التنمية المستدامة في ظل الصراع الدائر في العراق
د. مهدي الحافظ
نص الورقة التي قدمها د. مهدي الحافظ الى اجتماع خبراء التنمية الذي نظمته اللجنة الاقتصادية- الاجتماعية التابعة للأمم المتحدة ESCWA المنعقد في بيروت بتاريخ 27-28 حزيران 2006. تزايد الاهتمام العالمي والمحلي خلال السنين الأخيرة بتجربة العراق في ميدان التنمية المستدامة وعملية إعادة الاعمار، وهو أمر يمثل وجها" أساسيا" من وجوه الحدث الكبير الذي شهده العراق والمنطقة منذ الحرب الأخيرة وتغيير النظام في التاسع من نيسان 2003. ومع أن التجربة هذه تنطوي على أبعاد كثيرة، إلا أن البعد الإنمائي وما يقترن به من مساهمات دولية يكتسب أهمية خاصة ويحمل دلالات فكرية وسياسية جديرة بالدراسة والمراجعة. فهذه التجربة التي تتابعت فصولها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تطرح بإلحاح إعادة تقييم العديد من القضايا في مجال التخطيط للتنمية بوجه عام، والآليات والأدوات المطلوبة للنهوض بهذه المهمة. غير أن المراجعة المنشودة لا تكتمل ولا تؤدي الهدف المطلوب ما لم نستذكر بأسلوب موضوعي الخلفية والسياق اللذين أحاطا هذه التجربة وطرحا الحاجة لتحديد أولويات النهوض من الكبوة الخطيرة التي سبقت التغيير في العراق. أولا: السياق والخلفية مع توقف العمليات الحربية الكبرى وسقوط النظام، واجه العراق تركة ثقيلة ومتعددة الأبعاد في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وسواها. كما أنه بدأ يواجه معوقات وآثار سلبية جديدة ناجمة بالدرجة الأولى عن فرض سلطة الاحتلال الأجنبي وما نجم عن ذلك من عواقب وخيمة على الاستقرار والأمن الداخلي وتزايد العنف والتخريب بمقاييس خطيرة، وتعثر الجهود لبناء نظام سياسي جديد فعال وديمقراطي حقا". ولعل أهم المظاهر الأساسية للتركة الموروثة من النظام السابق تتمثل فيما يلي: الآثار الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة للحروب السابقة مع ايران واحتلال الكويت والتدخل الدولي الذي أعقب ذلك، وقد انعكست هذه الآثار في مستويات مريعة ومتدنية بالنسبة لنوعية الحياة والخدمات الأساسية، فضلا" عن تقلص حجم الإنتاج الوطني وارتهان الاقتصاد الوطني وفعالياته المختلفة للهيمنة الدولية في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء المبرم في عام 1996. ويقدر بعض المحللين أن عسكرة الاقتصاد والانغماس في الإنفاق العسكري الجنوني، قد أسفرا عن تغيير عضوي في بنية المجتمع العراقي المنعكس بتلاشي أو اختفاء الطبقة الوسطى واتساع دائرة المهمشين والعاطلين على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق الحديث. عواقب العقوبات الدولية والحصار الخارجي الذي فرض على العراق لأكثر من ثلاث عشرة سنة. سوء الإدارة العامة للدولة والذي انعكس في مظاهر مختلفة من الفوضى الاقتصادية والهدر والفساد وغياب سلطة القانون والنظام في عموم البلاد. ويضاف إلى ذلك الكلفة المادية والإنسانية الباهظة التي دفعتها البلاد نتيجة لعمليات النهب looting والسرقة والتخريب التي وقعت إبان الاحتلال الأخير وفي أعقابه. ثانيا: فرضيات خاطئة ومعوقات جديدة إن التخطيط للتنمية وإعادة الاعمار لمعالجة آثار هذه التركة الثقيلة ولتحقيق إصلاحات هيكلية للاقتصاد العراقي، قد اصطدم بمجموعة من الفرضيات والتقديرات