سوق المشتقات المالية وتقاعس السلطات

 

علي بن طلال الجهني

 

 

وتدريجياً أدرك نفرٌ من الفئة القليلة التي كانت تفهم كنه المشتقات، ومنذ منتصف 2005 تصاعد مبالغ تمويل القروض الرديئة التي ما كانت لمانحيها الأصليين أية دوافع «لتقييم» قدرة المقترضين على الوفاء، ستؤدي إلى عجز كثيرٍ من المقترضين لتمويل مساكنهم، وذلك بدوره سيقود إلى تناقص قيمة المشتقات، وبالتالي ستتحمل المنشآت المالية، التي تاجرت بالمشتقات، خسائر ضخمة. كما حذر من أن طريقة دفع المكافآت و «البونسس» لسماسرة بيع وشراء المشتقات مقدماً، بناء على أرباح موعودة زعم السماسرة بأنها ستتحقق في المستقبل، خلقت كل الحوافز لدى سماسرة المشتقات لتحميل المنشآت المالية التي يعملون فيها مخاطر كبيرة متصاعدة وقد قال ألن غرينسبان حينما سئل مؤخراً عن معارضته لتنظيم «سوق المشتقات» وإيجاد الوسائل لمراقبة شؤونه، إنه ما كان يتصور أن يقدّم سماسرة «المشتقات» مصالحهم الذاتية في المدى القصير على مصالح أرباب العمل الذين وظفوهم. ولكن هذا الذي حصل. ومن أسباب ذلك أن القيادات التنفيذية العليا في المنشآت المالية، ما كانت تفهم تعقيدات النماذج الرياضية المتقدمة التي يوظفها ويتحدث بها سماسرة المشتقات الذين تخرج أكثرهم من كليات الهندسة وعلوم الكومبيوتر والرياضيات ومن هي الجهات التي أدى تقاعسها في الملاحظة والتحذير، وتنبيه الجميع إن لم تكن لهم الصلاحيات القانونية في تنظيم التعاملات في تلك الأدوات المالية التي بدأت بخلط الرهون ثم إصدار أوراق مالية من الخليط بأسماء لها مصداقيتها وما ولد منها من مشتقات؟

أولها: القيادات التنفيذية للمنشآت المالية المعروفة الكبيرة. وقد يكون السبب جهلها بتفاصيل ما جرى. وقد تكون جاذبية ارتفاع مستوى العمولات كما بدت في وقت بداية التوسع في تجارة «المشتقات».

ثانيها: شركات «التقويم» المتخصصة في تقويم نوعية الديون من الممتازة المؤكد الوفاء بها إلى الرديئة المشكوك في الوفاء بجميع مبالغها. ولماذا؟ لأسباب كثيرة منها ارتفاع تكاليف توظيف القادرين على فهم، دع عنك «تقييم» هذه الأدوات المالية المستحدثة. والاهم من ارتفاع تكاليف معرفة المعلومة الصحيحة، تناقض المصالح. فشركات «تقويم» الديون تستمد دخلها من المنشآت المالية الكبيرة التي أغراها ارتفاع عمولات «المشتقات».

