الفساد...3000 قضية تحكي خطراً يتغلغل في جسد الدولة
سولومون مور
الحكومة تواجه عدوا عنيدا في كل يوم يطير مئات الزائرين إلى بغداد ، تلك العاصمة التي انهكتها الحرب ،على متن طائرات تملكها الخطوط الجوية العراقية التابعة للدولة يقول عنها موظفو وزارة النقل أنها ابتيعت بمبلغ 3 ملايين دولار للطائرة الواحدة . غير أن موظفي مكافحة الفساد يؤكدون أن تلك الطائرات كان ينبغي ألا يتجاوز ثمن الواحدة منها 600 ألف دولار ويعبرون عن حيرتهم أين ذهب الفرق بين المبلغين . وفي داخل المطار عادة ما يستحث موظفو الكمارك المسافرين المترجلين ويستعجلونهم لدفع " الرسوم الكمركية " ولكن مقدار تلك الرسوم غالباً ما يكون خاضعاً للمساومة . ولدى الخروج بوسع المسافر أن يجد سيارة تقله من بين سيارات الأجرة الواقفة في الإنتظار والمعبأة خزانات أغلبها بالبنزين المهرب. وبعيداً عن المطار تتزاحم السيارات في شوارع المدينة . نسبة ملحوظة من هذه السيارات - 17 ألف سيارة حسب تقدير مسؤولي مكافحة الفساد - كان قد سرق من الحكومة بعد دخول القوات الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003. يقول المسؤولون الأميركيون والعراقيون ان الفساد سوف يكون أحد أشد المشاكل التي تواجهها حكومة العراق المشكلة حديثاً حساسية . لذا لم تكد تمضِ لحظات على إعلان معظم أعضاء الحكومة الجديدة حتى أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي أن مكافحة الفساد سوف تكون من بين أولى أولويات حكومته . ويقول المسؤولون أن هذا الإبتزاز المستشري كالوباء وتصادم المصالح سوف يكون بانتظار المالكي حيثما ولى وجهه . وتكشف وثائق الحكومة العراقية التي حصلت عليها صحيفة لوس أنجلس تايمز عن مدى اتساع رقعة هذا الفساد الذي يتضمن خططاً واسعة ومتشعبة للتلاعب بمئات ملايين الدولارات على شكل عقود حكومية أو حالات أخف مثل شراء الدرجات من قبل طلبة الجامعة أو مثل قيام موظف سابق في وزارة العدل بتوزيع المسدسات ، التي تصرفها الولايات المتحدة ، على شكل عطايا وهبات حزبية . يقول القاضي راضي الراضي رئيس الهيئة العامة للنزاهة ، وهي الجهة المكلفة بمكافحة الفساد في العراق :"نحن نرى الفساد في كل مكان من العراق ، في جميع الوزارات وجميع المحافظات." ويمضي راضي الراضي ، ذلك القاضي المسن الذي سبق أن فصل من وظيفته وسجن وعذب في زمن حكم صدام والذي يحمل وجهه إلى اليوم آثار حروق الحامض التي تلقاها أثناء فترة اعتقاله الوحشية ، فيقول وهو يحدق بصعوبة من خلال نظارتيه السميكتين وعينيه اللتين أضرت بهما قلة الضوء في المعتقل ، متنقلاً بين الأضابير الكبيرة المتخمة للحالات المطروحة التي رصت على شكل صفوف غطت جدران مكتبين من مكاتب الهيئة : " إننا هنا نقوم بكشف أسرار البلد . " يقول الراضي أن موظفي وزارة الدفاع أنفقوا مبلغ مليار دولار على مشتريات أسلحة مثيرة للتساؤلات ، ثم يمضي متابعاً : " أما وزارة الداخلية فعندها ما لا يقل عن 