القاصرة للأوضاع المستجدة في العراق مما انعكس سلبيا" على تنفيذ البرامج والفعاليات المقترحة. لا جدال في الحاجة إلى تحويل الاقتصاد العراقي من اقتصاد مغلق ومركزي آنذاك الى اقتصاد مفتوح ومتنوع وقائم على الإفادة من آليات السوق ودور أكبر للقطاع الخاص، فضلا" عن أن هنالك اتفاقا" على معظم الأوليات الواجب تنفيذها لإزالة التخلف وإنماء الاقتصاد العراقي ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة، إلا أن الخلاف كما يبدو قد انعكس في المقاربة approach الواجب اعتمادها لبلوغ هذه الغايات. في هذا السياق، كانت هنالك مقاربتان، الأولى المسماة مجازا" بالمقاربة الإيديولوجية، وتتركز على اعتبار أن انتهاء الحرب وسقوط النظام السابق قد وفرا الشروط اللازمة والمناخ المطلوب لوضع خطط جذرية لإصلاح الوضع العام وتطبيق وصفات (جاهزة) مستقاة من تجارب مغايرة لبلدان أخرى ولاسيما بلدان أوروبا الشرقية، وهي التي استندت الى استخدام مصطلح مرحلة ما بعد النزاع post-conflict ، غير أن تطور الأحداث أبان قصور هذه الرؤيا والتقديرات، حيث تفاقم الصراع الداخلي واتسعت موجة التمرد وأعمال العنف والإرهاب وما اقترن بذلك من نزاعات طائفية. أما المقاربة الثانية فهي الموسومة بالبراغماتية ( الذرائعية أو العملية)، حيث تنطلق من إعطاء تقدير سليم للتطورات الجارية في الواقع الحي وتفهم وملاحظة المتغيرات الجديدة في مرحلة ما بعد سقوط النظام. وهي المقاربة التي تستدعي اعتماد منهج تدريجي في مواجهة الأخطار الجديدة وتطبيق برنامج الإصلاحات، أي إنه يأخذ بنظر الاعتبار أن العراق ما زال يعاني من نزاعات داخلية، ولم تتوافر له بعد أسباب الأمن والاستقرار على نحو يسمح بوضع برامج واقعية وطموحة للتنمية وإعادة الاعمار. فالفهم الصحيح للظروف الجديدة في العراق والمتغيرات الناشئة بالارتباط مع سقوط النظام وفرض الاحتلال الأجنبي، كان أمرا" في غاية الأهمية من الناحية المنهجية لصياغة البرامج الإنمائية اللاحقة. والواقع أن العديد من هذه البرامج والخطط قد تعثرت أو أنها لم تر النور أبدا" بسبب التدهور الأمني وهجمات التخريب. الأمر الذي يؤكد خطأ المراهنة على المقاربة الأولى واعتمادها، اذ كان ينبغي اعتماد منهج تدريجي وبراغماتي يوفر امكانية تحديد الأولويات على نحو مختلف ويأخذ بنظر الاعتبار التحديات الجديدة والسعي لمواجهتها بأسلوب فعال، ولاسيما في مجال حفظ الأمن والاستقرار وترسيخ الوحدة الوطنية وبناء مؤسسات الدولة. وينبع من الفرضية السابقة تقدير خاطئ لكيفية إجراء الإصلاحات الاقتصادية وتوفير مستلزمات تحقيقها بنجاح. فالاقتصاد العراقي كان وما يزال يعاني من اختلالات خطيرة من حيث بنيته وطابعه الريعي وعدم التوازن (الاختلالات) في السياسة المالية والنقدية للدولة، الأمر الذي طرح ويطرح اجراء اصلاحات هيكلية تشمل مؤسسات الدولة غير المجدية ومعالجة التضخم ومظاهر الاختلال في الانفاق العام (أشكال الدعم غير المنتج) وسواها. ومع ان قرارات وقوانين صحيحة قد صدرت من قبل السلطات المتعاقبة، الا انها لم تعط مفعولها المنشود بسبب غياب المناخ والشروط اللازمة للاصلاح. وهذا يتمثل بالدرجة الأولى باستعادة الدور الطبيعي والفعال للدولة كمنظم وحام للقانون والنظام وللأمن الفردي والعام في البلاد. غير أن مجريات الأحداث انطوت على إضعاف مؤسسات