انطباعات من "دافوس"

 

جدعون راتشمان

 

 

حين تعود العولمة إلى الوراء .. ماذا يحدث؟

خلال العقد الماضي كان منتدى دافوس يجمع بين الشركات الكبرى والبنوك الكبرى ورؤساء الدول، لتعزيز تكامل الاقتصاد العالمي والاحتفال به. الوفود الموجودة في دافوس، بصرف النظر عن ما بينها من تنافس في التجارة والأعمال، أو ما بينها من خلافات سياسية، كانوا جميعاً يتفقون على أن الطريق نحو السلام والازدهار يمر عبر مزيد من التجارة والاستثمارات الدولية. باختصار، يمر عبر العولمة ولكن هذا العام وجد المنتدى نفسه أن عليه مواجهة ظاهرة جديدة، هي تقليص العولمة. العالم الذي خلقه رجل دافوس يسير الآن إلى الوراء. التجارة والاستثمارات الدولية في حالة هبوط، والحواجز الحمائية ترتفع بين البلدان. الاقتصادات تتقلص والبطالة في ازدياد.أعراض تَراجُع العولمة نراها حولنا في كل مكان. في الأسبوع الماضي، ذُكِر أن حركة الشحن الجوي في كانون الأول (ديسمبر) 2008 هبطت بنسبة 22.6 في المائة نسبة إلى معدل كانون الأول (ديسمبر) 2007. تحدث أبهيسيت فيجاجيفا Abhisit Vejjajiva، رئيس الوزراء التايلندي، أمام الوفود وقال إن مقبوضات بلاده من السياحة هبطت بنسبة 20 في المائة بالمعدل السنوي، تمشياً مع الهبوط العام في حركة السفر الدولية (وبالتالي لم تستفد البلاد من آثار الإغلاق المؤقت لمطار بانكوك). وفي الولايات المتحدة وأوروبا تتدافع الحكومات لإنقاذ ليس فقط البنوك وإنما كذلك شركات صناعة السيارات. ولكن كما أقر الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة، فإن "مساعدات الدولة" إلى الشركات الصناعية الكبرى في بلادها هو أحد أشكال الحمائية ثم نجد لدينا كذلك "المركنتيلية المالية"، وهي حديث هذا العام في دافوس. هناك ضغط متزايد على البنوك والمؤسسات المالية، للانسحاب من الأعمال الدولية والتركيز على الأسواق المحلية. تريفور مانويل، وزير المالية في جنوب إفريقيا، استطاع وضع يده على مشاعر الخوف لدى الكثير من البلدان، حين حذر من أن جنوب إفريقيا والأسواق الناشئة الأخرى، تتعرض لخطر تهميشها في الأسواق الرأسمالية الدولية، وحذر من "اختفاء الاقتران بالاقتصاد العالمي والخروج عن مساره والهجر".

الحمائية المالية مدفوعة بمنطق السوق والضغط السياسي. البنوك فقدت الثقة وفقدت رأس المال في أزمة الانقباض الائتماني، تنسحب الآن إلى أسواقها المحلية التي تعرفها على أفضل نحو ممكن. وحيث أن عدداً كبيراً للغاية من البنوك تم إنقاذها على يد دافعي الضرائب في بلدانها، فإنها تتعرض كذلك لضغط سياسي للإقراض ضمن بلادها وليس للجهات الخارجية لكن في دافوس لم تكن هناك علامات تذكر بأن الأزمة المالية العالمية أدت إلى أي نوع من إعادة النظر في افتراضات بنيت عليها العولمة. صحيح أن الموضة الآن هي مهاجمة المصرفيين والمطالبة بقدر أكبر من الإشراف الدولي على النظام المالي. ولكن فضائل مبادئ السوق الحرة والتكامل الاقتصادي الدولي، تظل بصورة عامة مقبولة لدى الجميع إلى حد كبير من بعض الجوانب نستطيع أن نقول إن مؤتمر دافوس لهذا العام أكد مدى وسعة انتشار هذه الأفكار الآن. بعد مرور 20 سنة على نهاية الحرب الباردة، لا نزال نشعر بنوع خفيف من الدهشة حين نجد أن رئيس الوزراء الروسي يحذر من "الاعتقاد الأعمى في يد الدولة التي تطول كل شيء"، وحين نرى أن رئيس الوزراء الصيني، يكشف عن حقيقة أنه يعيد قراءة آدم سميث بحثاً عن نوع من الإلهام ولكن في حين أن الأفكار التي تقوم عليها العولمة تظل راسخة في مكانها، إلا أن الأحداث تتحرك في الاتجاه المعاكس. الصحف التي تنتشر حول المقاهي في دافوس لم تكن تتحدث فقط عن الهبوط في معدلات التجارة الدولية، وإنما كذلك عن الإضرابات في فرنسا، والقانون القاضي بشراء البضائع الأمريكية في الكونجرس، والاضطرابات الاجتماعية في روسيا، والاحتجاجات ضد الأجانب في بريطانيا.هذه التعهدات التي أطلقتها الوفود "لإكمال جولة الدوحة" في المحادثات التجارية العالمية، سبق أُطلقت ونُقضت مرات كثيرة، إلى درجة أن حظها من التصديق، هو بمرتبة تصديق الشخص الذي يَعد كل سنة بالدخول في برنامج اللياقة البدنية، ليخفف من وزنه 6 أو 7 كيلوجرامات.