1100 موظف وهمي يكلفون الدولة مبلغ 1,3 مليون دولار شهرياً. والفساد ليس شأناً جديداً في العراق ، غير أن العديد من الخبراء يعتقدون أن الوضع قد انحدر بصورة دراماتيكية منذ بداية الحرب . ففي تقرير لها قالت جمعية الشفافية الدولية ، وهي جماعة رصد غير حكومية تعمل في مكافحة الفساد : " الفساد ينتعش في ظل الفوضى وظروف التغيير ، وفي العراق تجاهد المؤسسات العامة للوقوف على حقيقة عدد من يعملون عندها ويتقاضون رواتبهم منها . فالضوابط الوقائية في المؤسسات لم توضع موضع التنفيذ بعد والوزارات والمنشآت الحكومية مازالت تفتقر إلى أنظمة جرد أصولية. كذلك فإن الفساد يعمل على تغذية حركة التمرد أيضاً كما يقول الراضي الذي يستطرد مبيناً : " الإرهابيون يعينون المجرمين والمجرمون يعينون الإرهابيين ، ولولا الفساد لكنا تمكنا من دحر الإرهابيين خلال هذه الفترة. يقول المسؤولون الأميركيون أن المئات من ضباط الشرطة والجنود قد تركوا مواقعهم منذ عام 2003 وقد حمل العديد من هؤلاء أسلحتهم معهم . كما تقول مصادر الجيش الأميركي وموظفو مكافحة الفساد في العراق أن كثير من هذه الأسلحة ، ومعها مواد عسكرية أخرى تبلغ قيمتها ملايين الدولارات ، ربما يكون قد انتهى بها المطاف إلى أيدي المتمردين. وقد اتهم عضو البرلمان مشعان الجبوري هذا العام بالتورط في قضية وجه الإدعاء فيها هي أن الحراس المكلفين بحماية أنابيب النفط يتآمرون مع المتمردين لاختطاف أرتال الشاحنات التي تنقل النفط وتهربها إلى خارج العراق. كذلك فإن هناك سوقاً سوداء منتعشة يصعب حصرها للسيارات المهربة غير المسجلة التي يعتقد المسؤولون العراقيون والأميركيون أنها تلعب دوراً في إمداد هذا التيار المتواصل من الهجمات بالسيارات المفخخة. بالإضافة إلى ذلك كله فإن الفساد يمتص من الموارد ما كان يمكن استخدامه في تعزيز عملية إعادة الإعمار وبناء الأمن . وقد أقر المسؤولون العسكريون الأميركيون هذا العام بأن الأسلحة والمعدات مجهولة المصير ربما فاقت قيمتها مجتمعة 500 مليون دولار . وعلى خلاف حركة التمرد ، التي تتعرض للملاحقة والضرب على يد القوات الأميركية ومن معها ، فإن الفساد الحكومي على ما يبدو لا يكاد يتعرض لأية ملاحقات ذات بال . الهيئة العامة للنزاهة هي الجهة الرقابية الرئيسية ضد الفساد في البلد وهي تعمل من خلال مكاتب داخل المنطقة الخضراء المحصنة . ولكن لم تتم حتى الآن إحالة أكثر من 780 قضية إلى المحاكم من بين ما يقارب 3000 قضية فساد جرى التحقيق فيها من قبل الهيئة . ومن بين هذه المحالة لم تبلغ سوى 10 قضايا أو أكثر بقليل مرحلة إصدار القرار ، على حد قول مسؤولي المحكمة والهيئة . ومن بين 40 قضية تتعلق كلها بمسؤولين حكوميين عراقيين من أعلى الدرجات ، بمن فيهم كبار موظفي الوزارات ومديروهم العامون ، لم تصدر المحكمة قرارها إلا على موظف واحد فقط - وهو من منتسبي وزارة الداخلية اتهم بسرقة مرتبات وممتلكات تابعة لجهاز الشرطة. ولغاية