الدولة وتصفية بعض أجهزتها المهمة والحيوية بقرارات خاطئة كما حصل بالنسبة للجيش ووزارة الدفاع والأجهزة الأمنية، مما خلق فراغا" سياسيا" وأمنيا" خطيرا" وترتب عليه تعذر إجراء الإصلاحات الاقتصادية المقررة. ومع هذا فان عددا" من الانجازات الاقتصادية قد تم تحقيقها، وتتمثل في توحيد العملة الوطنية وتأمين استقرارها وسعر صرفها على الرغم من المصاعب التي واجهت البلاد، كما أمكن السيطرة على التضخم الى حد ما. اما بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي فقد شهد دون شك نموا" ملحوظا" بسبب الزيادة النسبية في انتاج النفط وحجم الصادرات النفطية وارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية بصورة متسارعة، والذي ترتب عليه ايضا" زيادة في الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية بما يقرب من حوالي 9 مليارات دولار أو أكثر. فهذه النجاحات على الصعيد الاقتصادي الكلي يوازيها غياب التقدم المطلوب في مجال الإصلاحات الهيكلية التي تعثرت بسبب المعوقات الأمنية. إن استعادة دور الدولة وتمكينها من أداء مهماتها الطبيعية لا يعني استرجاع الممارسات السابقة للنظام الشمولي، بل إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية وقادرة على تأمين الإصلاحات المنشودة، فلا يمكن للتنمية واعادة الاعمار وتطبيع الحياة العامة ومواجهة التحديات الأمنية أن تتم من دون توفر مؤسسات فاعلة. ويستخلص من ذلك أن برامج الإصلاح والتنمية واعادة الاعمار على أهميتها الكبيرة لم تتوافر لها مقومات النجاح بسبب سوء التقدير للأوضاع الجديدة الناشئة والقصور عن تحديد الأولويات الصحيحة. ثالثا: التحديات الراهنة- الاستنزاف المادي والانساني ان أخطر ما يواجهه العراق اليوم هو اتساع ظاهرة الاستنزاف المادي والإنساني واتخاذها أبعادا" خطيرة في الأشهر الأخيرة. وتنبع هذه الظاهرة وتستمر بسبب نشوء النزاع الداخلي المتمثل بظاهرة التمرد والإرهاب والتخريب الذي طال المؤسسات والمصالح العامة، فضلا" عن الممتلكات الخاصة للمواطنين. وليس من السهل تقدير حجم الكلفة المادية (الاقتصادية) الناجمة عن اتساع ظاهرة العنف هذه، الا أن بعض التقديرات تقرب من عشرات المليارات دولار أميركي، وهي تتركز في الأضرار الناجمة عن التخريب الحاصل بالمنشآت والأنابيب والمحطات النفطية وكذلك لمرافق قطاع الكهرباء والماء والنقل وغيرها من المراكز الحيوية للاقتصاد الوطني وحياة السكان. أما الكلفة الإنسانية المترتبة على القتل اليومي للأفراد والجماعات، ولعمليات الخطف والتفجيرات والسيارات المفخخة ، فقد تعدت عشرات الألوف من جميع الفئات. فقد أصبحت البلاد تعاني بشدة وبصورة رهيبة من غياب الأمن الفردي والأمن العام وتحولت مناطق عديدة الى أهداف مستمرة للعنف والممارسات غير الانسانية. غياب الأمن وضعف الدولة ان ظاهرة الاستنزاف المادي والانساني تلخص اليوم الحالة العامة في البلاد، وهي تمثل النتيجة الطبيعية لعاملين أساسيين برزا خلال السنوات الثلاث الماضية أولهما نشوء نزاع داخلي من نوع جديد بعد انتهاء الحرب وسقوط النظام السابق، والذي جعل العراق في وضع لا يمكن أن يوصف بأنه قد تعدى النزاع post-conflict وإنما هو في حالة نزاع داخلي in-conflict وهذه مسألة جوهرية يتوقف عليها تحديد إستراتيجية المستقبل وتحديد أولويات البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي واعادة الاعمار. وهي النقطة التي كانت موضع انعدام تقدير صحيح من بعض الجهات الداخلية والأجنبية وتأثرت بها برامج ومواقف الدول والمؤسسات المانحة. ان انتشار ظاهرة العنف والإرهاب قد يكون موضع خلاف بين بعض المحللين، الا انه يمكن التأكيد على ثلاثة أسباب، الأول هو الالتباس الحاصل في الموقف من الاحتلال والوجود الأجنبي في العراق وما اقترن به من نشاطات وأعمال مناهضة، وغذته أجواء العداء للقوى الأجنبية والحملة الدولية ضد الارهاب. والثاني، تأجيج الصراع الطائفي والجهوي واعتماد الخطاب الطائفي الضيق كرؤيا وهوية لبعض النخب السياسية المتنفذة، وهو أخطر ما يواجه المجتمع العراقي في هذه الظروف الحساسة والحرجة التي يمر بها. والواقع أن الطائفية ليس لها تأثير كبير على صعيد العلاقات الاجتماعية ولا تقوم على أرضية قوية لتمزيق النسيج الاجتماعي، بل هي في صورتها الحالية بضاعة لبعض النخب السياسية التي تستخدمها أداة للصعود للسلطة وممارسة النفوذ. أما السبب الثالث فهو التدخل الخارجي المقترن بتلاقي نشاطات وخطط إرهابية من جانب بعض العناصر والمنظمات الوافدة والتنظيمات الموروثة عن النظام السابق. أما العامل الثاني الذي اتسمت به الفترة الماضية، فيتمثل بضعف أو غياب الدولة الذي أتيت على ذكره من قبل. ولعل هذين العاملين، غياب الأمن وغياب الدولة، يتلازمان ويتأثر أحدهما بالآخر، أي بكلمة أخرى يبرز غياب الأمن وقصور الدولة عن تأدية وظائفها الطبيعية في مقدمة التحديات التي تواجه عملية التنمية المستدامة في هذه المرحلة. وتأتي المشاكل المعقدة الناجمة عن تأخر العملية السياسية، كتحد آخر مهم بوجه تقدم التنمية المستدامة، فقد تعثرت وتأخرت العملية السياسية في انجاز مراحلها المختلفة بصورة طبيعية وناجحة وأسفرت عن تشديد الصراعات بين الأطراف السياسية المختلفة. والواقع أن انجاز صياغة الدستور والانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة الحالية هي خطوات ايجابية بوجه عام، الا انها تمت في مناخ من التوتر السياسي واحتدام الخلافات والعنف، مما أثر سلبيا" على تقدم هذه العملية وبلوغ نتائجها بصورة مرضية. والمعروف ان الهدف من العملية السياسية هو اقامة مؤسسات حاكمة وشرعية معبرة عن الرأي العام العراقي الحر. أي انها تستهدف بناء ادارة حكومية وتشريعية فعالة وفق المعايير الديمقراطية . الا انه من الخطأ اعطاء صورة وردية لما تم بلوغه على هذا الصعيد حتى الآن لما اقترن به من عواقب سلبية ومشاحنات داخلية. وكان لهذه العواقب وسيكون أثار” خطيرة على اداء المؤسسات الحكومية وقدراتها الإدارية نتيجة للنزعات الضيقة المتشددة للهيمنة الطائفية والاثنية على شؤون الدولة. والخلاصة، فان التحديات التي تواجه التنمية المستدامة اليوم تكمن في غياب الأمن والاستقرار وضعف الدولة وغيابها أحيانا"، وتدني قدراتها المؤسسية والإدارية، فضلا" عن استمرار التدخل الخارجي من جانب بعض الدول الإقليمية والمنظمات الإرهابية. تصفية التركة الماضية وتعزيز القدرات المؤسسية والادارية يعتبر سوء الادارة وضعف المؤسسات من ابرز معالم التركة الموروثة من النظام السابق، وهي تنعكس في تدني القدرات الادارية والمهارات الفنية للموارد البشرية. ويعود سبب ذلك الى الانعزال عن العالم