التداعيات النفسية للأزمة المالية
ريتشارد فريدمان
انهيار
وانكماش ثم اضطراب فذعر... هذه العبارات والأوصاف بقدر ما تنطبق على
الأزمة الاقتصادية الجاثمة على صدر العالم، تنسحب أيضاً على التداعيات
النفسية التي يعاني منها المنخرطون في عالم المال، لاسيما هؤلاء الذين
طالتهم الأزمة المالية مباشرة، وقضت على استثماراتهم
وبالطبع، من السابق لأوانه قياس التبعات السيكولوجية للمحنة الاقتصادية
التي يرزح تحت وطأتها الأفراد والحكومات، ذلك أن الأمر سيستغرق وقتاً
قبل أن يتمكن الأطباء والأخصائيون من تأكيد حالات الاكتئاب، وما إذا
كانت في تصاعد مستمر. وفي هذا الإطار، زارني مؤخراً محلل مالي يعمل في
أحد صناديق التحوط التي كانت أولى ضحايا الأزمة المالية وهو في حالة
شديدة من القلق والاضطراب اعتبرتها عادية ومتوقعة، بل هي ردة فعل
مناسبة تماماً لما تعرض له بعدما فقد جزءاً مهماً من أصوله التي
استثمرها في السوق، وعلى غرار الجميع لم تكن لديه أدنى فكرة متى سينتهي
الانحدار المالي وتتوقف المأساة. والحقيقة أني كنت سأقلق أكثر على
حالته إذا لم يبدِ ردة فعله تلك التي أخذته من ضفاف الطمأنينة والأمان
وطوحت به إلى لجج الخوف والاضطراب.
وبعد بضعة
أسابيع من أخذه الدواء المضاد للقلق تحسنت حالته وتخلص من حالة الخوف
التي تملكته بعدما أدرك أنه يستطيع العيش، رغم محنته المالية. لكن بعد
مرور فترة من الزمن، زارني مرة أخرى في العيادة بادياً عليه الضيق
وتهالك على الكرسي قائلاً: "لقد تجاوزت مرحلة القلق، لكني أشعر بأني
إنسان فاشل"، علماً بأن من يتلفظ بهذا الكلام كان رجلًا يتمتع بثقة
عالية في نفسه ويُنظر إليه من قبل أصدقائه على أنه متفائل بالفطرة
والمشكلة مع المحلل المالي الذي طلب مشورتي ليست احتمال إصابته
بالاكتئاب طالما ظلت أنشطته خارج العمل على حالها مثل الأكل والنوم
والقدرة على الاستمتاع بالوقت، بل في ارتباط النجاح والإنجاز لديه
بالوضع المالي وتحقيق الربح. وبمعنى آخر لم يعرف المريض كيف يحقق
الشعور بالكفاءة والرضا عن النفس من دون اللجوء إلى معايير خارجية
لقياس قيمته. والواقع أنه لم يكن الوحيد الذي يعاني من هذا الشعور، حيث
تعرفت إلى مجموعة من الرجال يشتركون تقريباً في انهيار شبه تام لتقدير
الذات لديهم دون أن يقود ذلك إلى حالة مزمنة من الاكتئاب المرضي، وهو
ما لخصه أحدهم بقوله: "كنت ذلك الرجل الذي يعتقد أنه ملك العالم، لكن
الأزمة الحالية عادت بي إلى حجمي الحقيقي"واللافت أن النساء اللواتي
أعرف أنهن يعملن في القطاع المالي وعلى كافة المستويات لم يبدين أي نوع
من ردود الفعل النفسية التي شاهدتها عند الرجال، ومع أني لا أستطيع أن
أجزم بأن ملاحظتي هذه علمية، لكني أجدني أتساءل ما إذا كان الرجال أكثر
ميلًا من النساء للشعور بعدم الرضا عن النفس وفقدان الثقة. وبعيداً عن
أي تصنيف جنساني للموضوع يحق لنا طرح السؤال التالي: هل يعتمد الرجال
بشكل مفرط على العمل معياراً لتقدير ذواتهم أكثر من النساء؟ أم إنهم
فقط أكثر هشاشة عندما ينجرح الأنا لديهم بسبب الأداء الضعيف، أو فقدان