الشهر الماضي لم تفلح المحاكم حتى في تنفيذ الحكم الصادر بالقاء القبض عليه . يقول مسؤول حكومي أميركي اشترط عدم ذكر اسمه ، شأنه شأن معظم المسؤولين الذين تمت مقابلتهم لغرض إعداد هذه المقالة : " لقد رأينا التزاماً وحرصاً من قبل الهيئة على مكافحة الفساد المتغلغل في الأحزاب والجماعات ومفاصل الإدارة المختلفة ، ولكن المشكلة التي نواجهها الآن هي أن القضايا لا تصدر فيها أحكام قضائية . " المحاكم من ناحيتها تتعاطى مع قضايا الفساد على مضض لشدة ما تنوء به من القضايا المتعلقة بالإرهاب ، ولكن التهديد يمثل هو الآخر عاملاً رئيسياً مهماً . فمنذ عام 2003 فاق عدد من قتل من القضاة 20 قاضياً ، وفي هذا الشهر اغتال المسلحون نجل مدحت محمود رئيس القضاة في مجلس القضاء الأعلى . وكان القاضي نفسه قد نجا من هجوم بالقنابل استهدفه عندما كان عائداً إلى منزله في شهر كانون الأول . المفتشون العامون الذين يفترض بهم أن يحيلوا القضايا إلى الهيئة يتعرضون هم أيضاً للتهديدات . وفي عديد من الحالات تعرضوا للفصل بسبب إجرائهم التحقيق في الإدعاءات التي تقول بوجود سلوك إجرامي . ففي العام الماضي فصل نوري النوري ،المفتش العام في وزارة الداخلية ، بعد أيام من أقوال نسبتها إليه صحيفة تايمز تحدث فيها عن تأثير المليشيات على قوات الشرطة . يقول أحد كبار قضاة التحقيق العراقيين أن هناك 563 قضية فساد لا تزال قيد التحقيق . ويستطرد هذا القاضي ، الذي أعلن أنه وزملائه كثيراً ما يتعرضون لضغوط سياسية شديدة و طلب عدم ذكر اسمه خوفاً من حدوث ردود فعل انتقامية ، فيقول : " في بعض الأحيان يتردد القضاة عندما يكون المتهم مرتبطاً بوزارات معينة ، لأننا وفقاً للقانون سنكون بحاجة لموافقة الوزارة المعنية قبل استدعاء الشخص للمحاكمة . أما إذا كانت القضية متعلقة بالوزير نفسه فإن علينا والحالة هذه تقديم طلب إلى مجلس الوزراء . " وفي هذا العام أعاد المشرعون العمل بقانون يفرض استحصال موافقة الوزراء المعنيين من أجل إجراء أية تحقيقات تتعلق بموظفي وزاراتهم . وقد اشتكا المسؤولون الأميركيون من كون هذا المطلب سيعرقل سير العدالة في عشرات القضايا . كذلك تمكن بعض الوزراء من تحاشي المثول أمام المحاكم من خلال ادعائهم الحصانة ، كما يقول طارق حرب وهو محام معروف في بغداد. وفي قضية كانت لها أصداؤها اتهم محمد عبد مزعل ، الذي كان يومها مديراً عاماً لوزارة النفط ، بارتكاب انتهاكات مالية كان من بينها تحويل وجهة ملايين الدولارات التي خصصت لحماية أنابيب النفط ومشاريع البنية التحتية النفطية . ولكن وزير النفط تدخل لوقف إجراءات التحقيق ، كما ورد في الوثائق التي حصلت عليها التايمز. يقول الراضي وهو يستشهد ببعض القضايا المطروحة أمام الهيئة : " هناك في وزارة الصحة من يعمل على سرقة الأدوية لصالح مافيات الدواء . وعندنا قضية قام فيها موظفون في المصرف الوطني بسرقة أموال استبدلوها بعملات مزيفة . وهناك قضية الموظفين