الخارجي وانغلاق البلاد على نفسها بسبب الحصار والعقوبات الدولية السابقة ، فضلا" عن التخبط والفوضى في السياسة العامة للدولة، واقترانها بممارسات بيروقراطية وقمعية فظة. ان معالجة هذه الحالة المرضية تتطلب رفع الكفاءة الإدارية لأجهزة الدولة وتحسين أدائها الاقتصادي وتثبيت المعايير المهنية في نشاطاتها، وهذا يتطلب أيضا" الانفتاح على العالم الخارجي والإفادة من ثمرات التقدم الحضاري والعلمي والتكنولوجي والانظمة الادارية الحديثة. تحدي الموارد المالية من أبرز المعضلات التي تواجهها التنمية المستدامة في العراق، الضعف الراهن للموارد المالية المحلية. وتكاد تنحصر الموارد المالية للدولة في العوائد الناجمة عن صادراته النفطية. فتبلغ نسبة القطاع النفطي أكثر من 62% من اجمالي الناتج المحلي. كما تشكل هذه العائدات أكثر من 90% من موارد الموازنة العامة، بما في ذلك، موازنة البرنامج الاستثماري، وهي حالة فريدة من نوعها وتحتاج الى معالجة جدية تعيد التوازن الى هيكل الاقتصاد العراقي وتنويع مصادره ومداخيله، أي تحرير الاقتصاد من طابعه الريعي وتحويله الى اقتصاد متنوع ومتوازن المقومات الهيكلية. ان الموارد المالية الناجمة عن عائدات النفط لاتفي بالحاجات التمويلية لمشاريع التنمية المستدامة واعادة الاعمار، لاسيما أن حجم الخراب والتدمير التي تعاني منه البنى التحتية وهياكل الاقتصاد يستلزم مبالغ مالية كبيرة. هذا بالاضافة الى كلف مكافحة البطالة وتحسين الخدمات (كالكهرباء والماء والتعليم والصحة) والإيفاء بالالتزامات الخارجية ( الديون وتعويضات الحرب). وتشير بعض التقديرات الى أن هذه الكلف قد تصل الى ما يقرب من 100 مليار دولار. تحدي الإصلاحات الاقتصادية ما زالت الاصلاحات الاقتصادية مهمة كبيرة مطروحة على جدول العمل الاقتصادي والسياسي. صحيح ان بعض الانجازات الايجابية قد تمت، الا أن تحويل الهيكل الاقتصادي تحويلا" جذريا" وحيويا" مهمة تنتظر التنفيذ. ان الشيء الأهم في هذا السياق هو اعتبار الاصلاحات المطلوبة جزءا" لايتجزأ من إستراتيجية شاملة للتنمية المستدامة، اذ لا يصح ولا يمكن أن نجري اصلاحا" على القوانين والأطر الادارية وآليات الدولة من غير أن نحقق تأهيلا" واعادة هيكلة لمقومات الاقتصاد والدولة. وهنا يتعين أن تعطى القطاعات الانتاجية اهتماما" خاصا" بهدف تحقيق التوازن والتنوع في الهيكل الاقتصادي ازاء الحالة الراهنة المنعكسة بالاعتماد الأساسي على انتاج سلعة واحدة ( النفط )، مما جعل الاقتصاد اقتصادا" مشوها" واحادي الجانب. كما يتعين انهاء حالة التهميش التي يعاني منها القطاع الخاص وتمكينه من لعب دور أساسي في قيادة الاقتصاد الوطني واصلاح مؤسسات القطاع العام الخاسرة وغير المجدية اقتصاديا". ويقترن بذلك اعداد المناخ المناسب لتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي وفق تشريعات متقدمة و ضمانات وحوافز مجزية. وهنا يجدر التأكيد على الدور الاقتصادي للدولة بشكل سليم. ففي ظل النظام الشمولي السابق كان هناك ما يشبه التقديس للدور الاقتصادي للدولة الشمولية. الأمر الذي يطرح معالجة هذه الحالة بصورة صحيحة وعلى أساس الاعتبارات الاقتصادية ومستقبل التنمية المستدامة في البلاد. ومع تعدد وجهات النظر في هذه المسألة، فان حاجة العراق تقتضي تمكين الدولة من أداء دورها بشكل