ثالثها: معارضة رئيس «الاحتياط الفيديرالي» أو البنك المركزي الأميركي ألن غرينسبان لإيجاد «تنظيم» يضبط تداولات المشتقات. وكان جوابه الذي صار «مشهوراً» الآن «أن المشتقات وسيلة جيدة لنقل مخاطر الائتمان من غير القادرين على تحمل المخاطر إلى القادرين عليه كالقطاع المصرفي وقطاع بيوت الاستثمار». والذي أراد ألن غرينسبان قوله، وهو اقتصادي متمكن ومهني مجرب، إنه يثق في الدوافع الذاتية كآلية فاعلة لتنظيم الأسواق أكثر من أي جهة حكومية وفي العادة، وفي الظروف المعتادة، وكما قال أدم سميث، دوافع الناس الذاتية وحرصهم على مصالحهم، هي التي تفسر تفوق الرأسمالية على أي نظام اقتصادي آخر في تحقيق التطور والتقدم التقني وحشد ثروات الأمم والأفرادغير أن مشكلة «المشتقات» نمت من ارتفاع درجة التناقض في المصالح بين السماسرة التي وظفتهم المنشآت المالية للتعامل في «المشتقات» وبقية الأدوات المالية وبين حاملي أسهم هذه المنشآت، الذين تمثلهم القيادات التنفيذية العليا لهذه المنشآت، المسؤولة عن المحافظة على حقوق المساهمين. والمشكلة أن السماسرة يحصلون على عمولاتهم العالية من تداول «المشتقات» وأخواتها مقدماً بمجرد إجراء أي عملية من عمليات تداول المشتقات. وبذلك تم خلق الحوافز للسماسرة لتحميل المؤسسات التي وظفتهم مخاطر عالية لتحقيق مكاسب شخصية عاجلة. وقصة «السمسار» ذي المرتبة الوظيفية الدنيا نسبياً والذي حمل بنكاً فرنسياً شهيراً كبيراً بلايين الدولارات من الخسائر، يعطي مثلاً واضحاً على مدى قدرة السماسرة على المغامرة والمخاطرة بمبالغ ضخمة لا تعرف القيادات التنفيذية العليا تفاصيلها. هذه ليست حرية الأسواق المالية التي لا بد من توفر حد أدنى فيها. هذا «تشويه» للأسواق المالية، أدى إليه تغييب المعلومة الصحيحة عما كان يجري، وفشل ذريع لقيادات المنشآت المالية، التي شجعت عمليات مالية ما كانت تفهم مدى خطورتها.

رابعها: إدارة «المحافظين المجددين» التي كانت ضد أي تقنين للأسواق المالية لا انطلاقاً من معرفة علمية ترجح عدم التدخل وإنما لأسباب أيديولوجية تغذيها إذاعات وصحف اليمين المتطرف وما العمل حتى لا تتكرر كارثة تشويه الأسواق المالية؟

أ‌- ينبغي إعطاء جميع البنوك المركزية المشرفة على القطاع المصرفي صلاحية وضع ضوابط وتنظيم للسوق المالي الذي لا تتم تعاملاته حالياً من خلال الأسواق المكشوفة للجميع التي تخضع لرقابة سلطات رسمية، والتي توصف بأسواق «الظل» كمحافظ «التحوط».

ب‌- يجب أن لا تباع «المشتقات» ولا تشترى إلا في بورصات المال المعروفة التي تشرف عليها سلطات رسمية يعرف فيها من يبيع ومن يشتري وكميات وأسعار ما يباع ويشترى.

ج‌- ضوابط أخرى، كتنظيم «البيع على المكشوف»، وهذا أمر أكثر تعقيداً من إيجازه بوضوح في هذا المقام.

لا يوجد مبرر لأسباب علمية بحتة للتدخل الحكومي في الأسواق إلا حينما يتعرض المعروض أو المطلوب أو كلاهما لـ «التشويه». وهي العبارة الرشيقة التي أتى بها الزميل الدكتور عبدالواحد الحميد، لما يسمى في علم الاقتصاد بـ «فشل» آلية الأسواق لأداء دورها في تنظيم النشاط الاقتصادي. ومما يؤدي بآلية السوق إلى «الفشل» أو «التشويه» اختلاف التكاليف التي يتحملها المجتمع ككل والمنتج لوحده أو المستهلك لوحده. ولكن أهم أسباب «تشويه الأسواق» الكفيلة بتعطيل محركات آليات الأسواق هو عدم تطابق المعلومات بين البائع والمشتري. ولا جدال في أن «خلط» الديون و «دمجها» و «ترقيعها» و «تلصيقها» من ديون متباينة الجودة والمكان والزمان والغرض من إنشائها، ثم إصدار «ديون» جديدة مقابلها، ثم اشتقاق «مشتقات» من الخليط المرقع، يطمس الأصل، فيصعب، إن لم يتعذر، على المستثمرين في اقتنائها «تقييم» درجة مخاطرها حتى يقع الفأس بالرأس والله من وراء القصد.

* أكاديمي سعودي

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: daralhayat.com