العمل؟
أحد المرضى
الذين قدموا إليّ هاله انعدام الثقة بنفسه وقلقه على السوق المالية،
فقد كان دائم الاعتماد على حدسه لخوض غمار المغامرة المالية
والاستثمار، لكن في أعقاب انهيار الأسواق بدأ يُسائل على نحو جدي
معرفته السابقة ومهارته الراسخة اللتين كانتا إلى فترة قريبة أبعد ما
يكون عن الشك. وفي جميع الحالات التي عرضت علي لاحظت شعوراً طاغياً
بفقدان السيطرة بسبب الانكماش الاقتصادي وعدم القدرة على قياس النجاح،
أو الفشل خارج معيار الربح المالي الذي لا يعرفون سواه
والحقيقة أنه من الصعوبة بمكان الحفاظ على مستويات معقولة من تقدير
الذات والرضا عن النفس في ظل غياب الاعتراف والمكافأة، بل أكثر من ذلك
إذا لم يشعر الشخص ببعض التراجع في الثقة أمام حالات الفشل فإنه إما
أكثر صلابة من التقلبات النفسية الناتجة عن الظروف الموضوعية الصعبة،
أو أن لديه مشكلة حقيقية في التساهل مع الأخبار السيئة والمبالغة في
التقليل من شأنه
وبالطبع، تكتسي العلاقة بين الرضا عن النفس والإنجاز بعداً جدلياً
واضحاً، ففي الوقت الذي يجادل فيه البعض بأن تقدير الذات لا يتحقق إلا
بالاعتراف الناتج بدوره عن الإنجاز، بحيث لا يشعر بعض الناس بالرضا إلا
بسماع كلمات الثناء والإشادة، يرى البعض الآخر أن الإنجاز هو نتيجة
المكافأة والثقة بالنفس، بحيث لا يتحقق النجاح ولا يأخذ الإنسان خطوته
الأولى إلا إذا كان واثقاً بنفسه وراضياً عنها
لكن،
بالرجوع إلى وول ستريت الذي يثير كل هذه المشاعر المختلطة نجد أن
النجاح والفشل ليسا مرتبطين بالضرورة بالقدرة الذاتية للشخص، إذ يستطيع
المرء التخفيف من الشعور بالمسؤولية في حال التعرض لأزمة، لكن ما
لاحظته مع ذلك أن فك الارتباط بين الرضا عن النفس والنجاح المالي لم
يخفف من الشعور بالمسؤولية لدى المرضى، لأن سنوات التوسع التي شهدتها
السوق المالية رسخت لديهم شعوراً قوياً بالامتلاك والسيطرة
ولعل
ذلك يرجع إلى الطريقة التي يتعامل بها الدماغ مع المكافآت الجزيلة غير
المتوقعة، فعلى غرار عناصر الإشباع القوية مثل المال تُـحدث المكافآت
غير المتوقعة تأثيراً أقوى من غيرها على طريقة استجابة الدماغ، لذا
تأتي ردود الأفعال على المواقف التي جاءت أفضل، أو أسوأ من المتوقع أشد
وأكثر حدة مقارنة بالمواقف العادية. وبمعنى آخر، يشبه السوق المالي إلى
حد كبير كازينو ضخماً للقمار، حيث يمكن للعطاء أن يكون جزيلاً، إلا أنه
في نفس الوقت غير متوقع، وبالنسبة للعديد من الأشخاص يشكل الاستثمار
المالي فرصة للحصول على أرباح غير منتظرة، والحال أنه عندما يذهب
الانتظار وتتبخر الفرص والأحلام يحل مكانها القلق والخوف.
*أستاذ
التحليل النفسي بكلية "ويل كورنيل" الطبية
وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر
المذكور نصاً ودون تعليق .
المصدر :alittihad.ae-
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"
هـ. الموافق 29 ديسمبر 2008 العدد 5558 الاثنين 01 محرم 1430
هـ. الموافق 29 ديسمبر 2008 العدد 555 |