صحيح، لا كسلطة مركزية ومطلقة كما حصل ويحصل في الأنظمة الشمولية، وانما بتحقيق توازن وتكامل بين دور الدولة وآليات السوق. هذه الصيغة المرنة توفر دون شك امكانية تخصيص الموارد وتأمين الكفاءة الاقتصادية بصورة سليمة. أما السياسة المالية والنقدية للدولة فمازالت تعاني من مشكلات عديدة وتحتاج الى معالجة جدية، ولعل أولى المشكلات صياغة موازنة مالية سليمة باتجاه تحرير الأسعار وتقليص الانفاق العام الناجم عن حجم الدعم الكبير الذي تقدمه الدولة لسلع وخدمات ومؤسسات كثيرة والتي تبلغ أكثر من 40% من قيمة الإنفاق العام في الموازنة. ويقترن بذلك ازالة أو تخفيف الأعباء المالية الخارجية الناجمة عن الديون وتعويضات الحرب الموروثة عن النظام السابق. ومع أن خطوات ايجابية قد أتخذت في اطار نادي باريس، الا أن المشكلة ما زالت تشكل قلقا" كبيرا" وتمثل عبئا" جسيما" على مشاريع التنمية المستدامة في المستقبل. ويدخل ضمن حزمة الاصلاحات الاقتصادية اعتماد سياسات وآليات تكفل مكافحة الهدر والفساد المالي والاداري الذي يشكل اليوم ظاهرة مقلقة بالنسبة لمستقبل التنمية وقيم المجتمع وأداء الدولة. وهي تنعكس في مظاهر مختلفة منها الفساد الناجم عن السرقة والرشوة والعمولات وتهريب النفط والمخدرات والصفقات التجارية التي تعقد في اجواء مريبة وبعيدة عن مستلزمات الشفافية والمساءلة والرقابة الديمقراطية الحقة. رابعا: فاعلية المعونات الخارجية تلعب المعونات الخارجية دورا"مهما" في دعم التنمية المستدامة وتطويرها بشرط استثمارها باسلوب صحيح في المجالات الحيوية ووفق أولويات سليمة ، وكذلك ادارتها من قبل آليات محلية ودولية بصورة فعالة ومتناسقة. والمعروف أن العراق كان موضع اهتمام وعطف دوليين واسعين في أعقاب تغيير النظام السابق، حيث بادرت مجموعة كبيرة من الدول وكذلك الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي الى اطلاق الحملة العالمية لاعادة اعمار العراق. ونتيجة لذلك، انعقد المؤتمر الدولي للمانحين في تشرين الأول 2003 في مدريد- اسبانيا. وتم فيه الاعلان عن تعهدات مالية سخية تبلغ حوالي 33 مليار دولار. وهي تشمل 18.5 مليار دولار من الولايات المتحدة الأميركية و13.5 مليار دولار من الدول والمؤسسات الدولية المانحة. أما المبلغ الأخير فيتضمن 8 مليار دولار من عدة دول أجنبية و5.5 مليار دولار كقروض ميسرة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما تقرر في مؤتمر مدريد اعتماد خطة لانفاق هذه المعونات لتنفيذ مشاريع كثيرة في جميع القطاعات وفق التقرير المعد مسبقا" للمؤتمر والموسوم ب " تقييم حاجات اعادة الاعمار في العراق"، وذلك للفترة 2004-2007 . كما تقرر في المؤتمر انشاء صندوقين دوليين لاستقبال المعونات المالية من المانحين واستحداث مايسمى بهيئة الصناديق الدولية International Reconstruction Fund Facility for Iraq (IRFFI) للاشراف على ادارة التخصيصات على المشاريع ومتابعة تنفيذها بالتنسيق مع السلطات العراقية. وهي قناة دولية متعددة الأطراف تتولى ضخ معونات المانحين لاعادة اعمار العراق. فأحد الصندوقين يديره البنك الدولي والصندوق الثاني تديره مجموعة منظمات الأمم المتحدة. غير أن قيام هذه الآلية الدولية، لايعيق تقديم المعونات بصورة مباشرة وثنائية للعراق من قبل المانحين، مؤسسات ودول. بل