في كلية طب الأسنان الذين قدموا وصولات ادعوا فيها شراء مواد لم يشتروها في الواقع . وهذه ليست سوى القضايا الصغيرة . " ويواصل الراضي حديثه فيقول : " عندي 70 قضية استخدم فيها موظفون حكوميون أموال الدولة للإنفاق على بناء بيوت لهم وتأثيثها بمبالغ تراوحت بين 20 و 35 ألف دولار . وعندنا أعضاء في البرلمان سمح لهم باستخدام بيت عائد للحكومة لمدة خمس سنوات وسيارتين حكوميتين وسبع حراس شخصيين ، ولكن معظمهم عبر عن عدم رضاه عن ذلك . وأصرت إحدى السيدات على أن تكون لها 10 سيارات و 30 حارس شخصي . هم يصنعون ما يحلو لهم ونحن نتابعهم . " وقد صرح مسؤولون أميركيون بأنهم يشعرون بالقلق من التهديد الذي أطلقه المشرعون العراقيون بتجريد الراضي من درجة وزير التي يتمتع بها وبسحب الدعم المالي من هيئته بعد تنصيب الحكومة الجديدة . ويتهم خصوم الهيئة الراضي بأنه دمية يحركها الأميركيون ، مشيرين إلى أن الأميركيين هم الذين شكلوا هيئته . ولكن الراضي يرد عليهم قائلاً : " وأنا أسألهم : من منكم لم يعينه الأميركيون ؟ " ثم يستأنف : " لو أحلت إلى عمل أخف فإن ذلك سيكون من دواعي ارتياحي لأن عملي الراهن يسبب لي الكثير من المتاعب . ترى ما الذي يدعوني للتعلق بهذا العمل ؟ سوف يحل علي يوم أجد العراقيين فيه كلهم أعدائي. كثير من العراقيين يقرون بأنهم لا يستطيعون تصور مجتمعهم إلا وقد داخله الفساد بدرجة معينة . فالعراقيون اعتادوا أن يدفعوا للمسؤولين لكي يخفضوا لهم المبلغ في قائمة الهاتف أو يعجلوا في إنجاز معاملاتهم أو تقديم تسلسلهم في قوائم استلام الرواتب أو إطلاق سراح قريب لهم من السجن . يقول محمد جاسم رشيد الدليمي ، وهو رجل أعمال من بغداد : " أعتقد أن دفع الرشاوى جزء من مجريات حياتنا اليومية . فقبل أسبوع اقتضى الأمر مني أن أسجل سيارتي ، وهذه العملية كانت ستستغرق مني ثلاثة أيام ولكنني تمكنت من عقد صفقة مع ضابط الشرطة قام بموجبها بإنجاز الأمر كله لي في نصف ساعة لقاء مبلغ 17 دولارا. أما فائق علي، وهو نحات من سكان بغداد يبلغ من العمر 36 عاماً ، فقد أوقفه ضابط مرور في هذا الشهر عندما كان يوصل زوجته المريضة إلى المستشفى . فالسيارات في بغداد لا يسمح لها بالسير في الشوارع إلا في أيام متناوبة استناداً إلى مبدأ الأرقام الزوجية والفردية للتخفيف من زخم المرور . قال الضابط لفائق أنه يقود سيارته في يوم لا يسمح لها بالخروج فيه. يقول فائق : " شرحت له الموقف وقلت أني واقع في ظرف طارئ وزوجتي مريضة . قلت له أني رجل أحترم القانون وطلبت منه أن يتغاضى عن مخالفتي هذه المرة مراعاة للوضع ، فإذا به يرد علي أن الحكومة تفرض علي غرامة مقدارها 20 دولاراً عن المخالفة ولكنه سيسمح لي بالمرور إن دفعت له 15 دولارا . فصعقتني صفاقته ولم أتمالك نفسي من أن أقول له لن أدفع لك أكثر من 8 دولارات. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: جريدة الصباح- صحيفة لوس أنجلس تايمز-29-5-2006
|