الإنسان الإستهلاكي ذو البعد الواحد وظاهرة النازية الجديدة

 

 د. طيب تيزيني

 

الإنسان ذو البعد الواحد   

كتب عالم الاجتماع الراحل هربرت ماركوز عام 1964 كتابه الشهير "الإنسان ذو البعد الواحد"، حين كانت مرحلة السبعينيات تبرز من خلال إشكالية ستنتشر في سنوات قادمة بكيفية مثيرة، خصوصاً في بلدان أوروبا الغربية. تلك الكيفية اتضحت ملامحها عام 1968، حين هبَّت انتفاضة الطلبة والشباب عموماً، يطالب روُّادها بكسر الحصار الكثيف، الذي راح يفرضه المجتمع الأوروبي، ومعه بلدان اشتراكية غارقة في البيروقراطية في حينه، على معظم فئات الشعوب المعنية. والمُلفِت أن تناقضاً كان يُفصح عن نفسه في هذا السياق بصيغة تعاظم البيروقراطية بصفتها ظاهرة تبلورت في قطاعات الدولة والمجتمع، يداً بيد مع اتضاح اتجاهات كبرى للفساد والإفساد، خصوصاً في المؤسسات الثقافية والعلمية بدعم من مؤسسات اقتصادية راحت توغل في الجمود والانغلاق وفي سطوة الدولة. أما هذه الأخيرة فقد برزت بصفتها يد الدولة الرأسمالية الجشعة في الغرب، ويد الدولة باعتبارها اليد الطولى للحزب في الشرق.جاء ذلك في إطار بروز وتطور "الثورة العلمية التكنولوجية"، التي وإن أخذت تفرض التغيير المجتمعي، إلا أنها أتت على حساب التطور الثقافي والاجتماعي والإنساني والعلمي.

ظهر كتاب هربرت ماركوز المشار إليه، ليقدم أطروحة أراد بها أن تكون منطلقاً لنقد ذلك التقدم. أما هذه الأطروحة فرآها ماثلة في إقالة "الإنسان" وإقصائه من موقعه، وفي تحوُّل الدولة إلى غول يلتهم المجتمع. وفي السياق نفسه، كان "كارل بوبر" قد تحدث عن "المجتمع المغلق" بوصفه تعبيراً عن واقع الحال المذكور، وعن "المجتمع المفتوح" بمثابته البديل. ومع أن ما قدمه "ماركوز" و"بوبر"، لم يتوغَّل في آليات الاستغلال الاقتصادي والتهميش السياسي والاغتراب الثقافي الفكري، إلا أن ذلك أعطى ثماراً تجسدت في تحركات مجتمعية كانت الفئات الوسطى، وبصورة خاصة جمهور الطلبة الواسع، حامله الاجتماعي.

"الإنسان ذو البعد الواحد" كائن تُستنفد طاقاته في اللهاث وراء تقدمه الاقتصادي بصيغة استهلاكٍ متقطع الأنفاس، وغالباً يكون ملوثاً بالعرق والأسى والشعور بالكآبة والاحتقار الذاتي. هذا الاستهلاك كان عاملاً رئيسياً في تضخم إشكالية الإنسان عبر استبداله، أي الإنسان الاجتماعي الطامح إلى تحقيق الكرامة والكفاية المادية، بـ"الإنسان الاقتصادي". ومع ذلك، أفصح هذا الإنسان عن أنه وإنْ راح يجد معناه وبعده التاريخي في "الاقتصاد الاستهلاكي" إلا أن "اقتصاديته" راحت هي نفسها تُخترق من موقع الاقتصاد الرأسمالي عموماً، بحيث أدرك أنه هدف للإقصاء عن الإنتاج الاقتصادي المكرَّس لسدّ حاجات الكتلة المجتمعية العظمى. فهي -من ثم- صفة لا معادل اجتماعياً اقتصادياً لها في حياته.

ما يحدث في المجتمعات الغربية الراهنة راح الكثير من القيِّمين عليه إنما هو أمر على تنوع مظاهره، إلا أنه يمكن أن يتلخص فيما راح يتحول إلى مُعجمية يومية في حياة الناس. فالإعلام العام والخاص (في ألمانيا مثلاً) مشغول بشكل كبير بالحديث عن اليورو، والضرائب، والإنفاق العالمي، والمسابقات اليومية، التي تُقدِّم الوعود لمن ينتمي إلى الفئات الوسطى والقاع الاجتماعي بالسعادة والرفاه وتجاوز الأزمة، هذا مع بروز واضح وعلني لظاهرة الدعاية بمثابتها (Job). وراح ذلك كله يتجه كذلك حتى نحو ذوي الكفاية ممن ينتمي إلى ما فوق تلك الفئات ويفرض عليهم نمطاً من السلوك والتفكير: إنه التنميط بعينه، الذي يتبلور الآن في "المطلب الشعبي" بتحقيق حدود مفتوحة من امتلاك للثروة المالية: إن اليورو يصبح الإله الجديد، الذي يثير العواطف مع هذا وذاك، راحت تظهر بقوة، وإنْ بخجل، ظاهرة النازية الجديدة، التي تطالب بطرد الأجانب، اعتقاداً بأنهم هم سبب البطالة المتعاظمة والإفقار المطرد. ولا ندري إلى متى تستمر هذه العملية الكبيرة، التي لخَّصها المتظاهرون الفرنسيون منذ أيام، حين خرجوا في باريس برقم هائل (مليوني متظاهر)، حين خاطبوا دولة النخبة: لماذا تسعون إلى حلّ الأزمة عبر منح الشركات المتضررة مليارات اليورو، وتدعون الشعب عارياً؟

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: الاتحاد – 3-1-2009