أن الجزء الأكبر من المعونات المحققة قد تم عن طريق القنوات الثنائية والمباشرة، من خلال متعاقدين ومنظمات غير حكومية، ومنظمات دولية ومؤسسات عراقية. لقد مضى على هذه التجربة حوالي السنتين والنصف ولم يبق لاطارها الزمني المقرر سوى سنة ونصف (نهاية 2007) . وتعددت المحاولات والدراسات لتقييم فاعلية وجدوى المعونات الخارجية لإعادة الاعمار وأسفرت عن تقديرات متباينة. غير أن المنهج الموضوعي والمسؤول، يتطلب الخروج باستنتاجات سليمة وفق معايير محددة نابعة من الأهداف المقررة وحجم التأثير الذي أحدثته هذه المعونات في عملية التنمية واعادة الاعمار ورصد المظاهر السلبية التي رافقتها على صعيد الادارة والتنسيق والتنفيذ في اطار الآليات الدولية المكلفة والمؤسسات العراقية. وفي هذا السياق، يمكن ابداء الملاحظات التالية: حسب المعطيات المتوفرة من الجهات المانحة، فان قيمة ما أنفق من المعونات قد بلغ مؤخرا" حوالي 15 مليار دولار، وتشمل ما هو منفق من المنحة الأميركية بقيمة حوالي 11.5 مليار دولار، وما أنفق من الدول والمؤسسات المانحة الأخرى بقيمة حوالي 3.5 مليار دولار. وهذا يعني أنه لم يتحقق من تنفيذ التعهدات سوى أقل من 50% من مجموعها حتى الآن، أي أن وتيرة التنفيذ لم تكن بمستوى الالتزامات المتفق عليها، ومن الصعب التوثق فيما اذا ستتوفر امكانية الايفاء بجميع التزامات الجهات المانحة على امتداد الفترة المتبقية في نهاية 2007. ان جزءا" غير قليل من كلفة المشاريع المنفذة قد ذهب لأغراض الأمن والنفقات الادارية. وتقدر بعض الدراسات بأنها قد تبلغ حوالي 40%. والواقع أن هذه التقديرات يمكن أن تكون صحيحة خاصة ان أعدادا" كبيرة من شركات الأمن الخاصة الأجنبية تعمل في العراق بحماية المشاريع وتتقاضى رواتبا" وأجورا" عالية جدا". اذ تفيد بعض المصادر بأن هنالك حوالي 40 شركة أجنبية خاصة تضم حوالي 25000 شخص. ان الجزء الأكبر من هذه المعونات قد أنفق في مجالات غير انسانية non-construction أو غير مادية، بمعنى ان حصة اعادة اعمار البنى التحتية والمرافق الانتاجية والخدمات الأساسية لم تبلغ المستوى المطلوب ولم تعط المردود الاقتصادي المنشود، لاسيما في مجالات حيوية كتطوير قطاع النفط والكهرباء والخدمات الأخرى ومكافحة الفقر والبطالة. لاشك أن الأمن وبناء القوات المسلحة قد استحوذ على جزء مهم من هذه المعونات، الا أن التقدير العام لتأثيرها ما زال غير مرض، الأمر الذي يثير تساؤلا" مشروعا" حول فاعلية وجدوى الانفاق الجاري في هذه الميادين في ظرف يشعر فيه الجميع بأن غياب الأمن والاستقرار ما زال المعضلة الرئيسة التي تعاني منها البلاد. وهي تشكل العامل الأهم في ضعف الايفاء بالالتزامات المالية الدولية وتنفيذها. أن نظام الصناديق الدولية وأسلوب العمل المعتمد فيها يتحمل جزءا" من مسؤولية التأخير والتلكؤ في اقرار وتنفيذ المشاريع، ويعزى ذلك الى أن ادارة فعاليات هذه الصناديق تتم من خارج البلاد بفعل وجود مكاتبها المختلفة في أقطار أجنبية مجاورة للعراق. كانت هذه النقطة وما زالت نقطة سلبية في آلية ادارة المنح الدولية. ويضاف الى ذلك أن ضعف القدرات الادارية لمؤسسات الدولة وغياب التنسيق أو ضعفه فيما بينها ومع الوكالات الدولية قد شكل سببا" آخر من أسباب تلكؤ اعادة الاعمار والافادة من المنح الخارجية بشكل صحيح. كما