الواقع أنه في الوقت الذي كان فيه الزعماء السياسيون يجددون تعهداتهم حول الالتزام بالعولمة في دافوس، إلا أن حكوماتهم كانت في الغالب تتخذ خطوات مناقضة للعولمة في بلدانها. ليس هناك من جسَّد هذا التناقض أفضل من جوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني، الذي أصبح من نجوم دافوس لهذا العام، بفضل فهمه للتجارة الدولية ومطالباته القوية بالتعاون الدولي. أثناء المنتدى، حذر براون من خطورة "تقلص العولمة"، وأدان الحمائية التجارية والمالية. ولكن تساءلت الوفود في دافوس بصوت مرتفع عن مدى الانسجام بين أقوال براون، وبين الضغط الذي تقوم به حكومته على البنوك البريطانية التي أنقذتها الحكومة لإعطاء الأولوية للزبائن المحليين. من جانب آخر في بريطانيا نجد العمال الغاضبين، الذين تغمرهم مشاعر الاستياء يسيرون في مظاهرات، وهم يحملون لافتات كتبت عليها بحروف كبيرة لامعة كلمات براون "الوظائف البريطانية للعمال البريطانيين". ليس معنى ذلك أن براون منافق. أتمنى لو أن الأمر كان بهذه البساطة. الواقع أن براون والزعماء الآخرين يجدون أنفسهم مدفوعين في اتجاهين متناقضين. من الناحية الفكرية، هم مقتنعون بالحاجة إلى إبقاء الأسواق مفتوحة، وإلى المحافظة على تدفق التجارة والاستثمارات. من الناحية السياسية، هو واقعون تحت الضغط بالاستجابة للناخبين الغاضبين، الذين يشعرون بالخوف ويطالبون بالحماية. تشير التطورات الأخيرة إلى أن المواطنين الغاضبين لهم الأولوية على الأفكار المجردة. إن رجل دافوس يفقد السيطرة على الأحداث. برهنت الأزمة المالية أن العولمة أنشأت نظاماً اقتصادياً أكثر تعقيداً وأكثر خطورة، مما خطر على بال أي من الوفود المجتمعة في دافوس. وإن قلة حيلة أهل السياسة الدولية ورجال الأعمال لوقف الهبوط نحو الحمائية، تبدو وكأنها المرحلة المقبلة في القضاء على إجماع دافوس. بالنسبة للوقت الحاضر فإن الأفكار لم تلحق بعد بالتحول الذي أصاب العالم الفعلي. في مهرجان العولمة لهذا العام، راحت الوفود تغني الأغاني القديمة، حول الأسواق المفتوحة والتكامل الدولي. ولكن هذه الأغاني لم تعد صادرة عن اقتناع حقيقي، ففي العالم الواسع خارج دافوس، أصبح الناس بصورة متزايدة لا يستمعون إلى تلك الأغاني.

وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .

المصدر: aleqt.com