلى بلدان أخرى لا تزال تتميز بوفرة ورخص الأيدي العاملة مثل الهند وفيتنام وبنغلاديش.

وتبدو الصورة أوضح ما تكون في ما يعرف بالمناطق الاقتصادية الخاصة ومدن الازدهار الصناعي الساحلية، التي كانت إلى ما قبل سنوات قليلة تعج بالملايين من القادمين من الأرياف ومناطق الداخل الصيني بحثاً عن أي عمل، وبأي أجر. لقد تغيرت الصورة اليوم تماماً، كما يقول أحد خبراء الموارد البشرية المحليين، وصارت مؤسسات الأعمال مضطرة للإعلان في الصحف عن وجود فرص وظيفية لديها، دون أن يدق بابها في النهاية سوى بضعة أشخاص، بل بدأت تلك المؤسسات في إرسال فرق توظيف من قبلها إلى الخارج من أجل البحث عمن يستطيع إشغال وظائف معينة ملحة.

في الأسباب، تبدو المشكلة مركبة، وتتداخل فيها عوامل عدة. فلئن كان أحدها هو تنامي وتوسع الأعمال في قطاعات التصنيع والخدمات والإنشاءات بسرعة صاروخية في السنوات القليلة الماضية، وبما جعل الطلب على الأيدي العاملة يتصاعد بدوره على جميع المستويات الوظيفية، فإن العامل الآخر هو قلة الأجور في ظل بيئات عمل مرهقة وساعات دوام طويلة، ناهيك عن الاستقطاعات الشهرية من الرواتب في صورة ضرائب، الأمر الذي فضلت معه نسبة كبيرة من العمالة البحث عن الرزق من خلال الأنشطة الصغيرة الخاصة أو العودة للعمل في القطاع الزراعي. يشار هنا إلى أن معدلات الأجور التي تراوحت طويلاً ما بين 50-75 دولاراً في المؤسسات الصناعية المملوكة للدولة، و100- 200 دولار في الشركات الصناعية الكبيرة الخاصة، زادت في السنتين الأخيرتين بنسبة 25 بالمئة بقرار رسمي كان الهدف المعلن منه هو تحسين دخل العامل لمواجهة ارتفاع كلفة المعيشة، فيما كان الهدف الخفي هو تشجيعه على البقاء في عمله واستقطاب آخرين.

وهناك عاملان آخران تسببا في خلق المشكلة وكانت للدولة يد في خلقهما. ففي محاولة منها لتضييق الهوة الاقتصادية ما بين سكان المدن والأرياف، أقدمت الدولة في السنوات الثلاث الماضية على إطلاق مشاريع عديدة لإقامة البنى التحتية الحديثة وأخرى تنموية وخدمية وترويحية في الأرياف الفقيرة والأقاليم الداخلية من تلك التي تركت مهملة طويلاً في خضم عملية التحديث والتصنيع. وكان لهذا أثر ملموس تمثل في خلق فرص عمل لمواطني تلك المناطق بالقرب من مدنهم وقراهم وتحسن ظروفهم ودخولهم، وبما قلل من رغبتهم في الهجرة إلى المدن الساحلية الصاعدة بحثاً عن العمل. وجاء قرار الحكومة في العام الماضي بإلغاء الضريبة الزراعية ليعزز من هذه الظاهرة الأخيرة ويغري سكان الأرياف بالبقاء في أعمالهم الزراعية.

من ناحية أخرى، فإن "سياسة الطفل الواحد للأسرة الواحدة"، التي انتهجتها الصين منذ السبعينيات كحل للحد من التضخم السكاني، أفرزت نتائج عكسية في صورة وجود مجتمع يكثر فيه العواجيز والمتقاعدين ويقل فيه عدد الشباب ممن هم في سن العمل أو ممن ينتظر دخولهم إلى سوق العمل قريباً. ويمكن في هذا السياق الإشارة أيضاً إلى ظاهرة عدم استعجال الشباب الصيني لدخول سوق العمل، قبل نيل تحصيل علمي كاف. فعلى خلاف الجيل القديم الذي كان مجبراً على الالتحاق بسوق العمل من دون مؤهلات أو بمؤهلات علمية محدودة، صارت الأجيال الصينية الجديدة أكثر تمسكاً بالالتحاق بالجامعات والمعاهد العليا من أجل التخصص العلمي والتميز. ولعل ما يسند هذا القول هو تزايد أعداد الملتحقين بالجامعات من 4.3 مليون عنصر في عام 1999 إلى 14 مليونا في عام 2005.

وتشير الدراسات التي أجريت مؤخراً إلى أن قطاع التصنيع لأغراض التصدير، يواجه حالياً نقصاً في العمالة بحدود مليوني نسمة، مع احتمال ارتفاع العدد في المستقبل. فمدينة مثل "شينزين" في إقليم "غواندونغ"، الواقع على الحدود مع هونغ كونغ، حيث المصانع الكبيرة والصغيرة التي تنتج كل شيء ابتداء من براويز الصور وسلاسل المفاتيح وانتهاء بالأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية، واجهت هذا العام فقط نقصاً في العمالة في حدود 300 ألف عامل.

ولا تنحصر مشكلة الصين في نقص العمالة اليدوية الماهرة أو شبه الماهرة أو البسيطة فحسب، وإنما أيضاً نقص العمالة المؤهلة تأهيلاً متقدماً لإشغال وظائف المستويات الإدارية والفنية الوسطى والعالية في مؤسسات وشركات تسعى إلى التمدد والمنافسة في الخارج. وهنا تبرز مسؤولية الجامعات الصينية التي تخرج سنوياً الملايين من المهندسين والفنيين والإداريين، لكن دون مؤهلات ومهارات وخبرات من تلك التي تعتبر مفتاحاً لدخولهم إلى الأسواق العالمية والتنافس فيها. وفي هذا السياق تقول دراسة أعدتها مؤخراً مؤسسة "ماكينزي" العالمية، إن الشركات الصينية الكبرى ذات الطموحات للتوسع في الخارج أوالمحافظة على نموها الراهن تحتاج في السنوات العشر القادمة إلى ما لا يقل عن 75 ألف موظف ممن تتوفر فيهم المعايير والاشتراطات العالمية المعروفة، وأن المتوفر حالياً في الصين من هؤلاء يقل عن خمسة آلاف عنصر.

ومن هنا يمكن تفسير ما حدث مؤخراً في شنغهاي التي تعتبر درة الصين ورمز تقدمها الصناعي وازدهارها الاقتصادي؛ حيث لم تجد حكومتها المحلية مفراً من إرسال فريق من رجال الأعمال والمسؤولين والأكاديميين إلى أميركا الشمالية لإقامة معارض توظيف في كل من نيويورك وسان فرانسيسكو وتورونتو، بحثاً في أوساط صينيي المهجر عن متخصصين وخبراء لإشغال نحو ألفي وظيفة شاغرة في مؤسسات وشركات المدينة، مع تقديم حزمة من الحوافز والإغراءات شملت مساواتهم في الامتيازات مع المواطن بما في ذلك التعليم المجاني لأولادهم. وبحسب المسؤولين في شنغهاي، تأتي هذه الخطوة ضمن برنامج لجذب نحو عشرة آلاف شخص متخصص من الخارج للعمل في المدينة كل سنتين. خلاصة القول إن مشكلة الصين العمالية لا تتعلق بالكم، بقدر ارتباطها بالنوعية، معطوفاً على سوء توزيع الأيدي العاملة جغرافياً.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الإتحاد الإماراتية-1-10-2006