أن اضطراب الوضع السياسي وتوالي الأزمات في انجاز مهمات العملية السياسية قد قوض امكانيات المتابعة من الجانب العراقي وألحق أضرارا" بالذاكرة المؤسسية للدولة. خامسا: دروس واستنتاجات غني عن القول أن الأمن والاستقرار يشكلان الضمان الأهم لتقدم التنمية، فهما شرطان حيويان لا غنى عنهما في كل الظروف والأحوال، وهذا ما أكدته وتؤكده تجربة العراق. لذا ينبغي تركيز الجهود اليوم على ايقاف العنف وتحقيق السلم الأهلي ومكافحة جميع أشكال التخريب والارهاب والمضايقة وكذلك فرض سلطة القانون والنظام. يعزى تعثر أو فشل العديد من برامج التنمية واعادة الاعمار في العراق الى اعتماد فرضيات خاطئة بالنسبة للتطورات اللاحقة بعد انتهاء الحرب وتغيير النظام السابق في نيسان 2003، اذ كان الكثير يعتقد بأن النزاعات الداخلية قد انتهت وأن مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار قد بدأت وترتب على هذه الفرضية صياغة استراتيجيات وبرامج اعادة الاعمار والتنمية، الا أن الواقع قدم صورة مغايرة وأفرز نتائج معاكسة. ولذلك فأن نظام الأولويات كان ينبغي أن يكون مختلفا" في تلك الفترة ، ويضع في المقدمة التركيز على استعادة الوحدة والمصالحة الوطنية وتثبيت الأمن والاستقرار. وقعت أخطاء جسيمة بالنسبة لبناء الدولة ومؤسساتها واعطائها أهمية كبيرة في مجال التنمية، اذ كان من الخطأ فرض سلطة الاحتلال وحل عدد من أجهزة الدولة المهمة، الأمر الذي خلق فراغا" سياسيا" وأمنيا" خطيرا" وقوض إمكانيات التقدم في عملية التنمية. فالنجاح في التنمية المستدامة كان وما يزال يتطلب بناء مؤسسات وطنية فعالة قادرة على النهوض بادارة البرامج الانمائية واعداد الأطر والقدرات البشرية اللازمة لذلك. ان تأجيج النزاعات الطائفية كان وما زال سببا" أساسيا" في اضطراب الوضع العام في البلد وزعزعة الاستقرار، الأمر الذي يستوجب تركيز الجهود على احياء الهوية الوطنية باعتبارها شرطا" مهما" لاستعادة الاستقرار والأمن في البلاد. لقد قدم الجانب العراقي رؤيا مهمة فيما يتعلق بأولويات واهداف التنمية المنشودة والمجسدة في "إستراتيجية التنمية الوطنية" ، الا أن دينامية الواقع العراقي وبروز متغيرات واحتياجات جديدة تتطلب اعادة النظر وتوسيع اطار هذه الإستراتيجية بما يكفل صياغة برامج قطاعية محددة واعادة ترتيب الأولويات بشكل يتناسب والتطورات الجديدة. ولعل من أخطر الظواهر التي رافقت التجربة العراقية الجديدة اتساع ظاهرة الفساد وغياب الضمانات الكفيلة بحماية الثروة الوطنية والمال العام، فضلا" عن أن هذه الظاهرة الشائنة قد امتدت الى ميدان المشاريع والعقود الممولة دوليا" كما تشير بعض التقارير الصادرة عن مؤسسات الدول المانحة. وهي معضلة خطيرة تهدد أي توجه جدي لتطوير مشاريع التنمية المستدامة وبلوغ غاياتها المنشودة. أن تجربة العراق في اعادة الاعمار والتنمية في ظل الاحتلال والسلطات الوطنية اللاحقة مازالت جديرة بالدراسات المعمقة والمتابعة المستمرة، حيث أن الكثير من جوانبها وعناصرها لم تتوافر بعد، كما ان معطيات كثيرة تتطلب اعادة الدراسة على نحو يساعد على استخلاص ما هو أساسي وحيوي بالنسبة لاستئناف وتطوير عملية التنمية المستدامة في البلاد. وزير التخطيط السابق و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر:جريدة الصباح-2-7-2006
|