الحكومات الشرق أوسطية والتحدي المالي الجديد

 

آندرو كاننغهام

 

أعلنت الجزائر أنّ قيمة احتياطاتها الأجنبية بلغت ٦2 بليون دولار وأنّها تريد أن تقوم بدفعات مبكرة لتسديد جزءٍ من دينها الخارجي. وتظهر تلك الخطوة كيف أنّ الثروات المالية لحكومات الشرق الأوسط تغيرت في السنوات الأخيرة.

منذ 12 سنة، كانت الجزائر تناشد الدائنين الأجانب لإعادة جدولة ديونها وذلك بعد أن تدنت احتياطاتها بالعملة الأجنبية ووصلت إلى درجة منعتها من تغطية الواردات أكثر من أسابيع معدودة. وفي تلك الأحيان أيضاً كلّفت خدمة الدين 90 في المئة من مجموع العائدات على العملات الأجنبية.

والجزائر ليست المثال الوحيد على تغيّر وجهة الأموال العامة – فقد طرأت تلك التغيرات على منطقة الشرق الوسط بأسرها. وفيما كانت الجزائر منهمكة في إعادة جدولة ديونها، كانت مصر لا تزال تشقّ طريقها عبر برنامج تغيير هيكلي برعاية صندوق النقد الدولي. وقبلت مصر، ولو على مضض، بذلك البرنامج فهو بدا لها السبيل الوحيد لمعالجة أزمة العام 1989 المتعلقة بميزان المدفوعات. أمّا المغرب فقد تفاوض من جديد مع الدائنين الأجانب حول كيفية سداد الدين.

ولم تكن دول الخليج بمنأى عن الضغوط المتعلقة بالموازنة. فخلال التسعينات، قامت حكوماتٌ عدّة، كما جرت العادة، بتأجيل تسديد الدفعات إلى المتعاقدين والمزوّدين، بغية إدارة مخرجات الدول خلال الفترات التي وصلت فيها أسعار النفط إلى مستويات متدنية.

إلاّ أنّ الضغوط المتعلقة بالموازنة توقفت اليوم في هذه البلدان. كما سقطت أعباء خدمة الدين، وازدادت الاحتياطات بالعملة الأجنبية وتقلّص العجز.

تغير نهج السياسات المالية واضح أن هناك تغيراً في نهج السياسات المالية أخيراً. فالحكومات تكافح من أجل وضع موازناتها على قاعدةٍ أكثر استدامة. اضافة الى ذلك، تُخصّص الشركات العامة غير الناجحة، ويخضع الدعم الحكومي للسلع الأساسية للمساءلة، ويُعاد النظر في سياسة فرض الضرائب. إضافة، تُمنح المصارف المركزية مزيداً من الاستقلالية القانونية ويُطلَب منها الالتزام بسياسات نقدية حكيمة، بهدف تقليص التضخم وأسعار الفائدة.

وعلى رغم أنّ معظم التقلبات الأخيرة لجهة أموال الحكومات الشرق الأوسطية يُعزى سببُها إلى ارتفاع أسعار النفط، إلا أنّ التغيير الذي طرأ على نهج السياسات المتبعة سيضمن استدامة الجزء الأكبر من السياسات المتبعة حالياً. فما من أحدٍ في الشرق الأوسط مقتنعٌ اليوم بأنّ النمو الاقتصادي على المدى الطويل يمكن أن يكون وليد المشاريع الضخمة التي تمولها الحكومات أو نتيجةً لإرغام الوزارات على استيعاب ملايين الشباب الباحثين عن عمل.

من هو محرّك النمو الاقتصادي في المنطقة؟

ولكن، اقتباساً عن شخصية هاملت للكاتب شكسبير: «هنا تكمن المعضلة». فإذا لم تلعب الحكومات دور المحرّك في تحقيق النمو الاقتصادي، من يكون المحرّك إذاً؟ ومن يولد النمو الاقتصادي في المستقبل، ومن يستحدث فرص عملٍ في منطقةٍ لا تنفك تزدحم، وبسرعةٍ، بالسكان؟

وإن لم تعمل الحكومات على تحقيق النمو الاقتصادي، عندئذ تقع المسؤولية على عاتق القطاع الخاص في تحمل هذه المسؤولية. فمنذ سنين وهو يطالب بذلك. ويشار الى أنّ المنطقة غنية برجال الأعمال الكُفؤين المفعمين بالحماسة، وكلّهم على أتمّ الاستعداد إمّا لخلق مشاريع جديدة أو لتوسيع المشاريع الحالية. ولا يمكن التقليل من أهمية ودور هذه الفئة في النمو الاقتصادي الإقليمي.

