تقنيات الفحم الحجري ومستقبل الطاقة البديلة في أوروبا
مارك لاندلر
في هذه المحطة القديمة, التي تنتج الطاقة باستخدام وقود الفحم الحجري, والتي تنفث نحو مليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء سنوياً, وقف صاحباها السويديان ليعلنا للعالم كله أول تطور تكنولوجي من نوعه يهدف لإنتاج "الطاقة النظيفة" بواسطة الفحم الحجري, في إشارة لخلوها بنسبة 100 في المئة من ملوثات غاز ثاني أكسيد الكربون. وقد رعت هذه المناسبة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بنفسها. وفي تصريح صحفي له قال "راينهاردت هاسا" –المدير التنفيذي الأول لشركة فاتنفول المشغلة للمحطة- نحن نستجيب للتصدي لمشكلة التغير المناخي, لذلك فإن أردنا مستقبلاً لطاقة الفحم الحجري, فإن علينا تبني وتطوير تقنيات جديدة في هذا المجال. وهذا يعني أنه لم يعد كافياً البتة إجراء مجرد تحسينات شكلية هنا وهناك على تقنيات الطاقة المستخدمة حالياً. غير أن المشكلة أن هذه المحطة الجديدة التي قصد منها أن تقدم مجرد نموذج يحتذى لطاقة المستقبل البديلة, تقع في جوار ثماني محطات جديدة لوقود الفحم الحجري, تعتزم ألمانيا بناءها بحلول عام 2011, مع ملاحظة أنه ما من واحدة منها تعد خالية من ملوثات ثاني أكسيد الكربون! والشاهد أنه يروق للقارة الأوروبية أن تقدم نفسها بصورة من تخطى ماضي تاريخه الصناعي سيئ الصيت والانبعاثات الغازية بزمن طويل. كما يسرها أن تعرض نفسها للآخرين على شاكلة القارة المتحضرة المتقدمة جداً في مجال تكنولوجيا الطاقة, على شاكلة الريف الهولندي الذي تسيطر على منظريته طواحين الهواء ومحطات طاقة الرياح, وهو المنظر ذاته الذي يسود السواحل الدانمركية. بل يروقها كذلك أن تبدو في عيون الآخرين على شاكلة نموذج فرنسا التي تسودها محطات توليد الطاقة النووية وليس الرياح. لكن نتيجة للارتفاع الجنوني لأسعار النفط العالمي, مصحوباً بارتفاع المخاوف والقلق على استقرار وانتظام واردات الغاز الروسي, تجد أوروبا نفسها مرغمة على استنهاض تراث طاقة الفحم الحجري, الذي قامت عليه نهضتها وثورتها الصناعية في القرن التاسع عشر. وحتى نهاية موسم الشتاء الماضي, اعتمدت كل من بريطانيا وألمانيا في إنتاج نصف حاجتها من الطاقة على الفحم الحجري. وفي الوقت الذي تبدي فيه الحكومات الأوروبية قدراً عالياً من الحماس والاستعداد للوفاء بالتزاماتها إزاء مشكلة التغير المناخي والمحافظة على البيئة, تتخوف بعض كبريات شركاتها العاملة في مجال الطاقة, من مغبة ومخاطر الاستثمار في تكنولوجيا الطاقة البديلة, لاسيما وأنها ظاهرة جديدة, لم تثبت بعد أمام الاختبار والتجربة والتسويق التجاري. وبسبب هذه المخاوف فإن مثل هذه المحطة الجديدة التي سبق الحديث عنها آنفاً في صدر هذا المقال, لا تقدم سوى نموذج تكنولوجي قصد منه إغراء المستثمرين ولفت أنظارهم إلى احتمالات وآفاق جديدة للربحية والتنافس التجاري في مشروعات الطاقة البديلة النظيفة. وأهم ميزة للمحطة المذكورة, قدرتها على حبس غاز ثاني أكسيد الكربون وضخه إلى مستودعات عميقة في باطن الأرض, بحيث يبقى مطموراً هناك, وبعيداً كل البعد عن التأثير على نظافة البيئة والغلاف الجوي. لكن وبسبب المخاوف المشار إليها, فإن عدد المحطات النموذجية الشبيهة التي يخطط لبنائها الاتحاد الأوروبي, لا تزال تعد بأصابع اليد الواحدة تقريباً. ومن المشكلات التي تواجهها هذه التكنولوجيا الجديدة أنها ربما تتطلب إخلاء مناطق سكنية بكاملها, بغية توفير طاقة الفحم الحجري اللازمة لتشغيل المحطة وحبس غاز ثاني أكسيد الكربون تحت باطن الأرض في ذات الوقت. ومن بين المصاعب أيضاً أن تكنولوجيا حبس ثاني أكسيد الكربون مكلفة جداً, خاصة وأن أوروبا تنفق مبالغ هائلة, بغية تجديد واستبدال محطات طاقتها المتهالكة البالية. هذا وتشكل عملية البحث عن أماكن ومساحات لطمر غاز ثاني أكسيد الكربون تحت باطن الأرض, معضلة حقيقية في دول مكتظة بالكثافة السكانية مثل ألمانيا. وهنا بالذات لا تقتصر الصعوبات على الكثافة السكانية وانعدام المساحات الشاغرة فحسب, وإنما يضاعفها تاريخ طويل ممتد من الاحتجاج والتظاهر ضد تخزين الملوثات النووية التي تعد أكثر خطورة بما لا يقاس إلى مخاطر تخزين ثاني أكسيد الكربون. ومن بين المصاعب التي تقف أمام أوروبا على طريق الانتقال إلى تكنولوجيا الطاقة البديلة النظيفة, أن شركات الطاقة فيها تعتقد أنها فعلت ما هو أفضل بكثير من نظيراتها الأميركية في مجال تنظيف محطات وقود الفحم الحجري من الملوثات الأكثر خطورة, مثل ثاني أكسيد الكبريت. وللسبب عينه يثير بعض المديرين التنفيذيين لهذه الشركات شكوكاً حول أن تكون كل هذه المشروعات الجديدة المطروحة حالياً, مجرد استعراض وتظاهر شكلي, يهدف إلى الإيحاء فحسب بانتقال أوروبي فعلي من موارد الطاقة التقليدية القديمة, إلى بدائل الطاقة النظيفة الخالية من الملوثات. بل ويذهب البعض إلى وصف هذه الجهود بأنها مجرد طقوس علاقات عامة, مع كل من شركات الطاقة الأميركية والسياسات غير العملية التي تتبناها إدارة بوش في هذا المجال. والمقصود بهذا بالطبع, اتهام أميركا بالتنصل من التزاماتها إزاء خفض انبعاثاتها من الغازات السامة والملوثة, على أن تحمل عنها هذا العبء القارة الأوروبية وحدها. ولذلك فإن الكثيرين في ألمانيا على وجه الخصوص, ينظرون إلى مشروع طاقة الفحم الحجري الجديد –الخالية من التلوث- على اعتباره تجلياً من تجليات حملة دعائية إعلامية, أكثر من كونه جهداً يراد به دفع أوروبا حقاً باتجاه تبني تكنولوجيات ومصادر الطاقة البديلة. كاتب صحفي أميركي متخصص في الشؤون العلمية و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: الإاحاد الإماراتية- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"- 24-6-2006
|