دروس الأزمة المالية ... تتوالى

 

محمد العسومي

 

 

تفرز الأزمة المالية العالمية مع اشتداد حدتها دروساً وعبراً جديدة، سبق وأن أشرنا إلى بعضها في مقالات سابقة، إلا أن التطورات اللاحقة كشفت عن مستجدات طالت الهياكل الأساسية لبعض الاقتصادات العالمية التي حدثت فيها تغيرات جذرية في غضون العقود الثلاثة الماضية وضمن هذه التغيرات يمكن الإشارة إلى تبني بعض النظريات الاقتصادية التي برزت في بداية الثمانينيات والتي ركزت على خلق الثروة من خلال قطاع الخدمات بصورة أساسية، وتم تبنيها على نطاق واسع في بريطانيا في الفترة "التاتشرية" وما بعدها وعلى رغم الدور الحيوي لقطاع الخدمات وتأثيراته الإيجابية على النمو الاقتصادي، إلا أنه لا يمكن أن يكون بديلاً للقطاع الإنتاجي، الذي يعتبر المحرك الأول للتنمية الاقتصادية. ففي نهاية السبعينيات، كانت القطاعات الإنتاجية تشكل ثلثي الاقتصاد البريطاني تقريباً، في حين شكل قطاع الخدمات الثلث الآخر من مكونات هذا الاقتصاد الذي ظل يتراجع نسبياً مقارنة مع الاقتصادات العالمية الأخرى منذ ذلك الحين، وبالأخص أمام الاقتصاد الألماني والصيني الذي تجاوزه خلال السنوات الخمس الماضية. وفي منتصف العقد الحالي انقلب الوضع ليشكل قطاع الخدمات ثلثي الاقتصاد البريطاني، مقابل الثلث فقط للقطاعات الإنتاجية، وذلك ضمن سياسات اقتصادية منهجية اتبعتها الحكومات البريطانية المتعاقبة. لذلك كان تأثر الاقتصاد البريطاني بتبعات الأزمة المالية العالمية سريعاً وهائلًا، فقطاع الخدمات شديد التأثر بأية تطورات غير مواتية على الصعيد العالمي، ومن هنا رأينا حجم التراجع في قطاع المصارف والعقارات والسياحة، وتزايد أعداد العاطلين عن العمل بصورة مخيفة، مقارنة بالبلدان الأوروبية الأخرى وفي الوقت نفسه يمكننا النظر إلى اقتصاد عالمي آخر أكثر توازناً بين شقيه الإنتاجي والخدماتي، وربما يكون الاقتصاد السنغافوري هو الأقرب لمثل هذه الحالة، حيث تتقارب نسبة مساهمة القطاعين الإنتاجي والخدماتي وبنسبة النصف تقريباً لكل منهما. وقد منح ذلك سنغافورة مرونة كبيرة للتعامل مع تبعات الأزمة المالية العالمية، حيث يعتبر الاقتصاد السنغافوري أقل الاقتصادات العالمية تأثراً من جراء الأزمة المالية، وذلك على رغم كون سنغافورة مركزاً مالياً وتجارياً رئيسياً في شرق آسيا، إلا أنها في نفس الوقت مركز عالمي لبعض الصناعات المهمة، كالصناعات الإلكترونية وصناعة تكرير النفط ومشتقاته، التي لا يمكن للعالم الاستغناء عنها تحت أية ظروف، ومؤخراً تم إحداث نقلة كبيرة في مجال الأبحاث الطبية والصناعات الدوائية.

صحيح أن التغيرات العالمية في مجال التقنيات الحديثة والمعلومات والمعرفة قد أعطت دفعة قوية لتنمية قطاع الخدمات في شتى المجالات، إلا أن الأساسيات الإنتاجية للاقتصادات الحديثة لا زالت قائمة وتشكل حجر الزاوية للتنمية وإذا ما أخذنا صناعة السيارات التي تمر بأزمة خانقة في الوقت الحاضر، فإننا سنجد أن الكثير من عملياتها الإنتاجية أصبحت تعتمد بصورة متزايدة على العمل الآلي "الروبوت" والحاسبات الإلكترونية، إلا أن مكوناتها المهمة من المواد الأساسية لا زالت تشكل العمود الفقري لهذه الصناعة ولا يختلف الأمر هنا كثيراً عنه في الاقتصادات الحديثة، التي أصبحت تعتمد بصورة متنامية على تقنية المعلومات والمعرفة، إلا أن أساسياتها الإنتاجية لا زالت قائمة في الصناعة والزراعة واستخراج الثروات الطبيعية، كالنفط والغاز والمواد الأولية الأخرى ومن هنا تعتبر عملية المزج والتوافق النسبي بين المكونات الإنتاجية والخدماتية مسألة في غاية الأهمية، بل إنه بدونها لا يمكن تحقيق تنمية متوازنة ومستقرة ودائمة، حيث يمكن اعتبار ذلك أحد أهم دروس الأزمة المالية المتواصلة فصولها بأشكال مختلفة في كافة بلدان العالم ولاشك أن رصد هذه الدروس والاستفادة منها يعتبر إحدى المهام المنوطة بالمهتمين والمتابعين لتداعيات الأزمة، بل إن العديد من بلدان العالم قد باشر بالفعل دراسة الأسباب للخروج بنتائج عملية، وذلك من خلال فرق عمل متخصصة ومهنية والحال أنه يمكن تشكيل فرق العمل هذه في مختلف بلدان العالم، على اعتبار أنه مثلما هزت الأزمة المالية اقتصادات العالم، فإن تجاوز تبعاتها بنجاح سيتيح الاستفادة من فرص كثيرة يمكن تسخيرها لتحقيق تنمية مستدامة وأكثر توازناً في المستقبل.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: الاتحاد - 26-2-2009