ففي مصر، يدخل 700 ألف شاب سنوياً إلى سوق العمل. وفي الأردن، يدخل 50 ألفاً. وإذا قارنا بين البلدين نجد أنّ عدديْ الدخول يتساويان نسبةً إلى العدد الإجمالي للسكان. أمّا في المملكة العربية السعودية، فيشكل السكان دون الخامسة عشرة من العمر ٤2 في المئة من المجموع. ويؤدي عدم توفير فرص عمل مفيدة لهذا الجيل الجديد إلى تداعيات خطيرة ليس فقط لجهة تفويت فرصة تحقيق النمو الاقتصادي، بل أيضاً على المستوييْن السياسي والاجتماعي. فملايين الشباب العاطلين من العمل سيغيّرون ملامح الشرق الأوسط ويصبحون صيداً سهلاً للجماعات المتطرفة.

إلا أنّ القطاع الخاص ليس بعد بموقعٍ يسمح له بتحمّل هذه المسؤولية الكبيرة التي أُلقيت على عاتقه. وفي بلدانٍ عدّة، لا تزال الإجراءات التي تحكم بناء المشاريع الجديدة تعكس إمّا الشكوك التي تخالج جميع الحكومات التقليدية تجاه مقاولي القطاع الخاص أو، وبكل بساطة، آثار البيروقراطية المتحجّرة. ويشير تقريرٌ حديثٌ إلى أنّ إنشاء شركة جديدة في مصر يتطلّب القيام بمئةٍ وسبعة وثلاثين خطوة مختلفة.

والأهمّّ من ذلك، هو أنّ الشركات الصغيرة والمتوسطة تفتقر إلى الحصول على الخدمات المالية. ففي المغرب، حيث تشكل هذه الشركات ٨۰ في المئة من إجمالي الناتج القومي، تربط علاقةٌ عدوانية بينها وبين المصارف التي تدّعي أنّ إقراض تلك الشركات عملية غير مربحة. وعلى رغم أنّ الشركات الصغيرة والمتوسطة توفر ثلثيْ الوظائف في مصر، يبقى أنّ عدداً ضئيلاً من المصارف يملك تسهيلات مخصَّصة لتمويلها.

التحدي لحكومات الشرق الأوسط

هذا هو التحدي الذي يطرح نفسه أمام حكومات الشرق الأوسط. ففي الواقع، خفّت نسبة المشكلات المالية التي كانت تعترض الحكومات، وبات ضرورياً اليوم أن تركز بدلاً عمن ذلك على خلق بيئةٍ تسمح للقطاع الخاص، لا سيّما الشركات الصغيرة والمتوسطة، بأن تنطلق وتزدهر.

والغريب في الأمر أنّ الحكومات نفسها تمسك بجزءٍ كبيرٍ من الحلول. فهي تحتاج إلى تقليص العوائق البيروقراطية التي تحول دون إنشاء الأعمال الجديدة. ويجدر بها أن تؤسس البنية التحتية القادرة على دعم الشركات الصغيرة والنامية، على غرار التنظيمات المناهضة للاحتكار وجمعيات الأعمال الصغيرة الحجم.

كما تحتاج الحكومات إلى خلق الظروف المؤاتية للمصارف، ظروفٌ تشجعها على الالتزام مع الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم وتسهيل أعمالها التمويلية والمصرفية. هذا يستدعي اتّخاذ خطواتٍ لمساعدة تلك الشركات على الشفافية، وتسليّط الضوء على أهمية الحوكمة، والمساعدة على تفهم كيفية اتخاذ موظفٍ مصرفي قراراً لمنح القروض أو عدمها، ولماذا. وتحتاج الحكومات أيضاً التأثير في المصارف والمؤسسات المالية عموماً من شركات المخاطرة وأسواق البورصة، من جهة تسهيل نمو الشركات الخاصة في بلدانهم.

خلال العقود المقبلة، ستحلّ المؤسسات المالية محلَّ الحكومات للإضطلاع، بدلاً منها، بدور تأمين النمو الاقتصادي واستحداث فرص العمل.

مدير إقليم الشرق الأوسط لفرق متطوعي الخدمات المالية.

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر: الحياة اللندنية-28-5-2006